امراة تتحدث مع وردة



نعيم عبد مهلهل
2005 / 5 / 2

الى أميرة ..
حدث هذا قبل زمن طويل، كنت من الذين يترددون على زيارة المكتبة العامة في المدينة ،عندما وجدت هذا المخطوط،الذي جاهد مؤلفه كثيرا في تحسين خطه لكي يترك لنا تلك الكلمات المرتعشة التي تتحدث بخجل عن علاقة قديمة بين امرأة ووردة.كان ذلك كما قال المؤلف والذي ثبت عنوان وظيفته في أول الصفحة ،حدث،في عهود لم يبق منها سوى الحجر والتراب.وظيفة المدون كانت مرافق أداري مع البعثة الأثرية التي بدأت في عشرينيات القرن الماضي في التنقيب بتلال آور ومقبرتها المقدسة ، ثبت الرجل هذه المعلومات كمقدمة لمخطوطة ،وقال فيه أن رئيس البعثة كانت ترافقه زوجته ،وخبير بفك رموز اللغة المسمارية ،وهو رجل دين أرثدوكسي ،وعن ملاحظاته ،انتبهت الى وصفه الدقيق لتصرفات زوجة رئيس البعثة ،وقال أنها متجهمة طوال الوقت ،وطوال مدة التنقيب التي استمرت عامين لم يناما في فراش واحد ،فلقد كان لها غرفتها الخاصة لاتسمح لأحد بدخولها سوى عامل الحفر حمودي ،وهو ليس من أعراب المنطقة بل جلبوه معهم من منطقة جزيرة الموصل حين كانوا ينقبون في منطقة { خرنا باد }.ويقال أنه يدخل أليها بموافقة زوجها كي يدلك لها كتفيها وساقيها ،لأنها أصيبت بالروماتيزم من رطوبة الأقبية الأثرية.السعادة الوحيدة التي ترتسم على وجه هذه السيدة المتجهمة هي عندما تختلي داخل أقبية أمراء سومر ،حيث لاشئ سوى الهياكل العظمية لأولئك الملوك ومن معهم من الحاشية والخدم ،وكان الهمس المتداول أنها تفعل معهم شيئا{ والعياذ بالله }. وكتب مدون الكتيب الذي اصفرت أوراقه من تراكم الكتب عليه ،وهو أصلا أهداه مؤلفه وفاءا للمدينة وأهلها ،ولأنه مستنسخ بخط اليد فلم يقرأه أحد ،حتى أمين المكتبة السيد { صبري حامد}تصوره خواطر متأخرة لكهل بات يهذي بعاطفة الأطفال وهو ما يصيب الكهول فعلا عندما يكبرون ،أخذ الكتاب من الشيخ حتى دون أن ينتبه الى عنوانه ليعطيه الى الموظفة كي تضع له رقما في سجل الواردة ويصبح منذ تلك اللحظة من ممتلكات الدولة . وفي أول الصفحة كتب إهداء ا رقيقا يقول:هذه محاورة في لوح قديم ،ترجمتها الى العربية بعد أن تعلمت من القس البريطاني الذي وحده من كان يفك طلاسم اللغة السومرية ،ولأنني كنت أخشى إظهار هذه القصة حتى لا أتعرض الى عدم التصديق ويقال أنها من تأليفي ،فأكون بذلك قد خلقت جدلا أنا في معزل عنه لأني كتبت هذه القصة في عام 1921 فيما ظهرت القصة العراقية في ثلاثينيات القرن ،فتعطى الريادة لي وأطالب بأعمال أخرى ،وأنا ليس لدي سوى هذا الكتيب المترجم بجهد ثلاث سنين ،فيا أيها القارئ العزيز ،أن فرغت من قراءته ترحم على روحي قليلا وأقرأ سورة الفاتحة.فأني أهدي هذا الجهد المتواضع إليك وليس الى سواك ..
قلت الى السيدة أمينة المكتبة :أريد أن أستعير هذا الكتاب .
قالت :هذا مخطوط لم يستعره أحد غيرك ،وهو مسجل لدينا منذ عام 1960واليوم نحن في 2002.هل أغراك فيه شئ ؟
ـ نعم إهدائه جميل وغريب ،وعنوانه مغر { امرأة تتحدث مع وردة }
قالت أمينة المكتبة العزباء،وقد طفحت على خديها أمواج وردية :ربما هي مثلي لم تحصل على المرام .
ـ ربما ،وربما العشق أوصلها لتجعل من تلك الوردة رسالة تبعثها لحبيبها؟
ـ ربما؟! قالت ذلك ،:لماذا لا تقرأه هنا ،أوراقه قليلة .
ـ في هاجس أنني سأقضي مع هذا الكتاب أجمل ليلة .
ـ قالت زميلتها :أجمل الليالي ذهبت مع ليلة العرس!
ـ وربما تعود مع كتاب جميل .
ـ ولكن لاأ ظن مع هذا الكتاب الشاحب !
ـ هل تعلمين أن كتابا عن أجمل القصائد الصينية وجد مرميا بخربة لأكثر من ألف عام .جامعة بكين بشحمها ولحمها استعانت بخبراء الغرب كي يرمموا هذا الكتاب .
ـ ولكن ليس هذا الدفتر المسكين الذي كلما يصادفني في الجرد السنوي يشعرني بهم سنة جديدة تمر ولم يطرق الباب أحد.
قلت :أيتها الحرب.ما أكثر العوانس في هذا البلد.!!
ناولتني الكتيب ولم تسجله في دفتر الإعارة ،قائلة :أحتفظ به ,فلقد استهلكناه منذ عشر سنوات.
ـ قلت مستغربا،وهل تستهلك الكتب؟
ـ قالت وفي عينيها خيبة رمادية :أعمارنا تستهلك ،فكيف لا يستهلك هذا الورق الرقيق!
أخذت المدونة الصغيرة ،وضعتها في الجيب الذي يلامس القلب في بطانة معطفي،فشعرت بنبضات رقيقة غير نبضات قلبي،وقتها شعرت أن ثمة قلبا حيا لازال يعيش بين الأوراق .وحتما سأتعرف أليه حالما أصل الى البيت.
وصلت الى البيت ، قلت لزوجتي :دعيني معه ،لأريد أحدا يدخل الغرفة.
ـ ومن معك وأنت وحدك؟
ـ معي هذا الكتاب.
قالت وهي تضحك على جديتي :وهل هذا الكتاب مذكرات { شوارزكوف }؟
قلت:ربما حتى أهم من أب { شوارزكوف}.
قالت وهي التي تختص بتدريس التاريخ رغم إجازات الأمومة المتكررة:كيف وأبوه هو من أسقط حكومة مصدق الوطنية؟
ـ قلت :بالنسبة للمثقفين ،الذين يسقطون الحكومات الوطنية ليسوا مهمين .ولو فعلها {شوارزكوف}الابن في عام 1991 لكان مهم جدا.
ـ قالت وهي ترتعش:أصمت أن للحيطان مسامع.
وصمت.صمتا طويلا ،وأنا أمتع ذاكرتي وثقافتي بترجمة قد تعجز عنها الكثير من الحداثات وخاصة تلك التي تهم موضوعة الحب .وكما يقول لويس أراكون لحبيبته {أليزا}: وهل هناك شيء غير الحب!
تقول المدونة في البدء على لسان امرأة تتحدث مع وردة : أن الآلهة تضع الحب تحت قماط الرضيع منذ الأيام الأولى، وأنت أيتها الوردة الصغيرة لاقماط لديك ،فكيف أصبحت رمزا للحب .
ـ ألا يكفي جمالي ولوني الأبيض كثوب عروس لأكون رمزا؟
ـ لا يكفي .عشتار جميلة جدا ،وترتدي أجمل الثياب البيض ،ولكنها تقتل كل من تعشقه بعد أن تشبع منه.
ـ ألا يكفي أنني أمنح حياتي نذرا لعاشق يقطفني هدية لمن يحب ،وأكون عربون محبة؟
ـ لا يكفي .ربما قصيدة جميلة يدونها هذا العاشق في لوح صغير ،أجمل منك كثيرا ،وأنت تعلمين أنك تذبلين حالما تقطعين من الحديقة،واللوح سيبقى عامرا لسنين طوال.
ـ أنا مثال للبساطة بشكلي الصغير ،وأنني الحي الوحيد في الوجود من يحمل ألوانا جميلة ومتعددة.
ـ الابتسامة صغيرة ،ولها ألف لون.
ـ ولكن لوني له معنى واحد يدل على النقاء،أما الابتسامة ،فلها أكثر من معنى،الابتسامة الحقيقية،والماكرة،والخبيثة،وأنواع أخرى.
ـ الورد أيضا بلونه له مدلولات كثيرة.الأصفر للغيرة،والأحمر للعنف،والأزرق للنقاء ،وأنواع أخرى.
ـ أنا بين كائنات العالم كله من تحفر الآلهة صورتها على كراسي الأبنوس التي تجلس عليها في العلا البعيدة.وعندما تنهي شجارها مع بعضها،أكون أنا عنوان المصالحة،فأنا وحدي من أكون عنوان محبة بين المتخاصمين حتى لو كانوا آلهة.
ـ ربما ،لكن في الجهة الأخرى من الكرسي حفرت صورة أنسان يمسك كأسا نذريا فيه لبن ،وعندما تتشاجر الآلهة ،تحتكم الى الإنسان ،وفاء منها ،لأنه هو من صنعها ،وجعلها بعدة عناوين،والحب واحدا من هذه العناوين.
ـ أنا أرتبط بواحد من أجمل فصول السنة،فصل الربيع ،وفيه تغدو الطبيعة جميلة أكثر من أي فصل آخر.وأنت تدرين أن الجمال توأم الحب.
ـ أعلم ذلك ،فما دمت ترهنين وجودك في فصل واحد.فهذا يعني عدم حاجة الحب إليك ،لأن الحب يعيش في كل الفصول ،أذن هو يحتاج الى رمز دائم.
ـ هناك أزهار تنمو في الصيف،وأخرى في الخريف.
ـ زهور الصيف تنتعش نهارا مع الشمس ،وتذبل في الليل ،وأنت تعلمين أن أجمل طقوس الحب هو مايتم ممارسته ليلا.أما زهور الخريف فهى منعزلة وكئيبة لأن البرد والمطر قد لا يسمحا بنزهة لعاشقين.
ـ وما فضل الإنسان هنا؟
ـ أنه يستطيع أن يعبر عن حبه في كل الفصول.
الى هنا وبدأ الخرم في اللوح .وبدا لي كما يقول من دون هذا الكتيب الصغير من الكلمات المتناثرة هنا وهناك ،أن ثمة رؤى جميلة لفلسفة تهم ذلك الوجود ،وأن المفاضلة بين الوجود والعدم كان أيضا شغلا شاغلا لأنسان تلك الأزمان.وهذا ما وجدته في بعض الجمل التي سلمت من الخرم،كتلك التي تقول على لسان المرأة وهذا كان قبل سبعة آلاف عام تقريبا:أن الحياة أيتها الوردة تظهر الجمال لنا على طبق من ذهب ،وما علينا سوى الانتقاء ،ولكننا في أغلب الأحيان لانحسن الانتقاء ،فتصاب حياتنا بالإرباك ،وحروب السلالات مثلا نتاج من نتاجات هذا الإرباك.ولكي نتخلص من مآسي تلك الحروب وويلاتها نتوجه الى الآلهة طائعين حتى من دون قناعة في بعض الأحيان ،على أساس أن هذا الإله ليس سوى دمية نصنعها بأيدينا ،فكيف أذن يخلصنا من حرب تأكل رجالا بعضهم بحجم نخلة في الطول وله جثة أسد.
ـ ردت الوردة بجملة ،خرمت نهايتها:الجمال تمنحه الحياة كاملا .وألانسان لديه عقل يوزن فيه الأمور التي يتعامل بها مع هذا الجمال. أما لماذا لا يخطأ في تعامله مع المرأة وهي أحد رموز الجمال في الطبيعة.؟لأنه يتعامل معها وفق منهج ثابت لاحياد عنه ،هي أن تكون شريكة فراشه الدائم ،ولم يستعض عنها في هذا الفراش أي كائن آخر . .{ الى هنا أبتدأ الخرم ولا أدري ماذا قالت الوردة بعد ذلك.}
جملة أخرى تقول فيها الوردة :أن الحب كيان يتنفس برئة غير رئة الذي يحمل هذا الحب ،ومرات يغادر الحب جسد صاحبه ويذهب ليتمشى وحده ليراقب الناس والحياة بعينيه هو وليس بعيني صاحبه .وكما تعلمين ،أن الحب….{ الكتابة مخرومة }
حديث للوردة لم أفهم مقدمته ،لكنها تقول هنا:وعلى هذا الأساس تفعل الآلهة ما تريده حتى دون أن تستشير من صنعوها من ماء وطين.{ ما تلاه مخروم }سوى كلمات متناثرة مثل:موت،حب ،سعادة،تعذيب،أوروك } .يقول كاتب المدونة البالية الأوراق أنه فهم من سياق حديث المرأة مع الوردة:أن هذه المفردات المتناثرة تعني الجمل التالية،والحديث هنا على لسان الوردة: أن الموت وفي لحظة حب صافية ،يغطي وجهه برداء من أردية { أيريش ككال } وهي الآلهة التي تحرس بوابات العالم السفلي، وبعبارة أخرى الموت يرتدي لون الخجل وهو يرى سعادة الحب،وكمن يتعرض الى تعذيب الضمير ،يلملم حاجاته ويذهب الى مدينة أوروك البعيدة.
كم من الأشياء الجميلة يحمل هذا الدفتر المغطى بتراب النسيان ،وأي قدرة يمتلك هذا الرجل الرائع وهو يدون ما يراه أمرا ملزما أن يري أي باحث عن المتعة جمال ما كنا نظنه أنه مجرد حجر ملحد هذا الذي لم يبقى منه سوى الشواهد والعناوين التاريخية ،متذكرا ما أورده أر نولد توينبي أن كان هذا الاسم صحيحا؛ فأنا أنقله عن الرجل،كما دونه في ملاحظاته القصيرة عن طقوس كتابة هذا المخطوط،أن أرنولد وهو ربما يعني الفيلسوف والعلامة التاريخي توينبي يقول:أن الشاهد التاريخي لا يحاكم ،بل يقدر ،حتى لو كانت مذكرات الإمبراطور الظالم نيرون.يقول بجملة طيعة ومسكينة :أنه أورد كلمات المؤرخ أعلاه حتى لا يقال عنه أنه متأثر بديانة الحجر.ويقول عن نفسه :أنه ما تأخر يوما عن صلاة،ولاصيام ،ولولا العوز لكنت قد ذهبت الى الحج عشرة مرات .لكنني أحج في الموسم بقلبي وذلك أضعف الأيمان .وعن الحجر أريكم قولا لأحد متصوفة فارس ،وربما هو بيت لشاعرهم { سعدي}،لا أدري بالضبط بسبب العمر ،والكلام لم يزل لكاتب المدونة،هذا المتصوف يقول :أتبع هوى الحجر ولا تتبع هوى السفينة ،فهو من يقودك الى شاطئ الأمان.أنا أخذت بنصيحته فذهبت مع هوى الحجر .لأني قرأت فيه وعلى لسان الوردة ما عجز عن قوله فقهاء هذا الزمان ،وأغلبهم من داخت السياسة بهم وداخوا بها،أما ما تحدثت عنه الوردة فهو كشف لعاطفة قد تساوي تماما تلك العاطفة التي سكنت جسد كاهنة الشعر {رابعة العدوية}.لهذا سوف لن ألام على صداقتي للحجر ،وكل أدانه أتحملها ،لكن بدون تعويض .فما يؤلمني في هذا الحياة أني سألاقي ربي ولم أترك لعيالي بيتا يملكوه كنت ولا أزال مؤجرا في زقاق ،عراك الديكة فيه أكثر من عراك البشر ،ورغم ذلك ترجمت لوح المحاورة بين المرأة والوردة وكأنني جالس على حافة جبل أخضر في مصيف شقلاوة .وهذا دليل أن الأدب يكتب حتى لو وسط أفران الخبز.متذكرا ما قرأته في لوح قديم أيام التنقيب على لسان شاعر سومري قوله : { وسياط رب عملي تلسع ظهري ،جاءتني ربة الشعر وأملت علي هذه القصيدة.}وأنا مثل هاجس السومري:لا يأتيني الهام الكتابة ألا عندما تتعارك الديكة.
في المدونة كلام كثير من تلك الميثولوجيا التي تملك سحر مدهشا.وكم كانت متعة جميلة في تلك الليلة التي انقطعت فيها الكهرباء مرتين بسبب البرمجة التي تسمح للعاصمة أن تنام تحت تبريد المكيف ولا تسمح لنا كي نمتع ذواكرنا بالكتب الجميلة ،ورغم هذا أعانني الفانوس لأكمل ذلك الشجن الذي أرتقي الى أجمل الفلسفات بين امرأة تريد ان تسلب حقا طبيعيا للورد كي يكون رمزا للحب والجمال.وقد طالت حجج الاثنين الى الحد الذي غلبني فيه النعاس ونمت ،وأستطيع أن أحصي كم مرة زارتني هذه الفاتنة السومرية وهي تمسك وردة بيضاء ضاحكة مثل ملكة جمال لحظة أعلان تتويجها ،وكان مع الزائرين كهل كبير السن يشعل بين عينيه كلمات شكر وثناء ،ومن بدلته التي تشبه تماما بدلة معلمي في المدرسة الابتدائية ،عرفت أن هذا الرجل هو من دون هذا المخطوط.