المادية التاريخية للجنس – 3



هشام آدم
2012 / 9 / 17

(الجنس .. المرأة .. الإسلام)

ذكرنا في الجزء السابق من هذا المقال حجتين يعتمد عليهما عدد كبير من المسلمين في تبرير تحريم الإسلام للجنس خارج إطار الزواج، وهو ما يُعرف في الفقه الإسلامي بالزنا. ورغم أن التحريم القرآني لم يأت على ذكر أي حكمة واضحة أو محددة إلا أنه يطيب لكثيرين أن يعتمدوا هاتين الحجتين كحكمة لا يعتريهما الشك، والراجح عندي أن هاتين الحجتين لا يخرجان عن كونهما افتراضات غير ملزمة للإله نفسه. وعدد لا بأس به من المسلمين لا يحتاجون إلى معرفة الحكمة أو السبب من وراء تحريم أي شيء محرم لأنهم مسلمون، أي مستسلمون تمامًا لما يأتي به القرآن، فيكفي أن يحرم القرآن شيئًا حتى يقتنعوا بيقين بضرورة تحريم هذا الأمر دون الحاجة إلى التفكير في الحكمة من وراء هذا التحريم، كما هو الحال في تحريم أكل لحم الخنزير من غير اضطرار، فليست ثمة حكمة واضحة من وراء هذا التحريم على الإطلاق، ولكنهم ليسوا بحاجة إلى معرفة الحكمة، وهذه الفئة مرتاحة ومطمئنة تمامًا فهي لا تناقش ولا تسعى إلى البحث عن إجابات لأنهم لا يملكون أي أسئلة من الأساس، ولكن الغريب أن هؤلاء عندما تناقشهم في أمر كنشوء الكون عبر نظرية الانفجار الكبير (Big Bang) فإن السؤال الأول الذي يواجهونك به هو عن "سبب" الانفجار، ويقولون لك: "ليس هنالك شيء بدون سبب" وهكذا هي العقلية الدينية غالبًا، تعيش في سلسلة من التناقضات. في هذا الجزء الأخير من المقال سأحاول مناقشة هاتين الحجتين على اعتبار أنهما الحكمة الإلهية من وراء تحريم الجنس خارج إطار الزوجية كما يعتقد البعض.

(الجنس والأمراض الجنسية)
لا يمكن إنكار أن التعدد في الممارسة الجنسية قد يؤدي إلى الإصابة ببعض الأمراض الجنسية (التناسلية) الخطيرة، ولكن هذا لا يعني بالضرورة إلزامية حدوث ذلك من ناحية، وكذلك فإن الأمر هنا متعلق بشرط التعدد من ناحية أخرى. هذا الشرط الذي لا نجده متوفرًا في حالة تعدد الزوجات بالنسبة للرجال كما قالت صديقتي، وكانت محقة في ذلك. ففي الماضي كان يحق للرجل الزواج من أربع نساء بالإضافة إلى عدد غير محدود من الإماء والسبايا، فأين كانت هذه الحكمة في ذلك الوقت؟ وإذا حاولنا تطبيق هذا الأمر على زماننا هذا أفلا يمكن اعتبار التعدد (أربع زوجات) سببًا في الإصابة بالمرض؟ أم أن هذه الأمراض تنتج فقط عندما تتعدد المرأة في علاقاتها الجنسية وينتفي عندما يتعلق الأمر بالرجل؟ (هل لاحظ قارئي العزيز معنى وقيمة أن يكون الرجل أو المرأة موضوعًا للجنس؟!) أشتم رائحة ذكورية من وراء هذه الحجة، ولكن لا بأس دعونا نناقش الأمر حتى نهايته. تقول صديقتي أيضًا: "ماذا إذا اكتفت فتاة بصديق واحد وقررت ممارسة الجنس معه فقط؟" في هذه الحالة سوف ينتفي التعدد المسبب للمرض، فهل يمكن اعتبار هذا النوع من الجنس حلالًا؟ بالطبع (لا)، ويطل سؤالنا برأسه: "لماذا؟" وماذا إذا توفرت وسائل حماية من الأمراض، علمًا بأن هنالك وسائل متوفرة فعلًا للحصول على جنس آمن، وهذه الوسائل معترف بها من منظمة الصحة العالية، وتم إلزام بعض الدول بتوفيرها بأسعار مناسبة وفي متناول الجميع، وفي بعض الدول توزع هذه الوسائل في الأماكن العامة ودورات المياه العمومية مجانًا، لأنه من حق الجميع أن يمارسوا الجنس، ومن واجب الدولة أن توفر وسائل الأمان لتحقيق هذه الرغبة أو الحاجة. فأي حجة تتبقى بعد ذلك؟

إذا كانت فكرة التحريم قائمة على مبدأ درأ مشكلة، فإنه إذا ضمنا عدم حصول المشكلة فسوف يكون التحريم بلا معنى بعد ذلك، وبالتالي فإن عدم وجود حكمة للتحريم يعني تلقائيًا التحليل. قد يقول البعض إن هذه الوسائل ليست آمنة تمامًا ضاربًا بتقارير المنظمات الصحية الدولية عرض الحائط، فهل يعني عدم أمان هذه الوسائل اللجوء مباشرة إلى التحريم أم أن الواجب البحث عن وسائل تتوفر فيها نسبة أعلى من الأمان؟ لا يجب أن ننسى هنا حق الإنسان (ذكرًا كان أم أنثى) في الامتناع عن الجنس برغبته وإرادته الحرة (إن استطاع)، وهذا يعني أن تحليل الجنس خارج إطار الزوجية ليس ملزمًا بل مباحًا، يمكن فعله أو عدم فعله، وبصيغة فقهية يمكن أن نقول: لا يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله. وماذا إذا اكتشف الطب الحديث علاجًا جذريًا للأمراض الجنسية وأصبح علاج الأيدز والأمراض الجنسية ممكنًا وفي تناول الجميع، كما يتم معالجة الانفلونزا؟ هل سيبقى للتحريم أي معنى بعد ذلك إذا كانت الحكمة منه هو تسبب الجنس في الأمراض الجنسية؟ في مصر كان الأطفال يصابون بالهلارسيا القاتلة نتيجة سباحتهم في البرك المائية الضحلة (الترعة)، فهل من الممكن تحريم السباحة في الترعة لتسببها في الإصابة بالمرض، أم أن الواجب أن يكثف العلماء والأطباء أبحاثهم في اكتشاف علاج لهذا المرض ليساعدوا الأطفال على ممارسة حياتهم الطبيعية وقيادة حملات توعية صحية بأخطار المرض وكيفية الإصابة به والوقاية منه، وبيان ضرورة الإسراع بالكشف الطبي وأخذ الأمصال المقاومة للمرض قبل الخوض في البركة في السن المناسبة لذلك، لأن رفاهية الإنسان وتمتعه بالحياة هي أحد وظائف العلم؟

إن واحدة من سمات التشريع الإسلامي كما يشيع أهل الفقه والعلماء أنه صالح لكل زمان ومكان، والحقيقة أن هذا إدعاء خطير ومحرج للغاية، فربما يأتي زمان يصبح فيه الجنس آمنًا تمامًا لتوفر الوسائل الصحية المعينة على ذلك، فكيف سيكون التشريع صالحًا في هذه الحالة؟ والسؤال الأكثر تعقيدًا هنا: هل كانت الأمراض الجنسية معروفة في ذلك الوقت، أي وقت تحريم الزنا؟ حسنًا، يحلو للكثير من المسلمين أن يحيلونا إلى البحث وراء أسباب النزول لأن الآيات القرآنية غير منفصلة إطلاقًا عن سياقها التاريخي، ففي حالتنا هذه، هل كان الأيدز والزهري معروفان وقت تحريم الزنا؟ إذا كانت الإجابة (لا) فإننا سوف نعرف مباشرةً أن فكرة التحريم بسبب المرض ليس سوى حجة واهية ولا أساس لها من الصحة، وعندها يجب أن نبحث في التاريخ الإسلامي عن سبب واقعي وراء تحريم محمد للزنا. ثم إذا كان التحريم ناتج عن خوف المشرّع على الإنسان من التعرض للأمراض، وهي في هذه الحالة إبداء من المشرع لجانب عاطفي وغرض نبيل، ولكن كيف يمكن الربط بين هذا الدافع النبيل وبين العقوبة المتسمة بالعنف الذي يصل إلى حد رجم الزاني المحصن حيًا؟

(الجنس واختلاط الأنساب)
هنا رائحة الذكورية أكثر وضوحًا، فالحرص على عدم اختلاط الأنساب فكرة قديمة كما وضحنا سابقًا، وظلت هذه الفكرة مسيطرة على بعض الشعوب بينما تطورت لدى شعوب أخرى. وربما يحق لنا هنا أن نتساءل: "ما أهمية فكرة عدم اختلاط الأنساب بالنسبة لله؟" لماذا قد تهمه هذه المسألة بصفة شخصية إلى درجة التحريم؟ لقد رأينا فيما سبق أن فكرة النسب اكتسبت أهميتها من ذكورية الثقافة لدى المجتمعات البشرية، وما هو الغرض الأساسي منها، فهل الله ذكوري أيضًا ويهمه ألا يختلط النسب حرصًا على مصالح طبقة رجال الأعمال وأصحاب الأملاك؟ ولقد عرفنا في هذا المقال أيضًا الرابط القوي والاستراتيجي بين طبقة رجال الدين وطبقة رجال الأعمال والسلطة وكيف أنهما يخدمان بعضهما، وأن وجود أحدهما هو سبب في استمرار وجود الآخر، فكان من الضروري بل والحتمي أن يشرع رجال الدين قوانين تخدم مصالحهم الشخصية وفي الوقت ذاته تخدم طبقة رجال الأعمال والسلطة، لأن الوضع على هذا النحو لا يعني (بالنسبة إليّ على الأقل) إلا تحريم الجنس على المرأة على شكل أخص. لأن الرجل متاح له أن يمارس الجنس ليس فقط عبر الزواج، بل وعبر التعدد في الزواج وعبر السبايا وملك اليمين، وعلى هذا تبقى المرأة هي المتضررة الأولى من هذا التحريم لأنها سوف لن يتاح لها أن تمارس الجنس إلا مع رجل واحد هو بالتأكيد زوجها، بينما لا يكون ذلك بالضرورة منطبقًا على الرجل، وسوف يعتبر الكثيرون أن هذا أمر طبيعي للغاية وسوف يستغربون مناقشتي وانتقادي له (لأنك حين تعتاد العتمة يؤرقك الضوء)

إن فكرة تحريم الجنس خارج إطار الزواج بحجة عدم اختلاط الأنساب حسب المادية التاريخية للجنس هي فكرة لا تخرج عن إطار ذكورية المجتمع ذات الخلفية التاريخية القذرة والنفعية كما سبق، وإنه لمن المغزي أن يتبنى الله هذه الفكرة مجددًا. ولكننا نعلم أنه لا وجود لشيء اسمه الله وإن هو إلا فكرة بدأت بغباء العقلية البشرية الأولى، ثم جاءت طبقة من الأفراد واستغلوا هذه الفكرة لخدمة مصالحهم الشخصية، ولم يزل الأمر يسير على ذات النحو منذ تلك الحقبة وحتى اليوم، وإنه لمن المؤسف فعلًا أن يدافع المقهورون عن جلادهم ويقدموا له الحجج والتبريرات.

حسب المادية التاريخية للجنس فإنني أقول: الجنس كان ضحية لأدمغة مريضة ونفعية للغاية، استغلت السلطة الدينية التي ادعتها لنفسها وأراد بها التحكم بأفراد المجتمع، وقامت بتغطية الأعين بغشاء غليظ من الحرام والترهيب، ولكن إن فكرنا في الأمر بتجريد فإننا سوف نجد الأمر في منتهى البساطة. فليس ثمة أي معنى وراء ضرورة نسب الأبناء لآبائهم، لأننا نعرف أن هذه الفكرة جاءت في الأصل لإشباع رغبات محمد (نبي الإسلام) الذي أراد الزواج من زوجة ابنه بالتبني، وعندما استثقل الأمر شرّع هذا التشريع ليتمكن من الزواج منها، وهو ما دعى زوجته عائشة إلى انتقاد هذا الفعل بقولها إن الله يسارع في إرضاء رغبات زوجها الشهوانية. فسواء أكان النسب للآباء أم للأمهات فإن الأمر سيان لأنه ليس ثمة قيمة أخلاقية وراء ذلك، ولكن القيمة هنا قيمة اقتصادية بحتة وتقبع وراءها مباشرة قيمة ثقافية ذكورية فوقية للغاية.

الآن ثمة مجتمعات استطاعت تجاوز مرحلة العائلة الأبوية تمامًا، وأصبح الأبناء الذين ينتجون عن أي علاقة جنسية ينتسبون مباشرة إلى الدولة سواء أكانت العلاقة علاقة زواج أم غير ذلك، لأن هذا الأمر أصبح أحد واجبات الدولة الأساسية، وأصبحت نظرة هذه المجتمعات للقطاء وأبناء الزنا أقل حدة، فأصبح بإمكان هؤلاء الأبناء أن يحييوا حياة طبيعية كأقرانهم وأن يكونوا أفرادًا فاعلين في المجتمع. وبعض المجتمعات عرفت الزواج المدني، بل هنالك زواج المثليين أيضًا، فبدأت العائلة الأبوية بالاختفاء ليس بغرض محاربة الدين وإنما لأن عجلة التاريخ لا تتوقف أبدًا، ولأن الانتخاب الطبيعي له سطوته التي لا يكاد يعترف بها الكثيرون، ولأن نمط الإنتاج والحياة هو من يجبر الإنسان على تغيير القوانين وليس إرادة إله ما أو قوى غيبية ما تدعي بأن لديها معرفة مطلقة.

على الناس ألا تكبت رغباتها الغريزية متسببين بذلك في تشويه الوعي الإنساني السليم، ومستبدلين ذلك بمنظومة من القوانين الغيبية التي تأتي ضد الفطرة الإنسانية وضد الطبيعة ونقائها الأول، لأنه من العار أن نسير عميانيًا خلف من يخدعوننا من أجل مصالحهم ونصدق بأنهم يريدون الخير للبشرية والإنسانية رغم أن أبسط قواعد العقل تقول إن هذا الفعل هو ضد الفطرة. وأنا هنا أرفع شعار (الجنس للجميع) لأن ممارسة الجنس ليس حرامًا وليس عيبًا إلا من وجهة النظر الدينية، والدين والأخلاق لا علاقة لهما ببعضهما كما عرفنا سابقًا، فلا ضير أن يكون الأمر ضد الدين، شريطة ألا نخالف أخلاقنا أو نخرج عليها، لأننا نعرف الآن أن الدين كذبة كبيرة نشأ واستمر لأغراض محددة وقذرة. فهذا الشعار لا يعني أن نمارس الجنس في الشوارع وإلا أصبح الأمر انحلالًا أخلاقيًا، ولا يعني أن نعتقد أنه من حقنا أن نمارس الجنس مع من نرغب كيفما اتفق، لأن رأي ورغبة الشريك مهمة أيضًا في هذه الحالة، وإلا لأصبح الأمر اغتصابًا. وإنني لأرى أن خير وسيلة لمحاربة الدعارة هو بإشاعة ثقافة الجنس والدعوة إلى التثقيف الجنسي وإتاحة الفرصة لثقافة الجسد بأن تسود فلا تستشعر المرأة أو الرجل الخجل من أجسادهم، (هذا بالإضافة إلى سلسة من الإصلاحات الاقتصادية التي من شأنها أن تسرع باختفاء ظاهرة الدعارة)

إن شعار (الجنس للجميع) لا أشهره فقط في وجه رجال الدين فحسب، وإنما في وجه حكومات الدول العربية والإسلامية، وهذا لا يعني بالضرورة أن يطالب المواطن بحقه في الجنس عبر توفير الرجال للنساء أو النساء للرجال، وإنما عبر إطلاق سراح أجسادنا وعقولنا من منظومة القوانين التي شوهت الجنس وشوهت نظرتنا له. وعبر المطالبة بإلغاء القوانين المقيدة للحريات العامة والتي من شأنها أن تنعكس سلبًا على حقنا في ممارسة الجنس وعلى نظرتنا للجنس كقانون منع الاختلاط بين النساء والرجال في الأماكن العامة وفي المدارس، وكافة القوانين التي من شأنها أن تخلق أي شكل من أشكال التمييز الجنسي بين الذكور والإناث. فلترفعوا معي شعار (الجنس للجميع) من أجل مجتمعات إنسانية مبدعة ومتعافية من العقد النفسية وكافة أمراض الدين، لأن الدين هو أصل الشرور كما قال ريتشارد داوكنز، فهو كان المتسبب في تشويه صورة الجنس الذي هو غريزة طبيعية لدى كل كائن حي، وأحد أسراره المتفردة والنبيلة.