-هنيئًا لك يا إسرائيل-



جواد بولس
2013 / 5 / 2

"هنيئًا لك يا إسرائيل"

ما سيجري في عملية الانتخابات المقبلة لسلطاتنا المحلية سيكون بمثابة ضربة جديدة تهوي على جسد مجتمعنا العربي وتزيد من جراحه.
بوادر الخراب بادية، وما بقي ممّا استساغته بلاغة تلك الأجيال المؤسِّسة ووصفته بالقلاع، قريب هو من الانهيار. خنادقنا الأمامية دُمّرت، أسوار قلاعنا نُخرت وأبراجها ما عادت تؤدي الوظيفة وتقيم الرسالة. النساء سيكنّ، بعد حصانتنا الوطنية، الضحايا الأُوَل، هكذا تنذر ألسنة اللهب.
"هنيئًا لك يا إسرائيل" كانت جدّتي تولول عندما كنت أسألها: ما الجرح الذي لا يندمل؟ لم أنجح بفك شيفرة هذه الجملة التي ردّدتها مرارًا، وعندما كنت أردف سائلًا: وما الذلّ يا جدّة؟ كانت تزمّ شفاهها وتضرب بطن كفّها على كفها الثانية برقّة مشوبة بندم.
أحيانًا، هكذا أتذكّر، كانت تلطم وجنتها بحركة شقيّة، لا تعرفها بنات اليوم.لا تشبه الملاطفة لأنها أخشن، ليست كالمعانفة لرقّة ظاهرة بحرفية، ولا كالمنادبة، قلب جدتي كان بين يدي.
جدّتي، أخت السنونو وابنة الجرح، مؤمنة لدغت وتخرّجت من "جحر". كانت "قوية" كقصيدة ولم تكن "مثقفة". ماتت قبل سنين طويلة. مع رحيلها هجرت السنونوات أعشاشها التي زيّنت رواق دارها القديمة. الدوري، الذي كان يحط على يدها، صار غريبًا، يخشى الإقامة في حوارينا.
اليوم وأنا أقرأ ما تزفّه لنا الأخبار والمواقع أترحّم على جدتي، حفيدة الريح وأخت الخسارة. أتذكّرها لأننا أمسينا قومًا يلجأ إلى خيامه، إلى مقابض سيوفه و"خبرة" عمائمه. صوتنا صدى ليزيد بن معاوية واللقاء في وقعة "الحرة". قبائل تتنادى وتلتقي كما في أيام الغبار. نفاخر بسخيننا الذي لا يبرد وبنارنا التي لا تبول عليها كلاب. أنسابنا شريفة، تجمعها طهارة الدم، خالية من دنس، ملأى بالرجولة والدسم. نصرنا كان وسيبقى ذَكرًا، لا يتحقق إلا بالنار وقضيب وقوس وقسم.
منكن المعذرة يا نساء العرب. لن أكون بشيرًا ولن أزفّ لكنّ نشيد الشمس ولا أهزوجة البيادر والعرق. فأنا قد أضعت خيمتي، حين مشى القوم ورؤوسهم إلى الخلف. كانت غرقى في مهاوي الشرف. لا جديد أنبئكن به. كنتن، في ميعاد ذلك الذبح، عورات وصرتن في هذا الموسم أكثر عورة. هل أحدّثكنَّ أن في يوم تلك "الحرّة" ذبح "يزيد" آلافًا من أجدادكن وسبى ألفًا من جدّاتكن، وطئن وولدن من سفح أولادًا أطلق عليهم "أبناء الحَرّة". هكذا كانت مفاخر العرب؛ الرجال للقتال، الخاسرون للذبح، النساء ناجيات، سبايا صالحات للوطء. منكن المعذرة يا نساء العرب. فأنتن، لا تصلحن لنبوءة ولا لسلطان ولا لقضاء إلا لقضاء الوطر. بكنّ نجاهر أمم الفسق والخلاعة، لأنّكن براهيننا للشرف، نعرضها على موائد أعدّها جزّارون وطهاة من خزف.
أترحم على جدتي في كل مرّة أقرأ فيها عن كيف تقطع رؤوس عرائس الغضب. أتذكر تلك اللطمة/البرقة على خدِّها عندما أراكن اليوم أوراقًا تتساقط في - أو خارج - صناديق ستصنع قريبًا خريفنا الذي سيشبه خريف العرب.
من سينجيكن من وزر هذه الملحمة؟ نجاتكن نجاتنا. لا صلاح لنا إلا إذا تخلّصنا من كونكن غمدًا والرجال عليكن قائمون كالطود والرمح والمنجل. القصة طويلة؛ بدايتها يوم صار الخالق ذكرًا. القضية تاريخ وموروث وقدر. المصيبة أن الحكمة أنثى ولكن لا يحملها عندنا إلا ذكر. ليس من الصعب أن نعرف من كان وما زال معنيًا ببقائكن جواري لهم. لكن المزعج عندما نرى تغييبكن في محافل من المفترض أن تشارككنَّ المهمة والمسيرة والهدف.
أشرت في الماضي إلى مثل هذه الظواهر المزعجة. اليوم أطلعكم على خبر نشر يوم الاثنين الماضي، نقل وقائع مؤتمر باشرت لعقده جمعية "إعمار للتنمية والتطوير الاقتصادي". كان الهدف من وراء عقد المؤتمر "التعرّف على كيف يمكن النهوض والارتقاء بالصحافة الاقتصادية" كما صرّح مركّز المؤتمر. بعيدًا عن مضامين المحاور الثلاثة التي تحدث بها مجموعة من الخبراء والأكاديميين والمثقفين والاقتصاديين والاعلاميين ورجال أعمال (كما جاء في الخبر) لم أقرأ إلا اسم السيدة خلود مصالحة، محرّرة موقع "بكرا" ومركّزة المشاريع في مركز إعلام، كمشاركة واحدة وحيدة في واحدة من الندوات الثلاث، هذا علاوة على أن الصور التي نشرت وعرضت لوقائع المؤتمر خلت من النساء. خبر على هامش هذه القضية المأساة. بعضكم سيقول لا ضير، الحدث هامشي وعابر، لكنني أرى أن "الكلّ" مركّب من أجزاء والطريق طويل وشائك. فسيفساء تاريخنا رسمها الجهل. في صفحاتنا أنهر من عذابات ودماء ولكن فيها أيضًا جداول من دمع وماء وبعضه كان زلالًا. لم تكن كلُّ النساء جواري لفحول العرب. فهذه عائشة بنت طلحة التي روى عنها صاحب الأغاني أنّها "لم تستر وجهها من أحد، فعاتبها زوجها مصعب بن الزبير وكان من سادة العرب فقالت له: "إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم فما كنت لأستره، و والله ما فيّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد". وطالت مراودة مصعب إيّاها في ذلك وكانت شرسة الخلق وكذلك نساء بني تيم هن أشرس خلق الله وأحظاهن عند أزواجهن".
"حاجةُ الكريمِ إلى اللئيمِ ثمَّ يردُّه" هو الجرح الذي لا يندمل، و"وقوف الشريف بباب الدنيء ثمَّ لا يؤذَن له" هو الذلّ يا ستّي، هكذا علّمتني جدتي التي لم تكن مثل كثيرين "مثقفة". فهل ستكنّ ونكون من "بني تيم" أم ستبقين جواري لهم!