الحجاب - غطاء لغنيمة الجهاد والاجتهاد الذكوري



ميثم الجنابي
2005 / 5 / 17

ان معاينة ما يجري واستقراء حيثيات التجربة التاريخية المعاصرة للعالم العربي فيما يتعلق بقضية الحجاب وتعميم المواقف منها يوصلنا الى استنتاج مفاده ان ارتفاعها، وبالاخص بعد القرار الفرنسي الشهير، الى سماء المطالب السياسية العالمية هو مؤشر علني على خفاء الفضيحة الشاملة للجسد العربي والاسلامي في قدرته على تخبئة تخلفه المزري.
فالدفاع الظاهري العنيد عن قيمة الحجاب "الروحية" و"الاسلامية" و"الاخلاقية" و"المعنوية" هو الوجه الاخر لغياب القيم الروحية والاسلامية والاخلاقية والمعنوية. فعندما نضع الحجاب ضمن سياق المعاصرة فانه يبدو العروة الوحيدة "للاصالة الاسلامية"، وعندما نضعه بمعايير الاخلاق، فانه يبدو الصيغة الوحيدة لتبرير خصوصية الاخلاق الاسلامية، وعندما نضعه بمعايير الحرية، فانه يبدو الصيغة الوحيدة للدفاع عن حقوق العبودية المغلفة بخصوصية اللباس الاسلامي!
اننا نعثر في كل هذه "المواجهات" على صيغة واحدة تعبر عن واحدية التخلف الاجتماعي والثقافي والحضاري التي تلف العالم العربي والاسلامي فيما يتعلق بقضية المرأة عموما وحقوقها بشكل خاص. ولا يغير من هذه الحقيقة مظاهر المظاهرات النسوية، بما في ذلك في اوربا والعالم العربي التي بلغت حد "القرار الحاسم" باعلان يوم الدفاع عن الحجاب. والقضية هنا ليست فقط في ان حق العبيد بالدفاع عن العبودية ليس دليلا على صلاحها، بل ولما في هذا الدفاع من اشارة الى عمق وشمول التشوه المادي والمعنوي لفكرة الحرية والاصالة.
اذ ليس الدفاع العنيد والمرير والمزيف لحد ما عن "حجاب المرأة" سوى الصيغة المقلوبة لمحاولات تخبئة الشئ الوحيد الذي يمكن التميز به في السباق الحضاري المعاصر. بعبارة اخرى ليس الدفاع عن الحجاب سوى الصيغة التقليدية للدفاع عن "اصالة" لا رصيد لها في العالم العربي والاسلامي المعاصر غير المرأة! ومفارقة الظاهرة تقوم في انها الكيان الاكثر امتهانا بمعايير الحرية الفردية والاجتماعية. وهو الامر الذي يعطي لنا امكانية القول، بان الدفاع عن الحجاب هو الدفاع عن عبودية مغلفة بغطاء "الاصالة"، اي عن اصالة مغلفة بغشاء مزيف. وذلك لان الحجاب ايا كان شكله ولونه لا اصالة فيه من حيث المضمون والمعنى. اما محاولات تحويله الى رمز في "صراع الحضارات" فهو دليل على منظومية الانحطاط في العالم العربي والاسلامي.
طبعا ان الصراع حول الحجاب ليس بعيدا عن متغيرات السياسة ومشاريعها العملية. الا ان الانجرار وراءها هو بحد ذاته دليلا على انحطاط الفعل السياسي العربي والاسلامي والانسياق وراء غطاء مزيف لجعله رداء للحرية والاصالة. لكننا حالما نضعه ضمن مشاريع وسياق الصراع الاجتماعي والسياسي الدائر في العالم العربي المعاصر، فانه يبرز بوصفه الحجاب المعنوي بين تيارين واتجاهين وعالمين ومستقبلين. باختصار انه يرمز الى صراع دائر بين تيار يريد النظر الى المستقبل من وراء حجاب داكن تصبح عبره الالوان والمسافات مجرد مساحات داكنة، وبين تيار يريد النظر الى الاشياء كما هي. وهو صراع ليس جديدا، الا ان غرابته تقوم في محاولاته استرجاع منظومة التخلف التي ابتدأ العالم العربي قبل قرن من الزمن تذليلها من خلال جعل مهمة تحرير المرأة والسفور شعارها الاكبر. بينما يصبح الحجاب بعد قرن من الزمن شعار العالم العربي في الدفاع عن اصالته وحريته! وهو انقلاب يعبر من حيث الرمز والواقع عن مستوى الخلل الجوهري في بنية الدولة والمجتمع والثقافة وانهيار قيم الحرية والتحرر والعقلانية، اي عن فشل مشروع النهضة والحداثة.
اننا نستطيع، بل وينبغي ان نرى في الاشارة الرمزية لقيمة الحجاب ليس رجوعا الى قيم الاسلام، بل انقلابا عليها. وذلك لانها تجعل من الغشاء والغطاء والمستور شعار الاسلام الاكبر، بمعنى ارجاعه الى مجرد حجاب يحجب المرء عن ادراك حقيقة العالم المعاصر، ومن ثم جعل الاسلام عروة الانغلاق المادي والمعنوي. وهي مفارقة اقل ما يقال فيها تناقضها مع ابسط مقومات الحياة والواقع، كما انها تتناقض مع كل ما ترمي اليه. وذلك لان سلاح الحجاب لا يستغل فقط نتاج العولمة التي يجري لعنها بصورة خشنة، بل والعمل من خلالها للتعبير عن قيمته! وهي مفارقة تعبير عن عمق الشرخ المادي والمعنوي في رؤية حقائق الاشياء. اذ ليس الدفاع عن حرية الحجاب سوى اسلوب تقديس المزيف للدفاع عن العبودية المغلفة بغشاء جنسي لا حشمة فيه! وقد يكون هذا، كما يقال، مربط الفرس، اي سر المشكلة!
فحقيقة الحجاب بالمعنى الوجودي هي الصيغة الملازمة للاخفاء والاختفاء، وبالمعنى الاخلاقي هي الصيغة المناسبة لرفع القيم الى مصاف السر المتسامي والرمز المثير، وبالمعنى السياسي والاجتماعي هي الصيغة المعبرة عن حالة التمايز والاختلاف. وهي صيغ تاريخية رافقت تطور الحضارة وثقافات الامم. وعموما ليس السر بالمعنى الوجودي والاخلاقي والسياسي والاجتماعي سوى الوجه الاكثر تعقيدا للانفتاح، اي لعلاقة الظاهر بالباطن في مختلف اشكالها ومستوياتها وتجلياتها. وهي امور عادية من وجهة النظر التاريخية والثقافية، الا انها حالما ترتقي الى مصاف الرمز الديني والاخلاقي فإنها تصنع اشكاليات من طراز خاص لعل اكثرها تعقيدا هو ذاك الذي يرافق تحويل الانعزال الى شريعة، وتقديس الحجاب والاحتجاب، بينما حقيقة الله تفترض الانفتاح وقطع العلائق (الوسائط). وليس اعتباطا ان تصل المتصوفة، بوصفهم مثلي الروح المطلق والاكثر سموا في التقاليد الاسلامية، الى اعتبار كل شئ حجاب، انطلاقا من ان الاشياء والعلاقات والقيم غالبا ما تحجب المرء بفعل شرطيتها عن رؤية حقائق الاشياء كما هي. لهذا قالوا حتى العلم حجاب، بمعنى امكانية تحوله الى حاجب يحجب حقيقة الرؤية او يجعل منه اداة لخدمة سلطان او رذيلة. وذلك لان حقيقة العلم تقوم في خدمة الحق (المطلق) وهو فعل لا يتناهى في المعرفة والاخلاق. من هنا لا حجاب على الحقيقة سوى ما يعرقل امكانية الرقي والسمو الدائمين. وهي فكرة ذللت المعنى التقليدي والظاهري للحجاب بكل اشكاله واصنافه السياسية والاجتماعية والروحية والدينية من خلال تذويبه في مهمة تذليل فكرة الحجاب.
لقد كانت الفكرة الانفة الذكر الذروة التي وصلت اليها الرؤية الاسلامية. وهي ذروة كانت تتضمن نفي وتذليل كل اصناف الزيف المادي والمعنوي في الحجاب. فقد اعتبر المتصوفة كل ما في الوجود خرقة ينبغي رميها امام جلال المطلق وجماله، بينما لا نرى في اغلب "تنظيرات" الحركات الاسلامية المعاصرة فيما يتعلق بالحجاب سوى حمية مبالغ فيها من اجل رمي جلال وجمال الوجه الانساني بوصفه الابداع الاكثر كمالا "للصنعة الالهية" وراء خمائل العتمة المرفوعة الى مصاف المطلق. وهو انقلاب عقائدي وروحي واخلاقي يهشم كل معنى التجارب الانسانية الاسلامية ويرمي بها الى سلة المهملات السلفية بوصفها خزين الثروة العفنة للانحطاط والتخلف. وان يجري تقديم هذه العفونة على انها رائحة الرحمن في موقفه من الانسان! وهي رائحة تحتوي في اعماقها على دخان الجنس المحروق بكبت الدين والدنيا، اي الجنس المكبوت بثنايا العبارة الدينية وخبايا البنية التقليدية للاجتماع والوعي.
كل ذلك يعطي لنا امكانية القول بان ماهية الحجاب في دعاوى الحركات الاسلامية المعاصرة لا تتعدى كونها دفاعا عن غطاء جنسي لا حشمة فيه. كما يعطي لنا امكانية الحكم على ان فتاويها بصدد حقيقته (الحجاب) لا تعدو كونها دفاعا عن غنيمة الجهاد والاجتهاد الذكوري.
لقد جعلوا من حجاب المرأة عازلا مخمليا للشهوة، وعازلا اجتماعيا لاغتصابها بالمال والاغراء المبتذل. وبهذا يكونوا قد بلغوا الذروة المقلوبة لرفعة الفكر الاسلامي من خلال جعل حجاب المرأة، اي حجبها، الغنيمة الرجالية الكبرى في التاريخ العربي المعاصر والتي لا رجولة فيها! بمعنى جعل جسد المرأة غنيمة الجهاد والاجتهاد الذكوري، بحيث تحول الحصول عليها و"فتحها" مأثرة! ومن ثم رفع هذه "المأثرة" الى مصاف الجهاد مع انها لذة فقط، ورفعها الى مصاف الاجتهاد مع انه فعل بلا عقل! وهو زواج لا تعني معقوليته ومقبوليته في الفكر الاسلامي السياسي المعاصر سوى توليف اللذة واللاعقلانية في هراوة هي الاكثر خشونة في ايدي العبودية الجديدة والاستبداد السياسي المتخلف. وليس مصادفة ان يكون نصف الرياء الاخلاقي السائد في العالم العربي المعاصر (والذي لا معاصرة فيه) سببه الكبت الجنسي. ومن ثم لا يعني الدفاع عن الحجاب ورفعه الى مصاف "الواجب الديني" سوى المظهر الديني للرياء الاخلاقي والرغبة الجنسية المكبوتة. وليس مصادفة ان ينتشر الحجاب والدعوة اليه في مراحل الانحطاط السياسي العربي الحديث. فهو شكل من اشكال الاختباء وراء غشاء لا يحمي الروح ولا يطهّر الجسد. ففي العراق على سبيل المثال نرى استفحال ظاهرة الحجاب والدعوة اليه تبلغ ذروتها في مرحلة الانحلال المادي والمعنوي للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وهي نفس الظاهرة التي نعثر عليها في اغلب البلدان العربية والاسلامية.
ان حقيقة المعنى السياسي والاجتماعي للحجاب المعاصر تقوم في استكمال طوق العبودية والاستبداد ليشمل اهم ملامح الجسد بعد ان جرى تطويق واستعباد الروح والعقل والضمير. وهي مهمة تشارك بها بقدر متكافي الانظمة السياسية غير الشرعية من خلال توظيف "شرعية" الحجاب لحجب الروح والعقل والضمير والجسد عن اية مشاركة فعلية في تحرير الانسان من قهر السلطة والتدين المفتعل.
ان الحجاب المعاصر لا روح فيه! وحقيقة الحجاب تقوم في التخلي عنه ونقله الى الباطن بهيئة حدودا ترقي بالمرء الى مصاف التكامل الذاتي. وهو تكامل لا يمكن بلوغه الا بمعايير الحرية والمعاصرة والتحديث. وهي امكانية قائمة اساسا في العملية الضرورية لتكامل الفرد والمجتمع والدولة والسلطة والثقافة على اسس العقلانية والنزعة الانسانية، والمرسية على اسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني.
***