امرأة من جورجيا



فهد المضحكي
2013 / 8 / 24

كان المطر في الخارج ينهمر بقوة، وقفت عند اسفل الدرج الخشبي تتأمل لفيفاً من نزلاء الفندق، عيناها الصغيرتان تنظران الى احذيتهم الرطبة، يأتي صوتها الخافت: حسناً سأعمل بجهد لإزالة بقع المياه التي خلّفتها تلك الاحذية، ورغم التعب الذي كان يسكن مفاصلها مسكت المجففة وراحت تمسح الارض بشده.
وفجأة تمتمت بصوت مسموع قالت وهي متجهة نحو المطبخ: لعلني أجد مجففة افضل منها!
هكذا ترجم لي موظف الاستقبال الجورجي «ديفيد» ما قالته تلك العاملة التي تجاوزت الخمسين عاماً بقليل أو كادت. وهكذا كل صباح تدبّ الحيوية في عروقها وهي تصافح النزلاء ببسمه عذبة.. وهكذا كلما تذكرت احزان هذه المدينة المتهالكة التي تئن تحت وطأة الفقر وأطماع المافيا اعداء الكادحين والانسانية تقول في نفسها: اللعنة على أولئك الذين قتلوا الحب وسلبوا الحياة وخانوا الوطن بعد ان كان كل يوم يصحوا على أشعة الشمس يتلمس اجمل سنواته وأجمل حكايات الحب وكلمات النشيد الاممي.. اللعنة على اولئك الخونة الذين باعوا الأوطان في زمن ضج بالمتاجرين والانتهازيين وبالطارئين السياسيين الذي لم ينحازوا قط الى الوطن بل الى الامريكان الذين دمروا جورجيا وغيرها من الأوطان!
كانت منهكة عندما دخل الى البهو نزلاء جدد، كانت خطوط غائرة تملأ جبينها، عيناها غائرتان تخفيان حسرات وحلماً بحياة افضل، وفي اعماق ذاتها كانت تتساءل: كم مرّ من الزمن الذي يفصلنا؟ زمن راهن فيه السماسرة الذين يتربّصون بالوطن مقابل حفنة من الدولارات.. زمن تقاسم فيه اللصوص وعشاق السحر والخرافة وتجار الأفيون والنساء ثرواته.. زمن أصر فيه الممثلون الفاشلون القيام بدور القديسين في مسرحية ضعيفة فاشلة.. زمن ضجت فيه الطرقات والأرصفة بالمشردين والمتسولين والعاطلين عن العمل!
في تلك اللحظة نزل مطر غزير، هبت رياح شديدة، انتفض البرق في ايقاعات مليئة بالاضواء وكلما سقط المطر بقوة قالت المرأة في صوت فرح: لم أكن مخطئة عندما قلت: اليوم قد تشتد العاصفة وتغتسل المدينة من جرم القتلة والعابثين الذين حوّلوا «جورجيا» من أرض الزهور والسلام الى أرض يتوه فيها الفقراء، الى ارض تحاك فيها المؤامرات ضد الشيوعيين! كم كان ملاحقة الشرفاء قاسياً؟
في حينها تساءلت لماذا كلما اشتدت العاصفة في الخارج اتسعت حدقتا عينيها؟ لماذا هي فرحه؟
لماذا يلمع صدى ابتسامتها في عينيها اللتين كانتا بلون السماء الزرقاء؟ هل لأنها تذكرت الرائعة الأدبية «نذير العاصفة» للمبدع مسكيم جوركي التي تُعد صرخة من الاعماق وهو يقول فيها: السحب تتجمع وتتكاثف فوق صفحة البحر العريضة القائمة والأمواح الغاضبة.
إنه يطير وبجناحيه يشق الأمواج، وبالجناح الآخر يمزق وجه السحب. إنه يصيح والسحب تصغي فرحة الى صيحات نذير العاصفة، لأن في دعائه الشجاعة والإيمان السامي بالنصر. ولكن طيور البحر تصرخ وتحاول الخلاص من اسر الأمواج وطيور «الغطاس» التي لا تعرف افراح الجهاد تجأر مثلها تصرخ وطيور السنجاب الحمقاء تخفي أجسامها السمينة خلف الصخور. ها هو نذير العاصفة يحوم وحده الآن بين الأمواج شجاعاً حراً غاضباً. والامواج تطغى وتثور وتكاد تحجب سطح البحر. الأمواج تغني، وترقص رقصها الوحشي، وتصعد هادرة نحو الرعد فيلتحمان في صراع رهيب وينفجر الرعد شذراً.
الامواج تثور وتجأر غضباً وتصارع العاصفة في عنفوان مخيف. فيلاقيها الاعصار ويحتويها بين أحضانه ويرطمها بالصخور في ثورة ووحشية. وترتفع الصخور شامخة متألقة بحبات الزمرد واللؤلؤ. ونذير العاصفة يسري خفية وقد علق بجناحيه الزبد، يضحك ويبكي يضحك من العاصفة ويبكي فرحاً فقد عرف ان الرعد ستنطفئ حممه وأن الظلمات لن تحجب الشمس طويلاً. ولكن العاصفة تشتد والصاعقة تنقض والامواج تحترق لهباً زرقاء، فوق هاوية المحيط، والمحيط يمسك بالبروق ويغيبها في أعماقه فتندلع سهامها النارية كالثعابين تخترق كبد الامواج، وهي تتلاشى رويداً. وصاح نذير العاصفة والمحيط في عنفوان الغضب:
ــ العاصفة! العاصفة!
فجاوبه نذير النصر:
ــ آه، لو تشتد العاصفة وتعنف.
هكذا تساءلت وأنا أراقب عن كثب تلك المرأة التي انتابها الضعف من شدة وطأت الحياة عليها ولكنها تبتسم بلا انقطاع فرحة بالعاصفة.
نظرت الى «ديفيد» مندهشاً من فرحها للعاصفة ولزمت الصمت وقلت في داخلي:
فلتشتد العاصفة حتى يلمع وجه الفجر وتلمع خيوط الصباح وترفرف الرايات الحمراء من جديد فوق ارض الزهور والسلام التي أنجبت الرجل الفولاذي جوزيف ستالين.