حراك العِفّة ،، وبرج الساعة



لينا جزراوي
2012 / 12 / 27

أثار الفيلم الذي أنتجته طالبات في الجامعة الاردنية ويتناول ظاهرة التحرش الجنسي، ردود فعل كثيرة، فأيهما الذي يهدد مجتمعنا، تناول المشاكل بجرأة أو السكوت عنها؟

فاجأتني ردة الفعل تجاه الفيلم العلمّي الجريء الذي أنتجته طالبات في الجامعة الأردنية أثناء دراستهن لمادة “نظرية نسوية” بإشراف د. رولا قواس، حول ظاهرة التحرّش الجنسي، وما تلاه من دعوات لوقفات احتجاجية ضِدّه تحت عنوان (الحفاظ على العفّة)، والمُطالبة بايقاف الفيلم، بحجّة أنه يخدش الحياء العام.
ربما لو أتيح لهذا المقال ان يرَ النور بعد الوقفة الاحتجاجية مباشرةً، لكان وقع الكلام أثقل وزناً وأخفّ لباقة مما سأكتبه الآن، بعد أن انفضّ الجمع الطيّب عن عدم اصدار أي بيان أو تصريح، يُطالب فيه باجراء رادع ضدّ المُتحرّشين في رحاب جامعتنا الأردنية.
ولهذا آثرت أن انتظر بعض الوقت قبل الكتابة، حتى لا أكتب تحت وطأة ردّة فعل، على الرغم من الاستفزاز العظيم الذي قادني اليه هذا الحِراك، فثمّة من هم حريصون على سمعة جامعاتنا وعِفّة بناتنا ولهم كلّ الاحترام، لكنهم بالنسبة لي ليسوا أكثر من مُصادرين لحرّيات الرأي والفكر و التعبير، ومُقدسّين لثقافة الصّمت، في مكان يُفترض أن يكون صرحاً من صروح ممارسة هذه الحُرّيات، يُصادرون الحقّ بالدفاع عن أنوثة تُنتهك كل يوم، على مرأى ومسمع من المُجتمع.
فحملة تحت عنوان الحفاظ على العفّة، كانت كفيلة بأن تُخرجني عن طوري، وتهوي بي الى زمن ماضٍ، لم يعُد يذكره التاريخ، زمن الوأد والرّق والعبودية، ليس – حاشا للّه- لأني ضدّ مُحافظة الفتاة على عفتها، بل لأن جسد المرأة العربية والأنثى في مجتمعنا له عدّة استخدامات.
فعدا عن استخدامات هذا الجسد المُتعددّة، من تشريع للقوانين، مرورا بالتعبير عن هُويّة ضائعة، وصولا للرّد على الأيديولوجيات السياسية المُختلفة، فان هذا الجسد يُستخدم أيضا كأداة لترويج قيم الحِرص، على المُجتمع وأخلاقياته، وكأن بناتنا، لا سمح الله، غير حريصات على هذه الأخلاقيات، وكـأن عِفّة الوطن وكرامته، لا علاقة لها بعفّة الأنثى وكرامَتها، دون أن يعترفوا بأن ما يُهدّد عفّة الأنثى في بلدنا، هي تلك المنظومة الثقافية السائدة، و التي تُمارس التمييز ضدها، منظومة ثقافية تُمجّد ثقافة الصّمت، و تُبارِك ثقافة العيب، خصوصا عندما يتعلّق الانتهاك بالأنثى وجسدها، ثقافة تحيل ذلك إلى شكل جديد من أشكال الوأد للمرأة، هو وأد العقل ووأد الفكر، وهو وأد أشد دهاءً وخطورة من وأد الجسد.
لقد خدش حياء رافضي الفيلم، أن يقرأوا ويرَوا بأم أعينهم ما يحدُث في مجتمعنا، فرفضوا جرأة البنات في التعبير بكل شجاعة عن ما يحدث داخل أسوار الجامعة، فتجاوزوا الألفاظ النابية التي تُوجّه لبناتنا في الجامعات، وخدَش حياءهم، وغضبوا من قول الحقيقة بينما لم يخدش حياءهم سلسلة القوانين التي تُمعن في رمي عفّة قتياتنا في القُمامة، عبر قانون لا يُعفي المُغتصب من جريمته؛ بل ويكافؤه عليها اذا تزوج بضحيّته!.
كما لم يخدش حياءهم أنّ الحجاب والنقاب لبناتنا لم يحصّنهن من التحرّش، لأن عيونهم أصبحت فتنة تُغري الناظر اليها، وقد نسمع قريبا عن فتوى لاقتلاعها.
كلّ تلك حقائق تخدش حيائي يوميا، لكن أكثر ما خَدش حيائي، هو التّشهير بأكاديمية محترمة، يشهد لها تاريخها في العمل الأكاديمي، والنضال النسوي، بعفّتها، وتميّزها وأخلاقَها، لتُتّهم بأنها تُحرّض ضدّ العفّة فنخرج من خطر الحفاظ على العِفة، لمشكلة أخطر، هي التشهير بأكاديمينا المحترمين.
فاذا كانت تلك الألفاظ النابية التي تُرمى كل يوم على مسامع بناتنا، قد أزعجت البعض وصدمتهم، فما بالكم تأثيرها على بناتنا أنفسهن؟! نعم هذه هي الألفاظ التي تُطلَق على مسامعنا كلّ يوم؛ في الجامعة، في الشارع، في باصات المواصلات وفي كلّ مكان. فهل يكون الحل بمنع بناتنا من الذهاب الى الجامعات، لارتكابهن أعظم جريمة في التاريخ، وهي أنهنّ خُلِقن اناث؟! أم أن نستحدث اجراءً تأديبيا حازما يحدّ من هذه الظاهرة؟، أم أننا مجتمعات تمجّد الصمت، وتؤثر الانسحاب على المُواجهة؟.
ان حلّ مشكلاتنا، لا يكون بالتستّر عليها واعتماد ثقافة النّعامة، بل بفضحها واعلانها أمام المجتمع، فإن لم يكُن هدف العلم والبحث للعلوم الانسانية، هو تَعرية المجتمع وكشف بواطنه وخفاياه، فما العلم الذي نحن بصدده اليوم؟ أليس التستّر على المُمارسات الشاذة والخارجة عن مجتمعنا يسمح لها بالتفشّي؟؟
أيّة قيم مُزيّفة نُعلّم أبناءنا؟!
ما قيمة العفّة بدون حِماية، وما قيمة الأخلاق بدون حِصن مَنيع، وما قيمة العلم بدون حُريّة، وما قيمة الحُريّة بدون فِعل، وما قيمة الحقّ بدون مُطالب، وما قيمة القانون بدون تطبيق، وما قيمة الاتفاقيات الدولية بدون التزام؟! ثم نقول أننا نحمي مُجتمعنا!!

ما قامت به الدكتورة القديرة رولا قوّاس هو تعرية المجتمع وكشف وجهه المخفي، لكننا شعوب لم تعتَد رؤية الحقيقة بدون عمليات تجميل، فامرأة قويّة، واثقة من نفسها، حُرّة، تعرف حقوقها وتدافع عنها، نموذج لن يتحقق الّا بصرخة ضدّ الظاهرات التي تنتهك كرامتها وأنوثتها. الفيلم كان انتصاراً لكرامة المرأة الانسان، أزاح الضباب، واخترق التابوهات، وحاور في المحظورات، لقد آن الأوان اليوم لتعيش المرأة الأردنية حياة كريمة، تخترق الحواجز، وتكسِر أصنام المُجتمع وتلفُظ ثقافة صمتٍ تُمارس ضدّها عند مطالبتها بحقوقها، لكن ثمّة من لا يريد للمرأة أن تخرج من العتمة الى النور، وتستخدم أدوات التغيير التي يَستخدمها غيرها.
بناتنا حريصات على عفّتهن، بالاخلاق والمبادىء التي نشأن عليها، وعلينا أن نمتلك الجُرأة لتلقّي صفعة الحقيقة، مهما كانت مؤلمة.