جراح الروح والجسد



لطيفة الشعلان
2005 / 4 / 4

تصرخ الكاتبة والروائية المغربية مليكة مستظرف: "المشكلة أنني لا أمتلك سيقانا وأفخاذا حتى أعريها" لتفضح ضمائرنا، بينما نداءاتها تتوالى عبر الانترنت لإنقاذها من موت ينشب أظفاره اللعينة في جسدها الضعيف. أما الكاتب محمد أسليم فقد فعل مابوسع زميل ان يفعله، واطلالة على موقعه الإلكتروني تشهد بذلك. فلا عجب ان تقول له في أسطرها الناضحة بالألم: "عدت ثانية لأوجع دماغك بمشاكلي، لكنك صديقي وليس لي سوى بابك". فالنداء الذي توجهه مليكة لمن نعتتهم بأهل الخير مشفوعا برقم هاتفها يصفعنا إن بقي فينا حس. ويطمئننا ان القطيعة بين المغاربة والمشارقة في أفضل حالاتها – ولله الحمد والمنة- من تجاهلنا أو جهلنا لبؤس هذه المبدعة التي تحولت مأساتها لملصق يحمل صورة كلية بأوردة وردية متفرعة، وعشرات الأسئلة من الفضوليين: كيف تنامين يا مليكة ؟ وكيف تكتبين يا مليكة ؟ وكيف توظفين الألم الخرافي في قصصك يا مليكة ..؟ّ!. يبقى الشيء الذي لاأفهمه جيدا في حكاية مليكة، هو غياب دور إتحاد كتاب المغرب، وفعاليات المجتمع المدني من جمعيات ومؤسسات، في تبني ودفع قضيتها الانسانية، إلا إن كان لديهم نسخهم المحنطة من (ع.ع.ع) فلا يتحركون إلا كعلي عقله عرسان للدفاع عن الشرف القومي، أو لزجر المطبعين والمتأمركين.

نداء مليكة ينبهنا إلى ان قدر المبدع البعيد عن دوائر الاستقطابات الإعلامية والثقافية والسياسية العربية، ان يبدع وحده، ويموت بالتقسيط وحده ، واقفا كالأشجار. أو منتظرا تحقق حلم الشاعر المغربي سعيد الوافي بتدويل أوضاع المبدعين العرب الصحية على مستوى المؤسسات الطبية الأميركية إثر أمسية أو معرض فني، وفي هذه الحالة أعان الله من سيتولى تنظيم الطوابير وفرز التقارير. فمليكة لاتحتاج أكثر من خمسين ألف دولار لتنهي معاناة ثمانية عشر عاما مع الفشل الكلوي، لكن الوعود التي تلقتها ظلت وعودا. هي لا تطالب "بامتياز الصيد في أعالي البحار" بل تحتاج عملية جراحية "أرخص من ثمن سيارة وزير مغربي" كما تقول في أحد حواراتها. ولو نزلت من مقام الوزراء العرب، أطال الله قعودهم على كراسيهم، إلى حضرة (الفنانات) فالعملية ستكون أرخص من كلفة انتاج فيديو كليب من قبل ملاك الأغاني الجديدة من خليجيين ومصريين، هو إلى مزرعة الأفخاذ والسيقان أقرب. وأقل عشر مرات مما تأخذه (طقاقة) الإمارات الأمية في وصلة من خمس دقائق. وفي طريقك خذ أثمان شد سميرة سعيد لرقبتها، ونحت نانسي لأنفها ثلاث مرات حتى صار (سلة سيف) بالتعبير النجدي، وإعادة تأهيل شيرين لجسدها بالجملة: من شعر رأسها إلى أخمص قدميها.

سينبت تساؤل مليكة من بين الشفاه والصدور التي حولها السليكون لبالونات وإطارات سيارات، ومن بين صفقات العرب وعمولاتهم وأكوام أموالهم التي تتطاير في كل إتجاه إلا صوب مستحقيها: " مخجل أن يصبح العلاج ترفا غير مسموح به للجميع .. أأستجدي العلاج في بلدي". ولو كنت أستطيع لسقت توصيفها لموطن ولادتها ونشأتها وعيشها، مدينة الدار البيضاء، في عبارة عجائبية صادمة أثبتتها في قصة قصيرة، ثم مانفكت ترددها كلما سئلت عن بلدها، تكشف عن توغل المدن في الهتك الوحشي وسقم الانسان، فأي شيء سيرجى.

تساؤلها الذي ماجف من على لسانها عن استجداء العلاج، لاأدري حقا كم عدد من طرقه قبلها من مبدعات ومبدعين عرب، أماتتهم حسرة المرض والفقر والتجاهل، وبرودة أسرتهم الرثة. فهذه المغربية التي تحتج على تبلدنا وسخفنا، لاترمي حين قالت انها بلا سيقان، لمعنى مجازي باضفاء قيمة شرفية على سيقان الأديبات مقابلة بسيقان أمل حجازي مثلا، بل تسطر جوهر حالتها المتمثل في هشاشة العظام، وعكازين اثنين، لإمرأة مازالت في الثلاثينات من عمرها، كانت قبل أربع سنوات قادرة على المشي بعكاز واحد، حين رآها الناقد المغربي عبدالله البقالي في مهرجان أصيلة ممثلة لـ "ماسأة وطن بأكمله".

(جراح الروح والجسد) عنوان رواية مليكة مستظرف، وفي الوقت نفسه، مدخلا نموذجيا لسبر مصائرهن، تحت أكثر من سماء. الأديبة العراقية، حياة شرارة مبدعة رواية (إذا الأيام أغسقت) انتحرت في 1997مع ابنتها مها في حين نجت زينب، حدث ذلك باستنشاق الغاز في غرفة مغلقة. أنهت حياة شرارة حياة قهرت روحها وجسدها حتى الثمالة .. من الاضطهاد السلطوي والمحاربة في لقمة العيش ومنع جواز السفر، إلى التشوق وهي الأستاذة الجامعية لقليل من الحمص والبندورة وحبات شوكولاتة ملفوفة في ورق مزخرف. أيضا مليكة مستظرف حاولت الانتحار في لحظة قنوط، غير انها عادت لمجابهة الحياة بقوة وتحد: " أقول لرأسي لاتخذلني إياك ان تنفجر أو تتخلى عني".

الفتاة التي تحمل موتها بين شفتيها كما وصفها محمد زفزاف قبل ان يبتلعة فم الوحش، تملك فيض قوة بين المرض والمرض والبؤس والبؤس، لتبدع رواية في هيئة " مكب قاذورات" على رأي أحدهم. لكن مليكة الروحية حتى بشرتها ربما، مقابل الجسدانيين حتى أرواحهم، في قول أوغسطين، قد أقسمت ان تعري قاع المجتمع المغربي، قاع الظلم والقبح وعوالم الدعارة واغتصاب الأولاد. هذا ينفع كثيرا لنصب محكمة تفتيش من قبل الحراس، لمن تقوم بتصفية دمها ثلاث مرات أسبوعيا، في سبيل التخفيف من وخز خفيف للضمائر المضطجعة على السندس و الاستبرق، فتترك مليكة الفاضحة لميتتها، أو كما قال أحمد بوزفور في حيثيات رفضه لجائزة وزارة الثقافة المغربية: " أخجل ان آخذ تلك الجائزة ومليكة تموت تحت أنظار الجميع وهم ساكتون ينتظرون ليرثوها". فما عبر عنه القاص المغربي بـ "التفاوت الطبقي الهائل" و "معاناة الكتاب المغاربة" مثلته مليكة وهي تضارع سيرة الملائكة .. تقتطع من ثمن العلاجات لتسدد للمطبعة مستحقاتها، فينتهي الأمر بلوعة: "لو كنت أعلم أن الأمر سينتهي بي على عكازين لما أقدمت على هذا الجنون".