الموضة والقيم الذكورية



عائشة خليل
2013 / 1 / 26

تصرف النساء الكثير من المال، ويمضين الكثير من الوقت، ويبذلن الكثير من الجهد في تتبع خطوط الموضة، وآخر ما أنتجته دور الأزياء العالمية من ملابس وإكسسوارات ومكياج وخلافه. فمن المجلات، إلى البرامج التلفزيونية إلى المواقع الإلكترونية تتطور وسائل استقبال المرأة لآخر الصراعات العالمية، ويبقى الهدف واحدًا: المحاكاة. ولقد حيرني هذا الأمر كثيرًا، فلم أفهم تتبع النساء للموضة ومحاكاتهن إياها. فحتى التفسير المادي للظاهرة (أن الأمر يتعلق بتجارة تقدر بمليارات الدولارات، تبذل لقاءها ملايين الدولارات في الدعاية) لم يقنعني. فمحاصرة الدعاية لحياتنا أمر بات عاديًّا ولا يلفت انتباه الشخص إلا أمر يعنيه، فلن أنظر مثلا إلى الدعاية عن ملابس أطفال إن لم أكن أمًّا لأطفال صغار. ومعنى هذا أن النساء يبغين تتبع خطوط الموضة وتُرَغبُهن الإعلانات في الشراء. فما الذي يدفع النساء للهاث وراء خطوط الموضة وبذل الجهد والمال والوقت في أمر يتغير من موسم إلى آخر؟ لابد لنا أن نلتفت إلى المجتمع الذكوري الذي يشيء المرأة، ويجعل منها ساحة للتنافسية الذكورية.
ففي المجتمعات البطريركية "يعمل الرجال، وتظهر النساء" فالمرأة ليست مطالبة بالعمل خارج إطار المنزل بل بالظهور في أتم زينة. ولذا تصمم ملابس الرجال لتبدو ملائمة للعمل: فالسروال أكثر ملائمة للعمل من التنورة، والكعب المنخفض ييسر الحركة ويسهلها. حتى مظهر الملابس الرجالية بالجيوب المتعددة تؤطر الرجال وكأنهم في حالة من العمل دائم. وعلى العكس من ذلك، فملابس النساء تظهر النساء وكأنهن لا يعملن: فالتنانير، والكعب العالي، والإكسسوارات، والمكياج ليست فقط معيقة للعمل، ولكنها تشير إلى عدم عمل النساء. ومن هنا نفهم سر بذل الرجال للمال كي تبدو النساء في أتم زينة وتظهر بمظهر من لا عمل له. فالمرأة واجهة يعكس الرجل عليه ذكورته: فهو من ناحية يظهر مدى الترف المادي لديه والمنعكس في كلٍّ من تمام زينتها، وفي عدم عملها (أي أن لديه القدرة المادية فهو لا يحتاج إلى النتاج المادي لعملها خارج المنزل) ومن ناحية أخرى يظهر فوزه بأجمل النساء وأتمهن زينة مما يعزز من مكانته الذكورية بين أقرانه. ولعل حفل الزفاف هو التطبيق الأبلغ لهذه الظاهرة، فالمبالغة في طقوس الزفاف بين أفراد المجتمع لا تفسرها سوى الرغبة في استعراض المال (المكانة الذكورية لوالد الزوج) واستعراض العروس ( المكانة الذكورية للزوج) كما يتنافس المدعوون على إظهار مكانتهم الذكورية فتبدو النساء في أتم زينة.
ولا عجب إذن أن يقول المثل السائر "كل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس" فما يظهر للناس هو ما يحدد المكانة الاجتماعية بين ذكور يتنافسون بينهم على حوز مكانة رفيعة في مجتمع استهلاكي - يُعلي من شأن الاستهلاك ولا يلتفت كثيرًا للعمل كقيمة - وتكون المرأة هي الساحة لهذه التنافسية. ولأنه من شبه المستحيل أن تقنع إنسانا بأن يخوض غمار منافسة لا ناقة له فيها ولا جمل، يقنع المجتمع البطريركي النساء أن التنافس على الأزياء والملابس والمظهر هي معركة نسائية بامتياز ، فتخوض فيها النساء بجد بعد أن يستبطن القيم التنافسية الاستهلاكية. وتكون للأكثر إناقة فيها قصب السباق فيصب على مسمعيها كلمات الإطراء، وقد يعترف بقدرها كالأكثر أناقة أو جمال، وفي المقابل يعاقب المجتمع من لا تنخرط من النساء في مثل هذا السباق الاستهلاكي. فمن الهمس وراء الآذان، إلى التلميحات الجارحة تُوصم من لا تتبع السباق بأنها "دقة قديمة" أي متخلفة، ويشار باستهزاء للحديث عن الجمال الداخلي فيوصف بأنه "قصر ذيل". وعلى عادة المجتمع البطريركي في إعادة إنتاج نفسه، تربى الفتيات منذ نعومة أظافرهن ليولين اهتماما متزايدا للعناية بمظهرهن الخارج، والالتفات لما تقوله "خبيرات" التجميل والأناقة، ويتم تحذيرهن إلى أنهن لن "يفزن" بالزوج الملائم ما لم يولين اهتمامهن للأناقة والموضة.
وهكذا ينخرط المجتمع في تنافسية استهلاكية تدار ساحتها على زينة المرأة، يكون الدافع الرئيسي فيها هو المكانة الذكورية، ووقودها جهد المرأة في إبراز تفوقها في مجال الموضة والتجميل. ويعاد إنتاجها من خلال تعليم الأجيال التالية على استبطان تلك القيم الاستهلاكية بل وتوقعها.