حينما ذهب – من وحي الخياطة



نضال الربضي
2013 / 11 / 12

ثلاثة ُ أعوام مرت مُنذ أن فارق زوجها الحياة، ترك لها طفلين و أمه و ذهب. كم كان صوتُه ُ يملأ البيت و هو يُجلجل ضاحكا ً حين يُمازح ُ أطفاله، لكن العمر انتهى، هكذا قالت أمه و هي تنتحب قبل أن تنكمش هي الأخرى على نفسها و على حزنها تباعا ً مع الأيام و الشهور.

لم تكن تملك بين يديها شهادة ً سوى دورة سكريتارية، و هذه الأخيرة لم تؤهلها لعمل ٍ يفي بحاجات طفليها و جدتهم و تستطيع منه أن تدفع إيجار البيت و الفواتير و مواصلاتها التي تحتاجها للذهاب إلى عملها و العودة منه. أحد أصحاب العمل عرض عليها مبلغا ً محترما ً جدا ً لوظيفة إدارية، إلا أن الأسبوع الأول من العمل كان كفيلا ً بتوضيح حقيقة عملها "الإداري" المطلوب، فاختارت أن تبقى كما تعرف نفسها و كما عرفها زوجها فاستقالت غير آسفة.

قبلت بعدها بوظيفة سكرتيرة في شركة ٍ صغيرة، وظيفة ٌ محترمة دخلها قليل، لكن أعمال الخياطة التي كانت تمارسها بعد العمل أمّنت دخلا ً إضافيا ً مدّهم بمردود ٍ لا بأس به يُعين على النفقات و يُتيح لها أن تبقى مع أطفالها في الفترة المسائية. كانت حماتها تساهم هي الأخرى بشرائها الملوخية و السبانخ ثم تجهيزها للطبخ و وضعها في أكياس ثم بيعها من أمام مخبز ٍ في منظر ٍ كان يثير المارين فيشترون منها ربما لحاجتهم لمحتوى الأكياس لكن أكثر منه صدقة ً و شفقة.

كانت تقوم بتقصير بنطلون لأحد أبناء إحدى زبوناتها حين شكَّـت إصبعها، لم تتألم لكن نزف َالإصبع قطرة ً صغيرة ً جدا ً من الدم فوجدت نفسها تبكي بحرقة و أخذت تشهق ُ مخنوقة ً، و كأن الوخزة الصغيرة كانت في قلبها لا في إصبعها، و فعلت فيه كمطرقة ٍ هدت جدار الكبت الذي نصبته أمام الألم، فانهمر الفيضان ُ طاغيا ً بدون توقف.

كانت و هي تبكي تذكر أباها قبل سنوات ٍ طويلة و هو يحاور أمها في حديث ٍ هو أقرب إلى إلقاء بيان عسكري، قال وقتها "لا نستطيع أن نصرف على إثنين في الجامعة، أخوها أحق بالدراسة فهو سيتزوج و سيكون رب أسرة، أما هي فيمكن أن تدرس دورة سكرتاريا و سيكون زوجها مسؤلا ً عنها"، احتجت أمها وقتها و قالت "لكنها متفوقة في الدراسة و حرام أن يضيع تعبها، ثم إنها قد تخرجت من المدرسة بالفعل بينما أخوها سيتخرج بعد سنتين، و فيهما يخلق الله ما لا تعلمون".

لم يكن الاحتجاج ذا أثر ٍ على الإطلاق. دخلت دورة السكرتارية، و أخوها بعد عامين دخل جامعة ً خاصة كلفت الأب عرق السنين و عانت العائلة كلها من سياسة ربط الحزام حتى كاد الحزام أن يشنق الخواصر، لكنه تخرج في النهاية و هنأته هي و زوجها.

تذكرت أباها و أخاها و زوجها و هي تبكي، كان شئ ٌ فيها يتوقع منهم المزيد، فهم القوامون و هم الأعلى و الأقدر، داهمها شعور ٌ بالخوف لم تستطع تحديد سببه بالضبط، فمسحت دموعها و تعوذت من الشيطان ثم بسملت باسم الله الرحمن الرحيم و هي تهم بإكمال عملها.

علا صوت ابنتها و هي تشكو من أخيها الذي يضايقها، فنهرته بصوت ٍ أقرب إلى الرجاء "أترك أختك" ثم نظرت إليها و قالت لها بحنان: "شو بدك في أخوكي تعالي جنبي تعلمي خياطة".

و أكملت البنطلون