أُمهات عراقيات .



ناهده محمد علي
2012 / 9 / 2

عُرف عن الأم العراقية النبل والشهامة والصبر , تجد نفسها منذ ولادتها محاطة بتبعات أكبر منها تنهمك في أعمال بيتها وبولاداتها المتكررة بعد الزواج , تصبر على أنواع من الإضطهاد الإجتماعي والزوجي وثروتها الوحيدة هي أولادها , ترعاهم ككنوز غالية , تجرف منهم العواصف السياسية والمعارك الأهلية والخارجية ما تجرف , وتلتهم هذه المعارك كنوز الأُمهات العراقيات , فتستمع الى عويلهن ثم الى أنينهن الصامت ولكي تحافظ على ما تبقى تبعث بهم بعيداً خارج الحدود , وهي صابرة ومنتظرة عودتهم بعد هدوء العاصفة لكن العواصف لا تهدأ في العراق , وتبقى الأم العراقية منتظرة قرب الباب ثم تتعب من الوقوف فتنتظر جالسة ثم تتعب من الجلوس فتغط في سبات عميق وهي تحلم بالعودة وحينما يقلبونها بناتها يجدون أنها ميته .
حينما عدت الى العراق بعد سنين طويلة من الفراق كنت على عهد مع والدتي , وكان حيّنا جميلاً تقام فيه أعراس كثيرة ومن كل عرس كان يُبعث لنا بـ ( شدة ملبس ) , تأخذ شكل أحد الثِمار , أعجبتني ذات مرة شدّة تأخذ شكل ثمرة الأناناس , طلبت من أُمي الإحتفاظ بها الى أن أعود لأجد شيئاً يذكرني بالماضي وأوصت أخواتي بذلك , إلا أنني حينما عُدت وجدت علبة الأناناس ولم أجد أُمي , كانت قد رحلت , وكان الدار غير الدار والوطن غير الوطن , وجدت رؤوس الناس بيضاء وشاخ كل شيء في شارعنا حتى النخيل .
أذكر إني كنت أُتابع على الفضائيات العالمية والعربية والعراقية القتل الجماعي والعشوائي المستمر وبعد كل إنفجار كنت لا أرى في الشوارع غير الأُمهات يخرجن من بيوتهن مهرولات بجنون منفوشات الشعر , صارخات محلقات في الهواء تارة وفي الأرض تارة أخرى يلتقطن بعيونهن الأشلاء وأي أشلاء , أشلاء كنوزهن الثمينة حيث قد تحصل على الشيء اليسير منها والذي قد يميتها في الحال . وتبقى الأم العراقية صابرة ووحيدة , تجدها في صفوف المُعوزات من طالبات الإعانة الإجتماعية والتي لم تحصل عليها أبداً أو بشق الأنفس .
تجد الأم العراقية في أسواق العراق يفترشن بضاعتهن القليلة أو قد تجدها تخبز الخبز وتوزعه على البيوت أو تحمل قناني الغاز بعربتها الصغيرة الى بيوت الموسرين أو ربما تتسول في الشوارع , وقد تجد أن هناك من يحاول أن يتاجر بهن لكنها تصر على العمل المُضني , وبعد نهار شاق وحار طويل تعود الى البيت لكي تقوم بمهامها الأخرى . وقد تقوم المرأة العراقية بأعمال إجتماعية هامة كالتدريس والتمريض والتطبيب لكنها تجابه دائماً بالقهر الإجتماعي والسياسي وخاصة البارزات في مهنهن فما أن تبرز واحدة أمام العيان إلا وتُجتث من جذورها كما حدث لمديرة مستشفى الولادة في الآونة الأخيرة , كما تعاني المرأة العراقية من صراخ البعض والدعوة لعودتها الى البيت وحجرها لصيانة شرفها وخاصة المطلقات الكُثر والأرامل الأكثر , وأعجب لهذا المجتمع الذي حرم المرأة من أولادها وزوجها ثم أخذ يطالبها بغلق بابها حتى لا يُتحرش بها , وأتساءل من يطعمها وأولادها الصغار وهي محجور عليها ثم كيف يُبنى المجتمع العراقي برجل واحدة ويد واحدة وهو محتاج الى الكثير من الأيدي والأرجل لبنائه .
لقد آن الأوان لكي تطمئن الأم العراقية على أبنائها من عسكرة المجتمع العراقي وصرف المبالغ الكثيرة لبناء جيش جديد وقد يتساءل القاريء ما الذي فعله الجيش القديم غير التحرش بالجيران , وما الذي سيفعله الجيش الجديد , بل يكفي هنا معاهدات حُسن الجوار والصداقة لكي تجعل الأم العراقية تهنأ بأبنائها ويستطيع المجتمع العراقي أن يبني حطامه بهدوء . إنما يحتاجه المجتمع العراقي هو إحتواء الآلاف من المتسربين من المدارس بسبب الفقر واللآلاف من الأمهات العراقيات اللواتي يعانين من الأمراض الخبيثة ويمتن رويداً رويداً بسبب عدم قدرتهن على دفع مصاريف العلاج وبسبب التلوث الذي يملأ أجواء العراق والذي يجب التخلص من أسبابه .
إن الأوضاع الصحية والنفسية للأم العراقية تحمل تداعيات كثيرة فبالإضافة الى الأمراض المنتشرة والخطيرة بين النساء والتي تشكل مظهراً واضحاً من مظاهر المجتمع العراقي هناك ايضاً الأمراض النفسية والعصبية المنتشرة بين النساء وخاصة المراهقات , فقد إنتشرت بين النساء الكثير من الأمراض النفسية مثل الكآبة والوسواس القهري وإنتشر تناول الحبوب المهدئة والمنومة بشكل ملفت للنظر كما إنتشرت الأمراض العقلية , فكثيراً ما تجد نساء يتجولن بلا هدى ساهمات وتظهر عليهن علامات القهر النفسي والجسدي والبعض منهن علامات الجنون يتجولن في الأسواق مثيرات للسخرية والضحك من قِبل البعض . إلتقيت مرّة في مركز علمي بإحدى الباحثات العلميات وسألتها عن أسباب هذه الظاهرة وما الذي تعرضت له هولاء النساء ليتحولن الى مخلوقات مزرية ومحزنة فأبتسمت ولم تستطع الجواب ولا أدري إن كانت هي الأخرى تحمل في حقيبتها حبوباً مهدئة .
إن الضغط الإجتماعي والسياسي على المرأة العراقية يفوق ما تعرضت له النساء في الحربين العالميتين , لأن المرأة العراقية قد فقدت مصداقيتها بسبب التلوث الحاصل في القيم المجتمعية فهي موجودة في كل أرجاء المجتمع لكنها غير موجودة , فهي كمدرسة أخذت تتلوث وتطلب الرشوة من الطالبات وهي كموظفة أخذت تبسط كفيها لكي تطلب المال من المراجعين , وهي كطبيبة أغفلت الكثير من التقدم العلمي والطبي ولا أعجب من هذا فهي جزء من المجتمع العراقي الذي لم يستطع أن يحل مشكلة الكهرباء ولا الماء الصالح للشرب ولا مشاكله الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية الأخرى , والحلول لكل مشاكل القاعدة المادية هي حلول معروفة علمياً ولا تحتاج إلا القليل من البديهية العلمية ولن يستطع العراق أن يحل مشاكله الإجتماعية وخاصةً مشاكل النساء والأطفال إذا لم يبن قاعدته المادية بناءاً متيناً .