|
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
|
خيارات وادوات |
شريف حتاتة
!--a>
2002 / 10 / 16
"عندما جاءنا الرجل الابيض كنا نمتك الارض و كان
هو يملك الانجيل، و الان يملك هو الارض ونملك نحن الانجيل- جومو
كينياتا" كانت كتابات قاسم امين حول ما اسماه هو "تحرير المرأة" نتاج لنمو البرجوازية
المصرية خلال القرن التاسع عشر. و احتياجها الى اسرة جديدة اكثر تفتحا تستطيع ان
تواجه مجتمعا متغيرا شملته بعض مظاهر التحديث. الى امرأة متعلمة قادرة على تربية
الاطفال. و تلبية الاحتياجات الخاصة لرجل لم يعد خاضعا تماما للنظرة الابوية
الاقطاعية القديمة، و على العمل في المجالات التي اخذت تنفتح امامها في الخدمات و
التصنيع. كانت تعكس التاثير الاوربي و بعض اتجاهات التنوير جاء بها الاستعمار
القديم و كانت نتاجا لمرحلة من مراحل تحديث المجتمع المصري، حتى ان تعثرت و اصابها
التشوية، مرحلة مرتبطة بعصر الحداثة الذي افتتحته البرجوازية الاوربية، و تقدمت به
عن طريق الصناعة اليدوية، و التراكم الرأسمالي و التصنيع. فكر ما بعد الحداثة
بين التوحيد و التجزئة في نهاية سنة 1992 سافرت الى الولايات المتحدة
لاعمل استاذا زائرا في جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا. كان التعاقد لمدة سنة لكن
العقد تجدد لابقى في الجامعة مدة أربع سنوات.
امتدت مرحلة التحديث
في مصر، و العمليات المتعلقة بها سنين طويلة. تتقدم احيانا، و تعود الى الوراء او
تتغير احيانا، و انعكست في مجالات الاقتصاد، و الاجتماع، و الثقافة، و الفكر و كان
من الطبيعي ان تشمل اوضاع المرأة ايضا. لعب فيها عشرات المثقفين، و المفكرين دورا
بارزا يمكن ان نذكر منهم رفاعة رافع الطهطاوي، و جمال الدين الافغاني، و الشيخ محمد
عبده، و محمد فريد، و لطفي السيد و قاسم امين و علي عبد الرازق، و طه حسين و
غيرهم قاوموا الفكر الذي سيطر على اغلب المؤسسات، و الهيئات السياسية، و الثقافة
الرسمية و غير الرسمية بفعل سيطرة الاستعمار الذي اراد ان يحاصر عمليات التحديث في
الحدود التي تخدم مصالحه، و بسبب نفوذ القوى السلفية و الاتجاهات شبه
الاقطاعية المسيطرة على المجتمع، ساهموا مساهمات محدودة الى حد كبير في تغيير
النظرة الى المرأة. و كان ابرزهم في هذا المجال قاسم امين. و في الوقت نفسه
قام عدد من النساء بجهود لتغيير الفكر و الاوضاع المتعلقة بالمرأة و من بينهن
مي زيادة و زينب فواز و هدى شعراوي.
استمرت هذه الجهود في اجيال ما بعد
الحرب العالمية الثانية و خلال ثورة 23 يوليو سنة 1952 و بعدها بفضل عدد كبير من
المثقفين الذين ارتبطوا بانبعاث الحركة الوطنية الديمقراطية بعد الحرب. و مع اتساع
الحركات الاجتماعية للنساء بدأت النساء تتحمل العبء الاساسي في قضية التحرير
المتعلقة بها، و توارى الرجال بعيدا عن هذا الميدان. و هذا امر طبيعي. فلا احد يحرر
الاخر. المرأة هي التي تحرر نفسها. و في سياق هذه الحركة الاجتماعية النسائية
الصاعدة بشكل عام برزت اسماء مثل درية شفيق و نوال السعداوي.
عصر جديد:
و
لكن العالم انتقل الى عصر جديد ارتبط بالتطور الرأسمالي الاخير الذي اصطلح على
تسميته بالكوكبة او العولمة. و ارتبطت الكوكبة الرأسمالية بثقافة و بفكر جديد اطلق
عليه فكر ما بعد الحداثة، اي بفكر انتقل من الحداثة الى ما بعده.
و في ظل
الترابط المتزايد للاقتصاد العالمي الناشيء عن ظاهرة الكوكبة، في ظل سوق واحدة تمتد
من الغرب الى الشرق و من الشمال الى الجنوب، و ثقافة عالمية تنشرها وسائل الاعلام،
و الاتصال المتطورة على نطاق يتسع باستمرار و له قدرات غير عادية في التاثير على
الاف الملايين من الناس انتقلت قضايا المرأة الى طور جديد. تبدل المناخ الاقتصادي و
الاجتماعي و الثقافي الذي يحيط بسعيها من اجل وضع اكثر عدالة و حرية في مجتمع
ما زال يفرض عليها قهرا طبقيا، و ابويا شديد الوطأة. وتعمق الترابط بين قضاياها و
بين الوضع العالمي، بين " تحرير المرأة" وفقا بتعبير قاسم امين و الفكر الجديد لما
بعد الحداثة.
لذلك لا يمكن فهم ما يحدث في بلادنا، و في منطقتنا العربية فيما
يتعلق بالمرأة، لا يمكن فهم ظاهرة الاصولية او السلفية الدينية، و مالها من تاثير
على اوضاع المرأة اذا عزلناها، و فصلناها عن عملية الكوكبة الرأسمالية، وثقافة
السوق العالمي الواحدة، او عن فكر ما بعد الحداثة الذي اطلق عليه فردريك جاميسون"
وصف" ثقافة الرأسمالية في طورها الاخير".
الهدف الاساسي من هذه الورقة اذن ليس
الحديث عن اثر الاصولية، او السلفية الدينية، اسلامية كانت ام مسيحية او يهودية على
حياة المرأة في بلادنا و في المنطقة العربية، على تقدمها، او تخلفها، و على حقوقها
كانسان و نحن نقف على اعتاب القرن الواحد و العشرين، فهذه مسالة كتب عنها الكثير و
لن استطيع ان اضيف اليها جديدا. كما اننا نعيشها في حياتنا العامة و الخاصة. و في
كل التفاصيل. الهدف هو محاولة القاء الضوء على العلاقة القائمة بين وضع المرأة في
مجتمعنا، و ضغوط السلفية الدينية، على حياتها و حقوقها، و دورها في المجتمع. و بين
الكوكبة الرأسمالية. وفكرها ما بعد الحداثة. فالكثيرون يظنون ان هذين الاتجاهين، اي
السلفية الدينية من ناحية، و ما بعد الحداثة من الناحية الاخرى متعارضتين. و الظاهر
الذي نعيشه كثيرا ما يوحي بذلك اذا لم نتعمق في المسائل اكثر مما تعودنا
عليه. فلعل التغلغل اكثر في جوهر ما يحدث حولنا اليوم يقودنا الى استنتاجات
مختلفة. الى قدر اكثر من الفهم لما يحدث في مجال المرأة، و في حياتنا عموما،
و الى البحث عن وسائل اكثر لمواجهة العقبات. و المخاطر التي نتعرض لها في هذه
المرحلة من مراحل تاريخ الانسانية.
وجدت نفسي في قلب الحوارات التي
كانت تدور حول ظاهرة الكوكبة و الثقافة المرتبطة بها، و حول مفكري ما بعد الحداثة
امثال ميشيل فوكو و جاك ديريدا و بارت و جوليا كريستيفا. لكن وجهة نظر بلاد الجنوب،
و منها البلاد العربية كانت غائبة على الاقل في هذه الجامعة فاثيرت في ذهني
تساؤلات، حاولت ان اجيب على بعضها في ورقة قدمتها الى المؤتمر الذي عقد فيها خلال
شهر اكتوبر سنة 1996 تحت اسم "الثقافة والكوكبة" كان عنوان هذه الورقة "الدولرة،
والشرذمة والله" نشرت ضمن كتاب صدر عن المؤتمر من دار نشر جامعة ديوك سنة
1998.
و عندما عدت الى مصر في اواخر سنة 1996 وجدت تاثيرا واضحا، لبعض افكار ما
بعد الحداثة في كتابات عدد من "المفكرين" المصريين، بل و استنساخها بدون دراسة
نقدية لمحتواها باعتبارها ظاهرة مرتبطة بعملية الكوكبة الرأسمالية، و التوسع في
السوق العالمية الواحدة. بدا لي انها تتسم بكثير من الخلط، و التضارب و الفقدان
للنظرة الشاملة التي تربط بين الاجزاء و تتداخل فيها العوامل الاقتصادية، و
الاجتماعية، و الثقافية لظاهرة الكوكبة في علاقتها بواقعنا نحن المتخلف.
و
بالطبع فان هذه الورقة لا تستهدف معالجة ظاهرة العولمة او الكوكبة. فهذه ليس
موضوعها. لكن الفكرة التي اريد ابرازها هو انه في عالم اليوم المترابط الاجزاء يصعب
دراسة ظاهرة الاصولية الدينية في علاقتها بالمرأة بمعزل عن ظاهرة العولمة. و ليس من
باب الصدف ان ما يسميها البعض "بالصحوة الدينية" التي يشكل فيها انتشار نفوذ
الحركات السلفية احدى مظاهرها تقترن بمرحلة سقطت فيها الانظمة التي كانت سائدة في
الاتحاد السوفيتي و شرق اوربا، و بعولمة الاقتصاد الرأسمالي الذي تلعب فيها
الولايات المتحدة دور القطب البارز الى حد كبير.
ففي عصرنا هذا حدث تغير شامل
على نطاق العالم كله. اصبحنا نعيش في ظل عالم يخضع لنظام واحد شمل جميع اجزائه.
لذلك رغم الفروق، و الخصائص المحلية لكل بلد فقدت العلاقات الاساسية الحاكمة
للمجتمع طابعها المحلي او القومي او الاقليمي او هي في طريقها الى فقدانها. اندمجت
في عملية الكوكبة او العولمة المبنية على وجود سوق عالمي واحد. فلم يسبق في التاريخ
ان شهد العالم تلك الدرجة من التمركز، او التركيز في رأس المال الذي يشهدها اليوم،
و لا ان سيطرت عليه مثل تلك القلة من الدول و الافراد و الشركات التي تسيطر عليه
الان.
هذا التجميع الهائل لرأس المال بين ايدي القلة الضئيلة سمحت به الثورة
التكنولوجية الحديثة و على الاخص في مجال الاتصال و الاعلام و ادى الى ظهور الشركات
العملاقة المسيطرة على العالم، اي الشركات العابرة للاوطان التي تسيطر خمسمائة منها
على 80% من الاستثمارات و التجارة العالمية. و قد ترتب على ذلك انه في سنة 1998 كان
هناك 443 فردا يملكون ثروة تعادل اكثر من نصف ما يملكه سكان العالم.
لا
يمكن ادراك ما يحدث في مجال الثقافة، و الفكر، لا يمكن فهم ظاهرة انتشار
الاتجاهات السلفية الدينية في بلادنا، وعلى نطاق العالم الا اذا وضعنا في اعتبارنا
ما يحدث في مجال البناء الاقتصادي المسيطر على حياتنا، فالثقافة و الفكر رغم
تمتعهما بقدر من الاستقلال عن الواقع المادي، والقدرة على تجاوزه و تغييره
الا انهما يظلان متأثرين الى درجة كبيرة بالظروف و العلاقات الاقتصادية و
الاجتماعية السائدة في المجتمع، و تعبيرا مباشرا او غير مباشر عن المصالح المتصارعة
المهيمنة عليه. و هذا ينطبق بالطبع على الثقافة و الافكار التي تتعلق بوضع المرأة،
و بالخطاب الذي يحيط بها. ان اردنا استخدام اللغة التي تستخدمها مدارس ما بعد
الحداثة، و منها الخطاب الاصولي.
وفي هذه المرحلة اذا نظرنا الى ما يحدث في
مجتمعنا يمكن ملاحظة اتجاهين اساسيين يبدو و كأنهما يتصارعان ثقافيا و فكريا في
موقفهما من قضايا المرأة. الاتجاه التحرري التحديثي الذي تغلغل في مجتمعنا
أتيا من الغرب الرأسمالي، والذي انتقل الى مرحلة جديدة نسميها مرحلة ما بعد
الحداثة. و الاتجاه السلفي الديني بمختلف تفرعاته الذي يدعي انه نابع من تراثنا
الاسلامي، و يتخذ موقف العداء الثقافي للافكار التحررية المرتبطة بمجتمعات الغرب، و
يسعى الى مقاومتها، و خصوصا فيما يتعلق بالموقف من اوضاع المرأة و دورها.
هناك
بالطبع موقف ثالث مستقل ازاء قضايا المرأة ينبع من تجربتنا، و يحاول ان يبني جهوده
على تاريخ الاصلاح التحديثي في بلادنا، و على نضال المرأة المصرية الطويل من اجل
حقوقها، كما يسعى الى فهم لتطورات العصر، و الاستفادة منها لكنه ما زال يشق طريقه
بصعوبة، و يعاني مقاومة شديدة مصدرها التياران اللذان يحتلان الصدارة في بلادنا،
حتى و ان كانت له جذور كامنة في القوة الاجتماعية التي تؤمن الى درجات مختلفة
بالتيار العام للتحديث بمختلف تفرعاته لكنها تعاني من الصمت، و الحصار المضروب
عليها. هذا التيار هو استمرار للتراث الوطني الديمقراطي في بلادنا.
السوق العالمي و جسد المرأة:
تسعى
الشركات العابرة للقارات الى تدعيم سيطرتها على السوق العالمية، و توسيع نطاقها، و
جعلها سوقا واحدة بلا عوائق تحول دون حركتها الحرة. و تصبح مهمة هذه الشركات في فرض
هيمنتها، و كوكبة السوق اكثر يسرا اذا ما استطاعت ان تحمل الاف الملايين من الناس
في كل البلاد على الاقتناع بالقيم و العادات و الافكار التي تخدم اغراضها، وعلى
تبني السلوك الذي يسهل لها تحقيق مصالحها على نطاق العالم.
والثقافة يمكن ان
تساعد على تمهيد الطريق امام الشركات العابرة للاوطان، و كوكبة عملياتها، ان تساعد
على اختراق بل و ازالة الحواجز الاقليمية و الوطنية و الفكرية والنفسية التي تعرقل
امتداد نشاطها الى كل البلاد. و في الوقت نفسه الثقافة يمكن ان تضعف، او تعطل، او
تحاصر او تقسم مقاومة الناس الذين لا يستريحون الى ما يحدث لهم، و لا يتوقفون عن
التفكير بمصيرهم، و لا يعتقدون ان الامور سائرة كما يجب، فيظلون يعارضون و يقاومون
زحف الشركات العابرة للاوطان، و مشاريعها، وسياساتها بمختلف الطرق. يمكنها ان تضع
قيودا على العقل، والبدن و تجعل الناس يستسلمون لما يبدو و كأنه مصيرهم لا سبيل الى
تغييره.
وفي ايامنا هذه تتمتع الثقافة بوسائل اعلامية لم يسبق ان اتيحت لها من
قبل، وسائل قوية، متطورة قادرة على اجتياز الحدود، و الوصول الى كل مكان لتصبح
فاعلة في الحياة العامة و الخاصة للناس. ان شانها شأن النشاط الاقتصادي موضوعة في
خدمة الشركات العابرة للقارات لتصنع السوق الواحدة، عن طريق اشاعة العقلية، و
الثقافة الاستهلاكية على اوسع نطاق ممكن حتى تبيع هذه الشركات منتجاتها، وحتى تخلق
احتياجات جديدة عند الناس لم تكن عندهم في السابق فيزداد الاقبال على شراء و اقتناء
السلع.
و هذا يتطلب صنع ثقافة معينة، ثقافة استهلاكية قائمة على مجموعة من
القيم و العادات و الانماط السلوكية. على نظرة للحياة تؤمن بان النجاح، و
التحضر، و التقدم مرتبط بالاشياء المادية التي يقتنيها الانسان، قائمة على جعل هذه
النظرة، و هذه القيم جزءا من التركيب العقلي و الوجداني للناس في كل البلاد، ليصبح
مقياسهم ازاء الخير، و الشر او الجمال او القبح، او الفشل و النجاح، ازاء ما يجلب
السعادة، او يقود الى الاحباط و الحزن هو قدرتهم او عدم قدرتهم على استهلاك
الماديات اي السلع المتاحة في السوق.
في هذا السباق نحو الاقتناء تصبح
الملذات البدنية المؤقتة مهمة. فهي تشجع على الاستهلاك و تتجدد باستمرار. و في هذا
المجال يلعب الجنس دورا بارزا، و تتحول المرأة الى اداة للاغراء، و اللذة الجنسية.
الى وسيلة لزيادة الاستهلاك و تشجيعه. و تتحول من منتجة الى مستهلكة تتسكع امام
واجهات المحلات.
هكذا يصبح الرجل الذي يملك سيارة حديثة فارهة رجلا ناجحا في
نظر الناس. او الذي يرتدي ساعة"رولكس" عصريا يقدر قيمة الوقت. و تصبح المرأة التي
تصبغ وجهها بالمساحيق، او ترتدي ثوبا يكشف عن سرتها جذابة للرجال، و يمكن ان تباع
في سوق الزواج بسعر عال. يصبح المهم في الحياة هو القدرة على الشراء، و السعي الى
اقتناء اخر ما يعرض في السوق، هو تلبية الرغبات الحسية، و اشباع الملذات السريعة
حتى تنقضي و تحل محلها لذة اخرى تبدو جديدة.
ثقافة ما بعد الحداثة مرتبطة
بالنظرة الاستهلاكية التي تشيعها الشركات العابرة للقارات و وسائل اعلامها. مبنية
على خلق سلسلة من الاحتياجات المادية تتجدد باستمرار، مبينة على الجنس في مختلف
صوره. مبنية على تحويل المرأة الى اداة للاستهلاك، و الجنس. اي الى جسد يعرض عاريا
او نصف عار في اغلب الاعلانات مهما كانت السلعة، او الخدمة التي تروج لها.
من
الامثلة الواضحة على ذلك ما يتعلق بصناعة مستحضرات و ادوات التجميل، و توزيعها و هي
صناعة تحتل المرتبة السابعة بين الصناعات من حيث حجمها، و الارباح التي تدرها. و
اذا ارادت الشركات المنتجة لمستحضرات التجميل ان تحقق لها الرواج، لابد ان تؤكد
النظرة التي تعتبر المرأة جسدا وظيفته الجنس. و ان تحرمها من عقلها. و لا بد ان تعم
نظرة لجمال المرأة تحولها الى اداة للعرض، و البيع، و المتاجرة، الى رمز ومنبع
للملذات الحسية حتى تبرز ضرورة الصرف المستمر عليها للحفاظ عليها وفقا لنموذج
الجمال الذي اصبح سائدا في الطبقات العليا، و المتوسطة، و اجزاء متزايدة من الاوساط
الشعبية. هذه الثقافة الجمالية تسعى الى انصراف الناس عن قيم الجمال الطبيعي، عن
قيمة العقل، و الشخصية و حتى الخلق في المرأة. الى اخفاء و ازدراء علامات التقدم في
السن، واشياء مثل التجاعيد، او زحف الشيب على لون الشعر الاصلي. هذه الاشياء تعتبر
عورات يجب اخفاؤها. لا ينظر اليها على انها تطور طبيعي يرتبط باشياء لها قيم، مثل
النضج، و الخبرة، و الفهم لطبيعة الحياة، و مشكلاتها. و وسيلة الاخفاء هي الدهانات،
و الاصباغ، و المساحيق التي تنتجها الشركات متعددة الجنسية، و توزيعها في السوق
العالمية، بما فيها بلادنا.
هكذا تتحول المرأة الى جسد. تتجرد من عقلها و
عواطفها لتتحول الى شكل خارجي، الى سطح بلا عمق ما عدا عمق المهبل.
و فكر ما
بعد الحداثة يساعد على الترويج لهذه العقلية. فالتاكيد على الجنس بمختلف ممارساته
على "الهوية الجنسية" للمرأة التي تميزها عن الرجل ركن من اركانه. و تحت تاثير هذا
الفكر جنحت بعض الحركات النسائية في امريكا و اوربا الى التنظير للحرية الجنسية
للمرأة باعتبارها الحرية الانسانية الاساسية و اعتبرت ان سيطرتها على جسدها،
و حرية التصرف فيه وفقا لرغباتها، هو جوهر قضية المرأة. و استندت في ذلك الى اهمية
اللذة في الحياة و اعطت لها مكانة خاصة في الفكر الفلسفي الذي بلورته.
و لا احد
ينكر اهمية الجنس و اللذة في حياة الانسان و تطورها. و خصوصا فيما يتعلق بالمرأة
التي فرضت عليها قيود صارمة حالت دون ممارستها لكل طاقاتها الانسانية و لابداعية.
فالجنس هو استمرار للحياة و ضمان تجددها لكن الجنس المفصول عن مشاكل المرأة
الاقتصادية و الاجتماعية و وضعها المتدني في مختلف مجالات الحياة داخل الاسرة، و
خارجها، الجنس المفصول عن تنمية المجتمع و تطور كل الطبقات والفئات التي تنتمي
اليه، يحول قضية المرأة الى مجرد تحرر جنسي، حتى و ان كانت التحليلات، و الفلسفات
التي قدمها النساء المنتميات الى الحركة النسائية في اوربا، و امريكا قد ساهمت في
ابراز زوايا من الحياة و قضايا نفسية و انسانية ظلت مهملة، و محاطة بالتحريم، او
التجهيل اللذين يحولان دون ازدهار طاقاتها الانسانية.
الخطاب الاصولي ونظرته الى
المرأة:
يبدو للكثيرين في بلادنا ان السلفية الدينية تختلف في جوهرها عن فكر ما
بعد الحداثة في علاقتها بقضية المرأة. ذلك ان انصارها يركزون في جزء اساسي من
هجومهم الفكري على المجتمع الغربي ضد ما يسمونه "بالتحرر الجنسي للمرأة" و الاباحية
التي تمارسها في حياتها. و يطالبونها بالعفة و الصون، بعودتها الى بيتها، بامتناعها
عن مخالطة الرجال في العمل او في المدرسة، او في الحياة العامة، بارتداء الحجاب و
الملابس الطويلة التي تستر شعرها و جسدها بحيث لا تكون مصدراُ لاثارة شهوات الرجال
و الفتنة، و باشياء اخرى كثيرة تصب في هذا الاتجاه الذي يركز على ما يعتبرونه "
خلق" المرأة. و خلق المرأة عندهم مرتبط بصونها لأعضائها الجنسية.
و بالطبع يبدو
ان شتات الفارق بين التحرر الجنسي الذي شمل قطاعات واسعة من النساء في اوربا و
امريكا، و الذي ينعكس بشكل واضح في وسائل الاعلام الغربية، و بين التقييد الجنسي
الذي ينادي به انصار السلفية سواء أكانوا منضوون تحت لواء احدى الحركات الاصولية،
او منتشرون في الاجهزة الرسمية، او افراد عاديين متأثرين باتجاهات الاصولية
الدينية.
مع ذلك ففي رأيي ان الفارق بينهما ليس اساسيا. فثقافة الكوكبة، و فكر
ما بعد الحداثة، و تيارات اساسية تنادي بتحرر المرأة في المجتمعات الغربية تنظر الى
تحرر المرأة على انها مسألة تحرر جنسي تشمل الجسد و النفس و يسمح لها بان تلبي
رغباتها الجنسي، و تشبعها بحرية وفقا لارادتها هي، ووفقا لحقها في ان تتخذ قرارات
مستقلة فيما يتعلق بجسدها لانه ملكها، وليس ملكا لغيرها، ولانها تتخذ هذه
القرارات في حدود حياتها الشخصية التي ليس للدولة او للمجتمع ولاية عليها.
الجوهر في هذه القضية اذن هو" الجنس" و " الجسد"، و ما يتعلق بهما من ظواهر
نفسية و ذهنية. الجوهر هو جسد المرأة الفرد. و هذا يتفق مع مصالح الشركات المتعددة
الجنسية التي تريد ان تحولها الى اداة للجنس يجمل و يعرى بهدف اثارة الشبق و
المتاجرة به.
القضية هنا ليست حقوقها الاقتصادية او الاجتماعية كانسان. القضية
هنا جسدها. اصبحت حرة تفعل به ما تشاء. و في هذا نوع من الحرية، و مع ذلك فهي ليست
حرة بالمعنى الصحيح. لأنها اسيرة السوق التجاري و الاعلام الاستهلاكي الذي حول
جسدها الحر هذا الى اداة. و خلق نوعا جديدا من العبودية. التحرر هنا في الاساس
متعلق بجسد المرأة و ليس عقلها.
و السلفيون ايضا يحولون المرأة الى مجرد جسد
لكنهم يسعون الى تغطيته لأنه يثير شهوات الرجال. بل التغطية وحدها قد لا تكفي. لذلك
لابد من عزلها في البيت و منعها من مخالطة الرجال من المعرفة، و التجربة، من
التعليم و العمل. هذه هي نقطة التلاقي الاساسية بين فكر ما بعد الحداثة، و بين فكر
السلفيين او الاصوليين. كلاهما يعتبر المرأة جسدا يعرى او يغطى. و هذا هو جوهر قضية
المرأة دال حوله الصراع طوال التاريخ منذ بداية العصر العبودي حتى الان. هل المرأة
مجرد جسد بلا عقل؟ هل ليست انسانا كاملا مثل الرجل، مساويا له؟ هل هي جسد فقط مثل
العبد توظف لخدمة سيدها، و تربية اولاده، و تلبية رغباته؟ ففكر ما بعد الحداثة ينظر
الى المرأة على انها جسد يمكن تحريره جنسيا ليقع في عبودية جديدة لخدمة شركاته. جسد
يجب ان يعرى لأثارة الشهوات و ترويج المنتجات و تشجيع نشاط السوق و ممارسة الملذات
الى ابعد حد. و فكر السلفيين يرى ان المرأة جسد لكنه بدلا من ان يعرى يجب ان يغطى،
ان يتوارى بعيدا عن الانظار حتى لا يثير الفتنة المدمرة لهم.
في الغرب المرأة
جسد يجب ان يعرى، و في الشرق جسد يجب ان يغطى. انها في كلتا الحالتين مجرد جسد
يستخدمها الرجال المهيمنون على الوضع لاغراضهم. كل منهم بطريقته. فكر ما بعد
الحداثة لا يقول هذا صراحة، و انما يغلفه بكلام عن الحرية، و تحرير المرأة، و مبدأ
اللذة كركن من اركان فلسفة الرأسمالية في هذا العصر. ذلك انه فكر تمرس على جعل ما
هو واضح صعب على الفهم. و السلفيون يقولون الشيء نفسه لكنهم يعبرون عنه بصراحة.
فالمرأة عندهم ناقصة عقل و دين. انها بلا رأس. رأسها هو رجلها. لذلك يجب ان تغطي
رأسها حتى لا نخطيء الفهم و ننظر اليها على انها عقل. يجب ان تظهر امامنا كما هي
بالفعل مجرد جسد مكرس للجنس، و خدمة الرجل، و اولاده. و الا لماذا لا نطالب الرجل
بتغطية رأسه؟ انها ليست قضية شعر فالعيون اكثر فتنة من الشعر، العيون تقول ما لا
يقوله اي جزء اخر في الجسم.
حلف بين فكر الغرب الرأسمالي و الاصولية الدينية:
في كلتا الحالتين تظل المرأة مجرد جسد. هذا هو بيت القصيد. و هذا هو الحلف غير
المعلن بين فكر ما بعد الحداثة و السلفية الدينية في بلادنا، و في كل البلاد التي
أشتد فيها ساعدها. و هو حلف يؤدي الى الحفاظ على جوهر الوضع الذي لا تزال المرأة
تعاني منه.
لكنه حلف تمتد ابعاده الى جوانب اخرى تتعلق بتحرير المرأة من
عبوديتها. و تتضح هذه الابعاد اذا ما تعرضنا لبعض خصائص المناخ العالمي الذي يسود
في هذا العصر.
كانت سنين ما بعد الحرب العالمية الثانية سنين مفعمة بالامل
بالنسبة لشعوب الارض. لكن انهارت الامال تحت ضربات الاستعمار الجديد المتعدد
الجنسيات, و قد ادى ضياع هذه الامال، و الهزائم التي منيت بها الحركات الوطنية و
الديمقراطية الى تفاقم الصعوبات الاقتصادية و الاجتماعية التي يعاني منها الناس في
حياتهم، و اقترنت هذه الصعوبات بهجمات ضارية شنتها الرأسمالية العالمية على مصالح
الشعوب و على استقلالها و حرياتها، على ثقافتها و هويتها الاجتماعية و القومية. و
قد ادى كل هذا الى حدوث ردود فعل عميقة من جانب الشعوب، لكن في ظل ضعف الحركات
الاجتماعية، و السياسية التي تبشر بقدرتها على تعبئة جهود الجماهير، و السير بها
نحو افاق التقدم، في ظروف الانتكاس و التراجع امام هجمات القوى الاستعمارية
الجديدة، و اعوانهم، لجأوا الى الحركات الدينية المتطرفة، الى القوة الربانية
العليا باحثين عن الاطمئنان، عن الحماية، و الامل في السلطة الآلهية، فيما هو
مألوف، و معروف لديهم، في الطريق الذي سلكه الاسلاف، و حقق لهم انتصارات تاريخية.
تمسكوا بما يرمز الى مميزاتهم القومية و الثقافية، الى تراثهم و امجادهم امام زحف
العولمة الرأسمالية التي ارادت ان تقضي على كل ما يعوق التوسع في السوق العالمية و
ثقافتها.
هكذا تحولت الحركة الاجتماعية التي كانت تتجه الى الامام، أو على
الاقل جزء منها الى حركة تتجه الى الماضي، الى الخلف. هكذا تدعمت الحركات السلفية
التي تقدس الاسرة المغلقة. و الاسرة في الثقافة الابوية المتخلفة تعني المرأة
الغائبة، المحاصرة في البيت حفاظا على شرفها. تعني منعها من الظهور و المشاركة في
مجالات النشاط المختلفة حتى لا يخرج دورها في الحياة، عن دور الام، و الزوجة.
ان الهوية، و الاصالة، و الثقافة القومية اشياء مهمة في حياة الافراد، و
الجماعات، و في تاريخ الامم، هي ضرورة للاستمرار، و التطور. لكن ليس كل ما يميزنا
ثقافتنا، و تراثنا، و عاداتنا شيئا نفخر به، و يجب الا نتخلى عنه. لكل مجتمع عيوبه
يجب بذل الجهود للتخلص منها. لكن عندما ينغلق المجتمع على نفسه فانه ينغلق على
عيوبه ايضا. و يتعصب لها كأنها جزء حيوي من كيانه يمكن ان ينهار اذا تخلى عنها.
هكذا جنحت الحركة السلفية الى التعامل مع قضية المرأة بعقلية الاسلاف، و تسربت هذه
العقلية الى قطاعات واسعة في المجتمع. و زاد من تاثيرها سفر الملايين من المصريين
الى بلاد النفط حيث تسيطر الاتجاهات السلفية على التعامل اليومي مع المرأة.
ان
الحركة الاصولية او السلفية التي يسميها البعض صحوة دينية تعبر عن رغبة في الاحتجاج
على اثار العولمة على حياة الناس. لكنه احتجاج ضل طريقه فاستغلته قيادات محلية، و
قوى عالمية لخدمة اغراضها السياسية، و محاولة الوصول الى السلطة عن طريقها. و هي
ليست مقصورة على البلاد العربية و الاسلامية. فالحركات السلفية الدينية انتشرت على
نطاق العالم و هي موجودة في امريكا المسيحية و اسرائيل اليهودية و وسط الهندوكيين
في الهند. و القوى المهيمنة على هذه الحركات ليست سوى حلقات في الشبكة العالمية
للكوكبة الرأسمالية. و عواصم الغرب، بتجارة المخدرات و السلاح و النقد تتداخل
مصالحها في السوق العالمي رغم المعارك و المنافسات التي تقوم بينها احيانا و هي
تشكل الاجنحة الاكثر رجعية و تخلفا في صفوف الرأسمالية العالمية. لذلك فان معارضتها
الثقافية و الفكرية لا تمتد الى جذور النظام الراسمالي العالمي بل على العكس هي
تلعب دورا متزايدا في المحافظة عليه، و تدعيمه، فعملية التمركز و التركيز لرأس
المال التي تتم في الشركات العابرة للاوطان تؤدي الى توحيد رؤوس الاموال بين ايدي
قلة ضئيلة من الناس مسلمين كانوا أم يهودا ام مسيحيين.
لكن في الوقت نفسه حتى
تتحقق الهيمنة لهذه القلة من الشركات، و البلدان و الافراد لابد من تقسيم صفوف
الناس و منعهم من الاتحاد لمقاومة سياساتها، او للتخفيف من اثارها. و لا يوجد أخطر
من الاتجاهات الدينية المتعصبة في أثارة الخلافات، و المذابح، و المعارك، و تقسيم
الصفوف على النطاق المحلي و الاقليمي و العالمي. و لا اخطر منها في اثارة اسباب
التفرقة، و تجميد المجتمع، و الابقاء على سيطرة القوة المتخلفة، و الحيلولة دون
تحقيق التقدم الذي تصبو اليه شعوب الارض.
وفي هذا المجال تلعب التفرقة على اساس
الجنس دورا بارزا في اضعاف، و تشتيت، و تقسيم قوى الشعب. فان ظل نصف المجتمع متخلفا
لا يلعب دوره في الجهد الوطني المنتج، و لا يشارك بطاقاته، و ابداعه في دفع عجلة
التقدم، لابد ان يتخلف المجتمع، خصوصا في ظل الهوة المتزايدة التي تفصل بين البلاد
المتقدمة تكنولوجيا، و بلاد الجنوب التي تلعب فيها، او يمكن ان تلعب فيها القوى
البشرية المبدعة دورا يعوضها عما فاتها. كذلك فانها تجعل جزءا كبيرا من القوى الحية
في المجتمع ينهمك في صراعات تدور حول وضع المرأة، في كل المجالات، بين الرجال و
النساء. و معنى هذا ان جزءا كبيرا من جهود هذه القوى الحية مستوعب فيما لا ينفع،
فضلا عن الاضرار الصحية، و النفسية، و العصبية التي تصيبها. ان توحيد الجهود، و
الاستقرار الاجتماعي لا يمكن ان يتوافرا في المجتمع طالما ان هناك صراعا ظاهرا او
مستترا قائما بين نصفه الذكوري ونصفه الانثوي. و يكفي ان نشاهد ما يدور يوميا بين
الرجال و النساء في حياتنا لتتأكد هذه الحقيقة في حياتنا.
المرأة بين السلفية و الحداثة و ما بعد الحداثة:
خلال القرن التاسع عشر و العشرين اجهضت عمليات التحديث
في مصر نتيجة بقايا الغرس التركي الاقطاعي العسكري في بلادنا و لكن اساسا بسبب
تحالف الاستعمار القديم مع فئات الاقطاع و الرأسمالية الكبيرة التي انبثقت في
احضانه. و كانت السلفية الدينية، و الاتجاهات الدينية المحافظة المرتبطة
بمؤسسات الدولة، او الخارجة عن نطاقها احدى القوى الاجتماعية الفكرية المؤثرة التي
اتخذت موقفا عدائيا من عمليات التحديث الثقافي و الاجتماعي، و الاتجاهات الاصلاحية
التي حاولت ان تتقدم بالمرأة في بلادنا. مع ذلك حققت المرأة تقدما نتيجة الخطوات
التحديثية التي تمت في الاقتصاد و التصنيع، و خروجها الى التعليم و العمل، و رغم
سيطرة الفكر الابوي الطبقي المتخلف على نظرة المجتمع للمرأة، و دورها.
و ظل
الموقف من المرأة احد الميادين الهامة التي لم يتوقف حولها الصراع في المجتمع.
فالاتجاهات المحافظة في الازهر و غيره اتخذت موقفا عدائيا من الاصلاحات التي
اقترحها رواد مثل رفاعة رافع الطهطاوي و جمال الدين الافغاني و محمد عبده، و محمد
فريد، و قاسم امين، و سلامة موسى. و استمرت جهود الاصلاح في اجيال ما بعد الحرب
العالمية الثانية، و لكن بدأت المرأة تحل مكان الرجل في الذود عن حقوقها لأن الرجال
استمرءوا الوضع القائم خصوصا فيما يتعلق بقوانين الاحوال الشخصية و رأوا في المرأة
المتعلمة، او العاملة ذات الشخصية المستقلة قوة منافسة و خطرا على حياتهم. و على مر
السنين ظهر عدد من الشخصيات النسوية البارزة مثل مي زيادة، و هدى شعراوي و درية
شفيق و نوال السعداوي و غيرهن. و مازالت المعارك الفكرية و العملية حول التحديث، و
التنوير ، و اصلاح وضع المرأة دائرة في ايامنا. لكن عندما انتقل النظام الراسمالي
الى مرحلة الكوكبة حدث تغير كبير في موقف الليبرالية السابقة و ظهر فكر ما بعد
الحداثة الذي انعكست اتجاهاته على الموقف ازاء قضايا المرأة. انعكس بالسلب و
بالايجاب. و لكن تاثيره السلبي طغى على حياتنا و يتضح ذلك في التحالف الظاهر و
الخفي بينه و بين السلفية الدينية الذي اشرنا اليه. و اوضحنا بعض جوانبه و الذي دعم
الاتجاهات المعادية لتحرير المرأة.
هناك اوجه اخرى لهذا التقارب الفكري، ففكر
ما بعد الحداثة اصبح له تاثير بين عدد متزايد من المثقفين في مصر الذين انبهروا بما
فيه من جدة، و تمرد على القوالب دون ان ينتبهوا الى كل ما يمكن ان يترتب علية من
اضرار كمنهج و مدرسة في التفكير و كفلسفة مؤثرة في النخب.
ففكر ما بعد الحداثة
نقل الموقف من قضايا انسانية مهمة و منها قضية المرأة الى مرحلة جديدة، لذلك هو
جدير بان نتوقف عنده.
بعد سقوط النظام "الاشتراكي" الذي كان سائدا في الاتحاد
السوفيتي، و بلاد شرق اوربا سعت الدوائر الحاكمة في الغرب الى استحداث عدو جديد
يبرر سياسات هيمنة الاستعمار الجديد، و التوسع في صناعة السلاح و تجارته، و شن بعض
الحروب المحلية مباشرة او بواسطة انظمة او قوة موالية له حفاظا على مصالحه، وسعيا
الى ادخال مجالات و مناطق جديدة في دوائر التراكم الرأسمالية.
في هذه المرحلة
اصبح العرب و المسلمون هدفا لهجوم النظام العالمي الجديد. هذا الهجوم الذي وصل الى
ذروته في حرب الخليج، و الذي تبلورت اتجاهاته الثقافية و الفكرية في كتابات بعض
مفكري ما بعد الحداثة امثال هاتنغتون، و برنارد لويس، و فوكوياما، في
النظريات التي ادعت ان الصراع العالمي بين الحضارات حل محل الصراع بين
الفقراء و الاغنياء، و في اطار هذه النظريات شنوا هجوما ضاريا على العرب و
المسلمين. في هذا الهجوم احتل وضع المرأة في البلاد العربية و الاسلامية مكانا
بارزا. و ادى هذا الى رد فعل عنيف، الى تدعيم التيارات الاصولية. الى دفاع مستميت
عن الممارسات الابوية، و النظرة المتخلفة ازاء المرأة العربية باعتبار هذا الدفاع
ركنا اساسيا في تاكيد الكيان، و الهوية الاسلامية.
في الوقت نفسه ظلت الدوائر
الرأسمالية الغربية التي تغذي هذا الفكر و تسانده تقدم العون و المساعدة، و التاييد
للانظمة، و التيارات السلفية التي تصر على بقاء الوضع الادنى للمرأة وتحافظ عليه.
بل تريد ان تلغي ما حصلت عليها من حقوق لتعود بها الى الوراء. مع ذلك فان موقف هذه
الدوائر من السلفية الاسلامية يتسم بالازدواج في مجتمع الهجوم الثقافي و الاعلامي-
تدعيما لسيطرتها الاقتصادية و العسكرية- وبين المساندة و التاييد حسب الظروف و
الاحتياجات السياسية. و الامثلة على ذلك كثيرة اخرها الموقف من "الطالبان" في
افغانستان تلك الحركة المعروفة بعدائها الشديد لحقوق المرأة. فقد انتقل موقف النظام
الحاكم في امريكا من التاييد الى المعارضة.
العنصرية ضد العرب، و العداء
للاسلام في الدوائر الرأسمالية العليا للغرب تغذي الاتجاهات المعادية لتحرير
المرأة. الى جانب ذلك هناك تيار فكري اخر يسيطر على بعض الاوساط السياسية و
الاكاديمية المؤثرة في الغرب فيما يتعلق بهذه القضية. انه اتجاه استشراقي جديد يطلق
عليه بعض المفكرين وصف " عرض لورنس العرب الاكاديمي" يتلخص في الدفاع عن المظاهر
الاجتماعية المتخلفة في العالم الثالث و منها التفرقة و القهر للمرأة بحجة ضرورة
احترام الهوية الثقافية لمختلف الجماعات، و حتى لو اقترنت بممارسات لا تتفق مع
القيم و المبادئ التي يقرها الرأي العام المتحضر في كل مكان، او مع حقوق الانسان. و
يتلاقى هذا الفكر مع اكثر الاتجاهات تخلفا وعداء لحقوق المرأة في بلادنا. و حجته في
ذلك هو ان القيم، و المبادئ المعترف بها في البلاد المتقدمة لا يمكن تطبيقها على
مجتمعات لم تصل بعد الى المستوى الحضاري التي وصلت هذه البلاد اليه. انها حجة
مرتبطة بنظرية التمايز التي تشكل ركنا اساسيا من فكر ما بعد الحداثة. وهي
تتلاقى مع فكر اخر شائع في بلادنا بين عدد كبير من المثقفين بمن فيهم المرموقون
بعضهم لا يريد ان يتخذ موقفا نقديا من بعض النواحي المرتبطة بتراثنا، و من
الممارسات السلبية في حياتنا و من بينها المواقف السلفية و المتخلفة ازاء وضع
المرأة بحجة الغزو الثقافي للغرب. و الدفاع عن الثقافة المستقلة، و الهوية المميزة
لبلادنا.
ان فكر ما بعد الحداثة المرتبط بالرأسمالية و احدث تطوراتها هو اسلوب
في التفكير و اللغة شديد الجاذبية للعقول المفكرة التي تعتبر نفسها جزءا من نخب
العصر. فهو يقلب الكثير من مناهجنا، و معتقداتنا رأسا على عقب. و هو قادر على
التعامل مع الفوضى، و عدم اليقين اللذين تنبه اليهما العلم في احدث تطورات،
مفتوح للافاق الجديدة التي فتحها عصر التكنولوجية امامنا، مهتم بالتفصيل و
التجسيد بدلا من التجريد العام، يسلط الضوء على مجالات ظلت مهمشة ولم تنل اهتمام
الباحثين و الدارسين، معارض لليقين الذي ارتبط بالتحديث، و الجمود ، و الحتميات، و
القوالب التي سيطرت على الفكر الماركسي في هذا العصر، قادر على التعامل مع عدم
الثبات، و السيولة، و التغيير، و ثراء التفاصيل في واقعنا، مع السياق، و الزمن، و
المكان، و تعدد ابعادها.
انها صفات سبقته اليها المدارس الاخرى الماركسية و
التحديث، لكنه طورها و اضاف اليها و تخلص من الجمود ، و اليقين اللذين سيطرا
عليهما. انه يبدو ثوريا متمردا و لذلك ينجذب اليه اولئك الذين يريدون الظهور في ثوب
متحرر، بل و ثوري دون ان يمارسوا تمردهم. و ثوريتهم في العمل، و التي تشكل احدى
اركانها ايضا قضية تحرير المرأة لان التصدي لها يعني تغييرا جذريا في حياتنا العامة
و الخاصة، و في كل الاسس التي بنيت عليها.
ذلك ان تفكير ما بعد الحداثة رغم
التحرر الذي يميزه يحمل في طياته جوهرا محافظا تسعى الراسمالية العالمية الى
استغلاله، و الارتكان اليه في الفلسفة، و الفكر، و في الوقوف ضد مختلف معارك التحرر
الاقتصادي و الاجتماعي، و الثقافي التي تخوضها شعوبنا. انه يحتوي على مزالق يجب
التنبه لها مزالق لها علاقة و وثيقة بموضوعنا. اي بموضوع السلفية الدينية، و
تاثيرها على وضع المرأة. و هذا امر طبيعي لأنه فكر مرتبط بمصالح الرأسمالية العليا
في هذا العصر.
ان احد الاركان الهامة في خطاب ما بعد الحداثة هو موضوع الجنس اي
العلاقات الجنسية و على الاخص من زاوية تنوعها و الدوافع الانسانية التي تتحرك
وراءها ( مدرسة التحليل النفسي و فلسفة الجنس) و تطور النظرة الى نفس المرأة، و
جسمها و دور الجنس و اللذة كأحدى المكونات الاساسية في حياتها، اي بالعلوم النفسية،
و الأداب ، و الفلسفة من منظور المرأة.
و لكن هذا التركيز على الجنس و على
مختلف الزوايا النفسية و المتعلقة به، وتاثيرها على حياة المرأة يظل معزولا عن
الابعاد الاقتصادية و الاجتماعية ذات الاثر البالغ في حياتها، و التي لا يمكن فهم
المشاكل الجنسية و وضعها في اطارها الصحيح حتى من زاوية العلوم النفسية و قضايا
الفكر نفسها الا اذا تم الربط بينها و بين هذه الابعاد. فقضية تحرر المرأة ليست
مسألة نفسية، و فكرية فحسب بل هي جزء من الصراع الاجتماعي العام و السعي من اجل
تقدم المجتمع ككل.
هكذا ظلت قضية المرأة بالنسبة الى فكر ما بعد الحداثة محصورة
في هذا النطاق لا تتعداها الى الحياة المادية للمرأة و مشاكلها، الى العلاقات
الابوية الطبقية السائدة في المجتمع، و الى الاوضاع الاقتصادية و الاجتماعية، و
الثقافية المحيطة بحياتنا.
و السلفية الدينية تتعامل مع المرأة من حيث الدور
البايولوجي الجنسي المخصص لها كأمرأة. اي بوصفها زوجة و ام، و اداة للاستمتاع
الجنسي عنج الرجل الذي تتزوجه. انها تتناول المرأة من هذه الزاوية دون غيرها، اي من
حيث وظائفها في الجنس، و الانجاب، و حياة الاسرة، و خدمة الرجل. انها لا تبحث في
التفرقة التي تعاني منها باعتبارها انسان تحيط بها اوضاع اقتصادية، و اجتماعية يجب
التصدي لها و تغييرها. ان تفكير السلفية الدينية فيما يتعلق بالمرأة بدائي لا يرتقي
الى درجة التطور التي وصل اليها فكر ما بعد الحداثة و لا يمتد الى معاملة المرأة
باعتبارها نفس، و عقل لها نظرة و فلسفة في الحياة. و مع ذلك كلاهما يحاصر مشاكلها
في نطاق الجنس.
هذه الصلة الديالوجيكية تمتد الى مجالات اخرى هامة في الفكر.
كلاهما يركز على التعدد و التمييز الثقافي. و على ما يسمى بسياسات الهوية"identity
politics” و هذا على حساب الجوهر الانساني المشترك و المبادئ العامة التي ترتبط
بحقوق الانسان، مما يساعد على تأكيد الاوضاع المتخلفة للمرأة، و القهر الواقع
عليها. و ذلك باسم احترام التراث، و الهوية الثقافية للجماعات. فالمرأة تشكل ركنا
اساسيا في الحفاظ على الهوية في خطاب السلفيين. و فكر ما بعد الحداثة مبني على ما
يسمية احترام التعدد الثقافي في خطابة، و ان الجنسي للمرأة الفرد، و فلسفة اللذة، و
الاستهلاك للاقلية المرفهة و الفئات الاجتماعية التي تدور في فلكها، و اما الى
ارتباط الاغلبية الساحقة التي تعاني من التخلف الاقتصادي و الاجتماعي بصورة او
باخرى بالسلفية الدينية و المصالح الرأسمالية التي تتحرك من وراءها، و بالاتجاهات
المعادية للديمقراطية الغربية و حقوق المرأة كما تمارس في ظلها؟ ام ان هناك طريق
ثالث لتحرير المرأة، و للتقدم في قضايا المجتمع الاخرى تنمو بذوره في ارضنا الآن، و
تشق طريقها رغم الغموض و العثرات التي تحيط به طريق يمكن ان تكتشفه بالجهود الدؤوبة
لتغيير مسار المجتمع محليا، و عالميا، و بالتعاون، و التضامن مع كل الشعوب المتطلعة
الى الحرية والسلام و العدالة الاجتماعية.
يصدرها مركز دراسات المرأة في الشرق الاوسط
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك