عمل المرأة داخل البيت!



أحمد القبانجي
2013 / 8 / 26

يطالعنا أتباع الإسلام الفقاهتي وأصحاب العقل التراثي بقراءاتهم التبجيلية لحقوق المرأة في الإسلام على مستوى العمل والكسب ولكن ليس بالضرورة أن يكون خارج البيت ولا حاجة لأن تتعب نفسها وتعرض كرامتها لمنزلقات الخضوع لمتطلبات الحياة ومشقات المعيشة، حتى أنّ بعض المتجددين إنزلق في هذه الدوّامة ومن بينهم السيد محمد حسين فضل الله حيث كتب يقول: «فالإسلام فتح للمرأة اُفقاً واسعاً يؤكد إنسانيتها بشكل لم تؤكده أية جماعة من الناس، أو أي مجتمع من المجتمعات، أو أي شريعة من الشرائع، فالمرأة في الإسلام ليست ربّة بيت بالمعنى الإلزامي لربّة البيت، لأنّ الإسلام لم يكلّفها بأي شأن من شؤون البيت، فهي ليست ملزمة بأن تقوم بأي عمل من أعمال البيت، بل إنّ الرجل مكلّف بأن يقدّم لها كل متطلبات حياتها الضرورية والكمالية من جهده، وقد بلغ الإسلام في هذا المجال حدّاً كبيراً بحيث جعل إرضاع ولدها غير ملزم لها، ومن الطبيعي أن تكون التربية في المجالات الاُخرى غير ملزمة لها في أي جانب. وقد اعتبر الإسلام عمل المرأة في البيت من الأعمال التي تستحق عليها الأجر، حتى الارضاع لو طلبت أجراً على إرضاع ولدها فعلى الزوج أن يدفع هذا الأجر لها» (تأملات اسلامية حول المرأة ص119). ويتواصل هذا الخطاب التبجيلي بما حققه الإسلام للمرأة في كتابات الإسلاميين مصحوباً بالنزعة التقديسية لهذه المطلقات الخاوية والتهويمات الأيديولوجية، فيقول أحد أقطابهم وهو محمد قطب هذا الصدد: «وهنا يحق للإسلام أن يفخر بما أعطى المرأة من كيان اقتصادي مستقل، فصارت تملك وتتصرف وتنتفع بشخصها مباشرة بلا وكالة...» (شبهات حول الاسلام ص118).
يا له من افتخار عظيم، وعظيم جدّاً..!
ونسأل هذا العالم الجليل، اذن أين كانت خديجة بنت خويلد وثروتها الطائلة قبل الإسلام بحيث إنّ محمداً نفسه كان قبل البعثة أحد المتاجرين بأموالها؟!
ألم تقر لها الجاهلية بحق الملكية والاستقلال الاقتصادي حتى وصلت إلى ما صلت إليه من الثراء.. فأين الفخر للإسلام بما أعطى للمرأة من كيان اقتصادي مستقل ـ كما يقول ـ وهل يعقل أن يعطي الإسلام أو أي مذهب ودين للإنسان ما هو حق فطري للإنسان؟!
ألم تصل المرأة قبل الإسلام إلى أن تتسلم أعلى المناصب السياسية والاجتماعية! فهذه بلقيس ملكة سبأ، وكليوباطرا ملكة مصر، وبنت كسرى ملك الفرس التي تقلّدت زمام الملك بعد البعثة ويروى أنّ النبي قال حينها «ما أفلح قوم وليتهم إمرأة» حيث كان ناظراً إلى هذه المرأة، فبعد هذا هل يبقى معنى للفخر المزعوم؟!
ثم إنّ هؤلاء الاُصوليين والتراثيين يتوغلون في خطابهم الديني بذهنية طوباوية حالمة ومنطق ايديولوجي ليدّعوا وبدون خجل أنّ من مفاخر الشريعة أنّها أعطت للمرأة الحق في أخذ الاُجرة على رضاع ابنها من أبيه!! في حين أنّ هذه الفتوى تستبطن أكبر إهانة للمرأة والاُم من خلال رؤية جاهلية مقيتة تقرر أنّ الطفل إنّما هو للأب وليست الاُم سوى وعاء للطفل وحاضنة له وحالها حال المرضعة الاُخرى التي تتقاضى الأجر على الارضاع، ولهذا يحق للرجل أخذ الطفل من اُمه ودفعه لمرضعة اُخرى إذا كان الأجر الذي تتقاضاه الاُم أكبر من أجر تلك المرضعة، ولكن ماذا عن حق الطفل؟ أليس هذا اللبن في ثدي الاُم من حقّه وأنّ الله تعالى خلق هذا اللبن له لا لغيره؟! أليس له الحق في الارتواء من حنان اُمه وعاطفتها الجياشة بما هو محتاج إليه نفسياً وروحياً كاحتياجه البدني إلى اللبن والماء؟! هل تستطيع المرضعة الاُخرى أن تفيض على الطفل من حبّها وحنانها وترويه من عواطفها كما تصنع الاُم؟! ثم أليست الاُم بما لها من انشداد عاطفي عظيم للطفل تحتاج بدورها للطفل لتروي في إرضاعه وخدمته والسهر على راحته ورعايته عاطفة الاُمومة المقدسة؟! فلماذا كل هذا التهميش والاقصاء لحق الاُم وحق الطفل والاقتصار على حق طلب الأجر لارضاع الطفل بحيث يفهم منه أنّ الاُم والمرضعة الاُخرى سيان، فكما يحق للمرضعة أن تطلب أجراً على إرضاع الطفل فكذلك يحق للاُم أن تطلب الأجر من أبيه!!
أخذ الأجر على عمل المرأة في البيت لا يقل إهانة للمرأة عما قبله حيث تتساوى الزوجة مع الخادمة في هذا الحق، وكما رأينا في باب الرضاع فإنّ الرجل له الحق في أن يأتي بخادمة للقيام بشؤون البيت من غسل الملابس وتنظيف البيت وطبخ الطعام إذا كان الأجر الذي تطلبه الزوجة من زوجها أكثر ممّا تطلبه الخادمة.. بل يحق للزوج أن يأتي بخادمة حتى لو لم تطلب الزوجة منه شيئاً أو يتزوج عليها ثانية، أو يطلقها.. فهل يعقل مع هذا الحال أن تتجرأ المرأة لتطلب أجراً من الزوج..! عندما يتشدق هؤلاء الكتّاب الإسلاميون بهذه الحقوق والامتيازات المذكورة في الفقه التقليدي للمرأة المسلمة فعليهم أن يضعوها مقابل الحقوق والامتيازات التي ذكرها الفقهاء للرجل ثم يتحركوا من موقع المفاخرة والتبجيل..
بديهي أنّ حقوق المرأة هذه (حق الاُجرة على الرضاع والعمل في البيت وحق التملك) إذا قيست بحقوق الرجل عليها تكون كالعصا مقابل البندقية بل مقابل دبابة، وما عسى أن تصنع العصا حينئذ؟ فمجرّد أن تتفوه المرأة بالمطالبة بالاُجرة أو تمتنع عن القيام بخدمة الرجل أو تهمل شؤون البيت فسوف يتحرك الرجل المقابل باستخدام حقوقه أو حق واحد وهو الزواج من اُخرى، أو الطلاق فهل يصح بعد هذا المفاخرة بمثل هذا الحق؟ ألا ينبغي أن نتأسف على الحالة الثقافية المتدنّية التي وصل إليها العقل الفقهي حتى يعتبر مثل هذه الفتاوى الفقهية أو (العورات الفكرية) امتيازات مهمّة منحها الدين الإسلامي للمرأة بحيث يمكنها أن تتبجح بها أمام الغرب والتيار الفمنيستي العلماني؟
ثم كيف يقررون دائماً أنّ مسؤولية المرأة في دائرة البيت الزوجي هي القيام باُمور البيت وتربية الأطفال ويعظّمون دور الاُم في الاُسرة ثم يقولون إنّ المرأة بالخيار في القيام بشؤون البيت وإرضاع الطفل وتربية الأطفال إن شاءت فعلت وإن شاءت تركت؟ ألا يعد هذا تناقضاً في الموقف؟!
الحقيقة أنّ الإسلام لم يضع مثل هذه الأحكام الشرعية لصالح المرأة على أساس مقولة الحقوق الزوجية، بل لجبران موقعها الضعيف في الاُسرة والمساهمة في عملية إفهام الرجل المتسلط بأن الزوجة إنسانة حرّة ذات كرامة ذاتية ولا ينبغي له اعتبارها كالأمة والجارية، هذا من الناحية النفسية..
ومن الناحية الاقتصادية أيضاً، فالمرأة تحتاج في حياتها الخاصة إلى المال من الزوج لا من موقع الذلة والمهانة، بل من حقها أن يكون لها ما تحتاجه من المال في غير دائرة النفقة الواجبة، وعلى الرجل أن يخصص لها مضافاً إلى النفقة، مرتباً شهرياً لنفقاتها الخاصة من دون أن يكون له منّة وفضل في ذلك حيث يكون هذا المقدار من المال في مقابل خدماتها البيتية.
وبعبارة اُخرى: هناك فرق بين الحق في دائرة الحقوق والحق في دائرة الأخلاق، وما ذكر من حكم شرعي في أخذ الاُجرة على الارضاع والعمل في البيت إنّما يصب في دائرة الحق الأخلاقي لا الحق الحقوقي، ولذلك لا يمكن وضعه في خانة حقوق الزوجة في مقابل حقوق الرجل لأنّه لا مقايسة بينهما..
والخلط بين هذين المعنيين لدى الفقهاء أفضى إلى مشاكل عويصة في محاكم الجمهورية الإسلامية حيث خرج الرجل والحال هذه مظلوماً، لأنّ كل من يقدم على الطلاق حتى وإن كانت له مبررات منطقية في ذلك سيفاجأ في المحكمة الإسلامية بمطالبة الزوجة لمبالغ باهظة كثمن لأتعابها في البيت واُجرة المثل لخدمات عشر سنوات أو أكثر في بيت الزوج مضافاً إلى المهر (الثقيل غالباً)، لأنّ المرأة تدعي أنّها لم تنو العمل المجاني في البيت، بل كان ذلك في مقابل أن تستمر الحياة الزوجية وأن لا يطلقها، ويكفي أن يدور في ذهنها هذا المعنى وإن لم تصرّح به (من قبيل الشرط الضمني).
والفرق بين الحق الأخلاقي والحق الحقوقي، أنّ الأول من قبيل قولنا: «حقّ المسلم على أخيه المسلم أن يحب له ما يحب لنفسه وأن يكره له ما يكره لها».
أو «من حق المسلم إذا مرض أن تعوده».
أو «حق الفقير أن تتصدق عليه».
فمثل هذه الحقوق لا تستلزم وجوباً وإلزاماً على الطرف المقابل، بخلاف الحق الحقوقي حيث يقابله وجوب على الطرف المقابل وهي مقولة (الحق ـ التكليف) فعندما يقال:
«من حق البائع أن يأخذ الثمن» فإنّ هذا الحق يوجب على المشتري دفع الثمن، وعندما يقال: «من حقّ الزوجة النفقة» فهذا الحق للزوجة يوجب على الزوج دفع النفقة، وهكذا.
وما نحن فيه من قبيل الحق الأخلاقي، لأنّ حقيقة عقد الزواج هو أن يقوم كل من الزوجين بما يسعه من أجل ديمومة الحياة المشتركة، فعندما يتفق الرجل والمرأة على بناء البيت الزوجي، فهذا يعني أنّ كل واحد منهما يلتزم بمجموعة من الواجبات والتعهدات ويتحمل قسطاً من مسؤولية الاُسرة بما يفرضه العرف الاجتماعي على كل واحد منهما، ومعلوم أنّ العرف في مجتمعاتنا الإسلامية كما يفرض النفقة على الزوج والسعي لتأمين الاُسرة مالياً، كذلك يفرض على الزوجة العمل في البيت والقيام بشؤونه الداخلية، وعليه فإنّ مثل هذا التعهد قد اُخذ ضمناً في عقد الزواج ولا داعي للتصريح به بعد كونه من أحكام العرف.
نعم لو تغيّر العرف الاجتماعي، أمكن أن يقال بتغير هذا الحكم الشرعي، كما تقدم في الفصول السابقة من اختلاف العرف في هذا الزمان وخاصة في بلاد الغرب عن العرف الإسلامي في قديم الأزمان، حيث فقدت القوامة معناها في البلدان المتقدمة وأضحى الزوجان يشتركان في كل شيء تقريباً ولذلك يمكن القول بتساوي الحقوق بينهما في كل شيء.