مصر والمرأة في مواجهة التأسلم «5»



رفعت السعيد
2013 / 5 / 15



علي أننا نظلم الحقيقة التاريخية ونظلم معها عزيز مصر محمد علي باشا إذ نتصور أن رفاعة الطهطاوي كان يغرس أزهار الحرية وحقوق المرأة في صحراء قاحلة ودون إذن أو مساعدة من محمد علي.

فالمراجعة التاريخية الدقيقة تكشف أن محمد علي كان منفتحا علي التقدم وعلي بناء مصر الحديثة حقا تتمتع بقدر من الاهتمام بالتعليم واحترام حقوق أصحاب الديانات المختلفة وأيضا الاهتمام بتعليم المرأة.

وثمة قول شهير تردد كثيرا في الكتابات التاريخية نقلا عن محمد علي «أن مصر جنة الله في الأرض ولو منحني الله ألف حياة غير حياتي هذه لبذلتها في سبيل الاحتفاظ بحكم مصر»، فماذا فعل محمد علي؟ «لقد اشتكي كثيرا للقنصل الروسي دوهاميل duhamel قائلا تصور يا حضرة القنصل إنني عندما تسلمت زمام أمور مصر لم يكن فيها إلا أقل من مائتي شخص يعرفون القراءة والكتابة باستثناء الكتبة الأقباط.. (د. محمد فؤاد شكري وآخرون – بناء دولة محمد علي – الطبعة الأولي – ص94)

لكن محمد علي إذ أراد نشر التعليم في ربوع مصر تلقي عديدا من النصائح ربما من حاشيته التركية بأن تعليم أولاد الفلاحين سوف يدفعهم إلي التمرد، فكتب إلي ولده إبراهيم باشا رسالة بتاريخ 29 ذي الحجة 1251 (16 أبريل 1831) بضرورة النظر إلي ما تعانيه أوروبا «من نتائج تعميم التعليم بين أبناء العامة، فقد تورطوا في تعليم الناس حتي أضحوا وليس في طاقتهم تلافي ما فات، فإذا كان هذا المثال أمام الأنظار فمن الواجب أن تتفضلوا فتكتفوا بتعليم القراءة والكتابة لعدد منهم يفي فقط بالمطلوب لأداء أعمال الرياسة غير مولعين بتعميم ذلك التعليم» (المرجع السابق – ص95)

إنه نفس الحرص البالغ الذي تبدي من رسالة أخري وجهها إلي ابنه إبراهيم باشا خلال قيادته للجيش في فتح الشام وإذ لاحظ إبراهيم شجاعة أحد الجنود من أبناء الفلاحين فمنحه رتبة ضابط فأسرع بالكتابة إليه قائلا «من المعلوم يا ولدي أننا نحاذر من ترقية أبناء الفلاحين إلي رتبة الضباط تحسبا لما قد تكون عليه الأمور بعد مائة عام»، ولكن حرص محمد علي إزاء ما ستكون عليه الأمور بعد مائة عام هو ذاته الذي دفعه إلي تناسي خوفه من نشر التعليم، فلا تقدم ولا دولة حديثة ولا جيش حديثا بلا تعليم فبادر إلي توسيع دائرة التعليم و«سمح بأخذ الأبناء من آبائهم بغير طلب لعدم استئناس الأمة بالتعليم والتعلم في المدارس» وهكذا فوض رفاعة الطهطاوي في المرور علي القري لالتقاط تلاميذ الكتاتيب النجباء وجمعهم دون إذن آبائهم للالتحاق بمدارس الباشا، وتجول رفاعة في ذهبية مرت به علي عديد من القري الواقعة علي ضفاف النيل لتحقيق هذه المهمة، فكان من هذه الجولة مئات من النجباء الذين تولوا الرئاسات في مختلف فروع الجهاز الإداري الحديث (صالح بك مجدي – حلية الزمن في سيرة خادم الوطن رفاعة بك رافع – المرجع السابق)

وفيه نجد قوائم عديدة بأسماء تلاميذ رفاعة والوظائف التي تولوها والكتب التي ترجمت علي يديهم فقد حرص محمد علي أيضا علي ترجمة مئات الكتب في مختلف فروع المعرفة وأنشأ لطباعتها عدة مطابع منها مطبعة ألحقت بمدرسة المهندسخانة وخصصت لطبع ما ترجمه تلاميذها من كتب، كذلك كان محمد علي حريصا علي احترام حقوق أبناء الديانات الأخري، ويروي أحد القناصل وهو سانت جون sant john قصة أحد مشايخ الإسكندرية الذي تقوم علي اليهود احتكارهم مهنة الجزارة في الثغر فأفتي بعدم جواز التعامل معهم أو أكل ذبائحهم خشية ألا تكون ذبحت بطريقة شرعية، وقد أحدثت هذه الفتوي ضجيجا كبيرا حتي تناولها الشيخ عبدالرحمن الجبرتي في تاريخه وفصل وقائعها طوال شهر المحرم 1236هـ (من 9 أكتوبر حتي 6 نوفمبر 1820) وانتهي الأمر بأن نفاه محمد علي إلي بني غازي.

أما الأقباط فإننا نقرأ عن أحوالهم في أحد التقارير المودعة في وثائق الخارجية البريطانية «لا ريب أن نفوذ الأقباط آخذ في الازدياد وهم الأكثر تعليما ومنهم المساحون والنساخون والصيارفة والوزانون وكتبة الحسابات أي هم الطبقة المتعلمة» وتمضي الوثيقة «وفي الريف لا تكاد عادات الأقباط أن تتخلف عن عادات أبناء المسلمين، وفيهم ما في أبناء المسلمين، من روح المحافظة، ولا فرق بين الطائفتين في أسلوب الحياة المنزلية وهم كالمسلمين يؤمنون بالخرافات الشائعة غير أن استعداد المسيحيين لتصديق الخرافات عند المسلمين أكثر من استعداد المسلمين لتصديق خرافات المسيحيين» (د. محمد فؤاد شكري المرجع السابق – ص387).

وثمة تقرير مهم جدا عن أوضاع المصريين في عهد محمد علي هو تقرير يورنج وسوف نتحدث عنه طويلا فيما بعد لكننا سنكتفي الآن بالفقرة التالية «إن اختلاف اللون لا يستدعي التمييز عند محمد علي عند تولي الرتب والمناصب في أي ناحية فالباشا وكذلك الرأي العام ينظر إلي السود والبيض نظرة متساوية ولهذا سرعان ما تمتزج الأجناس وفي عهد الباشا تكاثرت الزيجات بين السود والمصريات وأكثر منه شيوعا زواج زنجيات وأثيوبيات ونوبيات برجال سمر وبيض.

ومع كل هذا القدر من الانفتاح بين الأجناس المختلفة فقد ترفع الأتراك والشراكسة عن الامتزاج بأبناء الفلاحين، وكان حرص محمد علي منصبا علي إبعادهم عن التأثير علي مشروعه في بناء جيش حديث فقد استدعي قادة فرنسيين وإيطاليين أشهرهم سليمان باشا الفرنساوي وتعمد أن تكون أول مدرسة لتدريب أبناء الفلاحين علي الفنون العسكرية في أسوان ثم في منقباد لكي يبتعدوا تماما عن أي تداخل مع العسكريين الأتراك والشركس.

ونمضي مع محمد علي في مشروعه لبناء دولة حديثة وعلاقة ذلك بالمرأة المصرية.