حين رأت جدها – لا تخافي



نضال الربضي
2013 / 11 / 6

كانت في الخامسة عشرة من عمرها ترى نفسها دوما ً غير قادرة على ما تستطيع الفتيات الأخريات أن يحصلن عليه. هو بنطلون جينز واحد و بلوزتان و حذاء، رصيدها من الملابس، مع شنطة كتب تحملها للسنة الثالثة على التوالي، فهي ما تزال جيدة.

لا يُسمح لها بأكثر من روج أحمر على شفتيها و ربطة لشعرها، و الأخيرة لم تعد ذات قيمة منذ أن تحجبت، أتتها أمها بحجابين كل ٌ بلون لكن الأبيض غالب على كليهما، و قالت لها: "مبروك يا بنيتي أصبحت ِ إمرأة الآن"، و لم يكن سوى هذا الإعلان ضروريا ً حتى تنفذ الفعل، ربما لأن كلمة "إمرأة" أشعرتها بأنها على أعتاب مرحلة ٍ جديدة علها فيها تجد سعادة ً لم تعرفها.

تستقل مع والدتها باص الأجرة مع الركاب، و يأخذها الخيال بعيدا ً فترى نفسها في داخل الفلل الفخمة، لكنها دائما ً بدون أثاث، فعقلها الصغير لا يعرف كيف يكون شكل الأثاث عند عُلية القوم، لكنها ترى الجدران و تتخيل المساحات الشاسعة و تشم رائحة الطبخ و تظل في عالمها السعيد تتنقل من فيلا إلى إخرى حتى تنزل من الباص مع أمها و تخطو شوارعا ً ترابيه قذرة ثم تنحدر الدرجات إلى بيتهم.

رأها يوما ً أمام مدرستها، سأل البواب عنها و عرف عنوانها، ذهب إليهم خاطبا ً، كرشه الكبير و لغده المتدلي و لهاثه أثناء الحديث أمور ٌ لم تلفت النظر كثيرا ً، غطت عليها جميعها بدلته الأنيقة و كمية الهدايا التي حملها، و كلامه الواثق من نفسه و رجله الموضوعة فوق الرجل الأخرى.

تمت الصفقة في أيام و زُفت من المدرسة إلى فيلا كتلك التي كانت تراها من نافذة الباص، لكن مساحة غرفة النوم و البلكونة الخارجية التي كان القمر البدر يظهر منها اختفت أمام موت نفسها و هو يلتهم جسدها. بكت كثيرا ً حينما انتهى و دخل الحمام ليغتسل، و لما عاد من أجل جولة ٍ جديدة أصابها الرعب و هو يقف أمام وجهها و يُلصق نصفه الأسفل بفمها، فهمت ما أراد فرجعت بحركة لا إرادية للوراء لكنه أمسك بشعرها و شدها إليه.

في تلك الليلة لعنت نفسها و كرهت أبويها و حقدت على العالم، و حينما كان شخيره يملأ الغرفة كانت تموت دموعا ً تتسرب منها روحها، و خُيِّل إليها أن جدها الذي كان يدللها و هي صغيرة يُمسك بيدها، و يمسح على شعرها و يهمس في أذنها: "لا تخافي". بكت ثم شهقت شهقة ً مكتومة و غادرها شئ ٌ لا تعلم أنه كان موجودا ً معها إلا حين غادرها.

في الصباح الباكر أفاقت على صوت زقزقة العصافير خارجا ً، خرجت إلى البلكونة ِ عارية ً، ابتسمت للعصفور و قالت له: "خذني معك" ثم ألقت بنفسها إلى الأسفل.

قالوا في المستشفى أنها محظوظة لأن ارتطام رأسها بالأرض لم يقتلها، لكنها أصيبت بالشلل و لن تستطيع الحراك في نصفها السفلي، امتعض الزوج و لم تطل الأيام حتى طلقها و عادت إلى بيت أبيها على كرسي متحرك جاد به ممرض في المستشفى من المخزن.

ما زالت كل ليلة ٍ تشم أنفاسه الكريهة و تحس ُّ يديه على جسدها، و تنام مع الدموع، و ترى جدها في المنام، يمسح على رأسها و هو يقول "لا تخافي".

لقد متنا حينما اغتلنا إنسانية النساء.

من له آذان للسمع فليسمع!