خارج الجسد واقع النساء في رواية



ميساء قرعان
2005 / 6 / 23


لعل تقدمي بالشكر بداية للأستاذ الدكتور "موسى شتيوي" الذي لفت انتباهنا كمجموعة طلبة-دكتوراة- في مساق علم اجتماع المرأة لقراءة رواية "خارج الجسد" قد لا يكون خارج النص،فالقراءات الأدبية لا تقل أهمية عن القراءات العلمية لفهم مشكلاتنا وقضيانا الاجتماعية بحسب وجهة نظره وبحسب ما تركته الرواية من أثر لدى من كُلفوا بقراءتها
إذا كان بعض الأدب يصور الواقع كما هو وبعضه الآخر يحرض على تغييره فإن رواية خارج الجسد للكاتبة "عفاف بطاينة" لا شك تندرج ضمن البعض الآخر ، ففي سرد رواية هي أقرب ما تكون إلى أدب الاعترافات بهذا الكم من الوضوح والجرأة وهذا الكم من كشف المستور في مجتمعنا ما يدعو إلى تصنيف هذه الرواية كمادة محرضة للاشعور ومحرضة على التغيير أيضا من خلال وصف واقع اجتماعي لا يتعلق بمجتمع عربي دون آخر، ومما يعطي هذا النوع من الكتابات أهمية خاصة في مجتمعاتنا هو أننا من المجتمعات التي يناسبها تحفيز العاطفة كبداية لتغيير الاتجاهات، ولعل تجاربنا ووسائلنا الأخرى مثل عقد ورشات العمل والمؤتمرات التي لم تجد نفعا تثبت بأننا من المجتمعات التي تحتاج العزف على أوتار العاطفة أكثر مما يناسبها العزف على أوتار العقل ، ولأن المحتوى الذي يصل أفراد المجتمع عن طريق الأدب والفن يعمل على تجميد ردود الأفعال الرافضة تجاه القضية المطروحة فإن ذلك ما يؤكد أهميتها وفاعليتها.
باعتقادي أن عفاف بطاينة في روايتها قد نجحت إلى حد كبير في تعطيل ردود الأفعال التي قد نبديها تجاه قضايا كثيرة تتعلق بالمرأة والمجتمع ، فهي على سبيل المثال تطرح الإشكاليات المتعلقة بجرائم الشرف بكثير من الجرأة لكنها في الوقت ذاته تضعها في سياق أدبي وفي تسلسل درامي يسحب ردود الأفعال المقاومة مع تنامي الأحداث .
إن ما يميز هذه الرواية التي تتعلق بقضايا المرأة والمجتمع هو أن الكاتبة أو " بطلة القصة منى" لم تتخذ موقفا "مرضيا" تجاه قضيتها على الرغم مما مرت به من خبرات سلبية ومأساوية كونها أنثى في أسرة تحتكم لرجل ظالم ولذا فإنها عالجت القضية بعقلانية استطاعت من خلالها أن تضع يديها على الخلل الأعم والأشمل وهو الخلل في البنية الثقافية السائدة فالتسلط لا يمارسه الذكور وحدهم فهنالك نساء لعبن دورا مهما في ممارسته وتقمصن في كثير من المواقف دورا شبيها بدور الرجل المستبد ، وما أرادت الكاتبة إيصاله هو أن ثقافة التسلط والكبت هي وليدة مجموعة من التراكمات والظروف الاجتماعية، كما أنها عرضت نموذج للرجل المضطهد بحكم سيادة هذا النمط من الثقافة ، نموذج منصور شقيقها الذي أرغم على الزواج كما أرغمت ونموذج عمها سالم الذي تعرض لصور أخرى من الاضطهاد وهو الاضطهاد السياسي الذي لم تفرغه من محتواه أيضا بحيث ينتمي هذا الاضطهاد وصور الاضطهاد والقمع الأخرى إلى ذات الثقافة وذات الدوافع ، وكأنها أرادت أن تشير إلى أن الخلل لا يخص مؤسسة دون أخرى ما دامت مجموعة المقولات الاجتماعية التي نحتكم إليها هي ذاتها في كل مكان، ففي الجامعة وحيث اعتقدت بداية بأنها ستتحلل بين أسوارها من قيود القبيلة وتسلطها تكتشف البطلة بأن الممارسات هي ذاتها غير أنها ألبست ثوب المؤسسات وبأن استغلال الإناث هو ذاته وإن اختلفت الصور وذلك من خلال عرضها لبعض الممارسات التي يتبعها الأساتذة مع الطالبات.
كما أنها تناولت قضية الكبت والتسلط والوصاية التي يمارسها ذكور القبيلة على جسدها بأنها بسبب ما يمرون به من تجارب وبسبب خبراتهم وانحرافاتهم التي يمارسونها مع نساء من خارج القبيلة ، وبذا أشارت إلى الازدواجية والتناقض التي تنطوي عليها شخصية الرجل الشرقي أو الثقافة السائدة .
سجلت الكاتبة نقاط تميز عديدة لعل أهمها هي أنها لم تنظر للعالم من خلال تجربتها ولم تتقوقع على قضيتها كفرد بل إنها استطاعت أن تنظر إلى قضية المرأة من منظور غير محدود الأفق ولذا يلحظ بأن دفاعها أو تصديها وحتى همومها تتعلق بمفردة إنسان أكثر من كونها تتعلق بمفردة امرأة وهذا في حقيقة من لا تستطيع الكثير من المهتمات في قضايا المرأة أن يتجاوزنه ، وهو دون أدنى شك يخدم المضمون الذي تهدف الروائية لإيصاله .
استطاعت الرواية أن توضح من خلال الأحداث وارتباطها المنطقي ببعضها البعض من خلال تطور الأحداث أن "العنف حلقة " وأنه في مجتمعنا يولد بعضه البعض الآخر وبأن من يمارس العنف هو جلاد وضحية في الوقت ذاته، فلم يستطع كل من منصور ومنال أشقائها أن يتعاملوا مع أطفالهم بطريقة أخرى مختلفة عما عايشوه مع أب ظالم
الرواية تعرض أيضا صورة إيجابية ليس للمرأة التي تتعرض لأنواع العنف ولكن لآليات التصدي والمقاومة ومن خلال نموذج ينبض بالحياة مثلته بطلة الرواية"منى" ففي علاقتها مع أهلها ومع الأب المستبد وفي رفضها تمكين زوج أجبرت عليه من جسدها وفي تعاملها مع زوج آخر سافرت معه إلى الخارج ، فقد أظهرت البطلة نموذج للتحدي والتصدي للعنف ووضعت استراتيجيات كثيرة وناجحة للتخلص منه، أثبتت البطلة أن بإمكان المرأة إذا ما امتلكت القوة والإرادة أن تتصدى للعنف، ففي مرحلة من المراحل أتقنت منى الدور التقليدي للمرأة في بيتها عن رضى وقناعة مع زوجها سليمان أو زوجها الثاني وحين لم يتضح منه الوجه الآخر أو النموذج الشرقي المتسلط لكنها استطاعت أن تتمرد على الدور عندما أدركت أنه جزء من متطلباته وجزء من متطلبات دور أحضرت من أجله وبدأت في التفكير باستقلالية مادية واستطاعت أن تنجح على المستوى العملي إلى الحد الذي تمكنت فيه من الانفصال عنه لاحقا واختيار شريك حياتها بذاتها ودون أن تقع ضحية للتعميم الأعمى فقد وجدت في "ستيورت" الذي ينتمي لثقافة ودين مختلفين ضالتها وارتبطت به دونما عقد زواج ، لأن تجربتيها الشرعيتين كانتا قد غيرتا لديها مقاييس الحلال والحرام والممنوع والمباح ، ولأنها استطاعت أن تجد لنفسها قوانين أخرى لا تحتكم فيها لثقافة القبيلة التي أشبعتها ظلما وقهرا
وحتى بعد اكتشاف عمها سالم أثناء زيارته المفاجأة لها في الخارج بأنها تقيم علاقة غير مشروعة من منظوره مع رجل غربي استطاعت أن تحمي ما تعتقد بأنه كل حياتها واستطاعت عن طريق تغيير اسمها وإجراء عمليات تجميل لتغيير ملامحها أن تتقي احتمالية وقوعها كضحية لجريمة باسم الشرف لتعود بعد ذلك إلى وطنها وتحاول تغيير بعض الاتجاهات والعادات المقيتة التي يمارسها الناس فيه من خلال اهتمامها بالقضايا التي عانت منها طويلا ، وبذا استطاعت الرواية أن توثق صور وأشكال عديدة للعنف وفي الوقت ذاته استطاعت أن تقدم نموذجا إيجابيا للتعامل معه أو التصدي له ولم تغفل الكاتبة الإتيان ببعض النماذج السلبية للنساء اللواتي أذعن للعنف واعتبرنه شيئا اعتياديا يجب التكيف معه بدءا من والدتها في قريتها الريفية وانتهاء بالنساء العربيات اللواتي يقمن كخادمات في بيوت أزواجهن