التحرش الجنسي وتراجع منظومة القيم في المجتمع العربي



حسني إبراهيم عبد العظيم
2018 / 3 / 11

أظهر العديد من الدراسات والإحصاءات العلمية أن ثمة تزايدا ملحوظا في ظاهرة التحرش بالنساء في المجتمع العربي وذلك بصورة واضحة خلال العقدين الأخيرين. والأمر اللافت أن تلك الظاهرة تزداد في مجتمعاتنا المحافظة والمتدينة، وهي ظاهرة تناقض أبسط معاني التدين السليم. وحاول الباحثون في مختلف التخصصات رصد أهم أسباب تفاقم تلك الظاهرة في مجتمعاتنا العربية.

ينبغي بداية ألا نعزل تلك المشكلة عن كل المشكلات والقضايا المرتبطة بوضع المرأة في مجتمعنا العربي من ناحية، وعن مجمل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمعات العربية المعاصرة من ناحية أخرى. حيث أن ظاهرة التحرش تمثل انعكاسا مباشرا لكل تلك الظروف بكل تعقيداتها.

والحقيقة أن أهم الأسباب التي أفضت لظاهرة التحرش الجنسي، من وجهة نظري المتواضعة تتمثل في تراجع ولا أقول انهيار منظومة القيم الاجتماعية الراسخة في أعماق المجتمع العربي، وظهور منظومة قيمية جديدة أفرزها التغير الاجتماعي السريع في هذا المجتمع، تلك المنظومة القيمية التي أسست لمعايير جديدة مغايرة تماما للمعايير التقليدية للأسرة العربية.

من أبرز تجليات المنظومة الجديدة تراجع المعنى السليم للتدين والذي يمكن أن أسميه التدين العميق، واستبداله بتدين طقوسي براني قائم على الاستغراق في أداء الشعائر الدينية، وانفصال ذلك عن السلوك الواقعي، بحيث لا تتجلى فضائل الطقوس في إصلاح النفوس، ولا يظهر أثر الشعائر في ترقيق المشاعر. فالإيمان في الإسلام على سبيل المثال ليس مجرد شعارات براقة، وإنما هو قبل ذلك سلوك رشيد فكما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة: (البر حسن الخلق) و(ليس الإيمان بالتمنى ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل). و (من لا تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) و(رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش).

ومن تجليات تلك المنظومة أيضا اختزال المرأة في مجرد جسد فاتن، وتغييب المرأة ككائن اجتماعي واع يسهم مع الرجل جنبا إلى جنب في نهضة الأمة وتطورها، وتحضرني بهذه المناسبة تلك التفرقة الحاسمة التي أسسها عالم الاجتماع الكبير بيتر بيرجر P. Berger بين مصطلحين مهمين في سوسيولوجيا الجسد.

فلقد طرح «بيتر برجر» وهو واحد من رواد علم اجتماع الجسد، مفهومين مهمين في تصور الجسد، الأول أن يكون الإنسان جسداً Man is a body والثاني أن يمتلك الإنسان جسداً Man has a body (Turner 1992: 40) واستناداً لهذه الرؤية نرى أن كثيرين من أبناء المجتمع العربي ينظر إلى المرأة باعتبارها جسداً Woman is a body ولا يراها كائناً اجتماعياً يمتلك جسداً has a body

ولذلك فوفقا لتلك النظرة، يعد التحرش أمرا طبيعيا في ظل تراجع منظومة القيم الأصيلة المرتبطة بضرورة حماية المرأة والدفاع عنها ضد أي اعتداء، لقد كان دفاع الشاب عن جارته، وابنة حارته أو منطقته، من القيم الأساسية في مجتمعاتنا لفترة طويلة، ومؤشرا لشهامة أبناء البلد ومرؤتهم و(جدعنتهم) بالتعبير المصري البليغ.

ولا ينبغي أن نتجاهل عوامل أخرى مهمة أسهمت في تراجع منظومة القيم وبالتالي تفاقم ظاهرة التحرش منها دور وسائل الإعلام بما تبثه من مواد مثيرة تزكي الغرائز، والتراجع الكبير لدور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، وضعف الخطاب الديني وابتعاده عن مناقشة القضايا المهمة التي تمس قطاعات واسعة من المجتمع ومنها الشباب بطبيعة الحال، وانحسار اهتماماته في قضايا فقهية ضيقة.

ويبقى السؤال أو التحدي كيف نواجه تلك الظاهرة؟ نرى أن ثمة آليتين لمواجهة الظاهرة، إحداهما آنية سريعة، والأخرى بعيد المدى، يتمثل الحل السريع في المواجهة القانونية الصارمة لكل صور التحرش وتشديد العقوبة على مرتكبيها، أما الحل بعيد المدى فهو وضع برنامج اجتماعي شامل لتنمية فكر وثقافة احترام المرأة، وتغيير نظرة المجتمع إليها، ومحاصرة القيم الاجتماعية الجديدة التي تختزل المرأة في البعد الجسدي العضوي، وتطوير الخطاب الديني وتعميقه، وإعادة الأسرة لدورها الريادي في التنشئة الاجتماعية وتلقين الأجيال الجديدة كل القيم الإيجابية المتعلقة بالمرأة باعتبارها كائنا اجتماعيا وإنسانيا يشارك بقوة في نهضة الأمة. ولاشك أن للقيادات النسائية والرجال المهمومين بقضايا المرأة ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية دورا كبيرا في تفعيل ذلك البرنامج و إنجاحه.