العلم والأنوثة



ميثم الجنابي
2005 / 7 / 2

إن إحدى الصيغ النمطية الأكثر انتشارا عن علاقة الإنسان بالعلم تقوم في ربطها العلم بالرجل فقط. من هنا أسماء العلماء ورجال العلم ورجال الدين. وهو ارتباط لا علاقة له بكلمة العلم وجنسها المذكر. وذلك لان العربية تحتوي على تسميات تتيح للنساء حق المشاركة في إبداع المعرفة وإعادة إنتاجها مثل قولنا "أمهات الكتب" وما شابه ذلك. وهي صيغة لا تختص بها اللغة العربية بقدر ما تشاطرها مختلف اللغات الحية الكبرى.
بعبارة أخرى، إن إشكالية العلم والرجولة ليست إشكالية لغوية، بل إشكالية تاريخية ثقافية. وإذا كان نصيب المرأة فيها قليلا فلان وجودها الاجتماعي وقيمتها الفعلية عادة ما كانت من نصيب القوة الجسدية. وهو نصيب يعبر أولا وقبل كل شئ عن بقايا الحيوانية والغريزة السافرة والمستترة. وهي بقايا نعثر عليها في الأساطير والكتب "المقدسة". إذ جرى تحويلها إلى مصدر الإغراء والإغواء. فهي سبب خروج الإنسان من جنة النعيم إلى حياة الجحيم. وفيها يكمن سر العذاب العذب للروح والجسد والعقل والضمير. وهي أوصاف لا بأس بها فيما لو جرى النظر إليها بمعايير الرؤية الجمالية الخالصة. بمعنى انه لا وجود اجمل مما في المرأة ولا كيان قادر على استقطاب كل هذا الكم الهائل من المتناقضات في تقييم الموجودات اكثر مما دار ويدور حولها. وهو أمر جعل ويجعل منها قطب الوجود الحي، ومثار الغيرة والاقتتال بين الرجال. بل وحتى الفكرة القائلة، بأنه وراء كل عظيم امرأة، لا تتعدى بقايا "الاحتقار المبجل" أي الوحدة المتناقضة للإعجاب والدونية. طبعا أن المقصود بهذه الكلمة هو "إعادة الاعتبار" للمرأة من حيث كونها القوة التي تصنع العظمة في الرجال سواء من خلال الإسناد المباشر وغير المباشر للعظماء بوصفهم أطفال الحق، أو من خلال تحولها إلى مصدر الإلهام ومثار الدهشة والحيرة والقلق، أي كل ما يشكل عصب المعاناة المميزة للإبداع الكبير. ففي كلتا الحالتين تبقى المرأة موضوع ومادة الإبداع وأداته المساعدة فقط. بمعنى أنها لم تتحول إلى كيان مستقل قائم بذاته وقادر على بلوغ العظمة في الإبداع، كما لو أن الرجال لا تولدها نساء.
إن "ارتقاء" المرأة إلى مصاف القوة المساعدة والساندة للإبداع العظيم يشير فقط إلى قيمتها العرضية في الإبداع. لكنها الدرجة التي جعلت منها على الأقل قوة معترف بها في تاريخ المعاناة الفردية للعلماء والعظماء. بمعنى نقلها إلى مصاف المشارك الفعال في الإبداع. وهي حصيلة كانت تذلل من الناحية الوجدانية معنى الخطيئة التي لصقتها الأديان في كينونتها. وهي أديان "رجولية" المنشأ والرؤية. وفيما لو احتفظ لنا التاريخ بكتب "مقدسة" مكتوبة بوحي نسوي لكنا من المحتمل نقف أمام لوحة أخرى في النظر إليها والى إبداعها العلمي. غير أن التاريخ قد قوض هذه الإمكانية من خلال ربطه النبوة بالنبي، أي بالرجال. وهي مفارقة لها مذاقها الخاص، كما هو الحال في ربط البطولة والرجولة بالرجال، مع انهما كلاهما من جنس المؤنث.
إن انتقال المرأة إلى مصاف المشاركة غير المباشرة في الإبداع من خلال تحولها إلى سند حياتي لمعاناة العظماء كان يتضمن في الوقت نفسه الإقرار بمشاركتها الفعلية في إنتاج وإبداع العظيم في كافة ميادين المعرفة. وفي هذا التحول كانت تتراكم إمكانية استقلالها العلمي. إلا انه استقلال صعب ملئ بالشقاء المادي والمعنوي للرجل والمرأة على السواء. فالاستقلال العلمي للمرأة يفترض كحد أدنى درجة من التحرر الاجتماعي، ومستوى من تطور العلاقات الاقتصادية، ودرجة من الثقافة العامة بجعل من مشاركتها العلمية تجسيدا للحرية والمساواة الفعلية. بمعنى بلوغ حالة الإلغاء الفعلي للتفرقة الجنسية في ميدان العلم. فالإبداع العلمي لا يعترف بالمذكر والمؤنث، لان منطقه هو منطق الحقيقة. وهو منطق لا علاقة له بالجنس. وهو ارتقاء يفترض بدوره تحرر الرجل من عقدة التفوق المفتعلة في ميدان الإبداع العلمي. بمعنى بلوغ حقيقة العلم بوصفه إبداعا غبر متناهيا للحقيقة والجمال. ويفترض هذا بدوره تحرر الرجال من ثنائية التعارض المفتعلة بين العلم والأنوثة، والعلم الجمال النسوي.
فالصورة النمطية السائدة عن استحالة التوفيق بين الأنوثة الخلابة والمنطق العلمي الصارم ينبع أولا وقبل كل شئ من استحكامها العميق في الذهنية الاجتماعية للبنية التقليدية. وهي بنية لا تقر أساسا بالرؤية العلمية. من هنا مواجهتها العنيفة لفكرة التحرر الفعلي للمرأة ومساواتها المطلقة بالرجل، بمعنى بلوغ حال الإلغاء الفعلي للتمايز الجنسي بوحدة الجنسية الإنسانية. وهي وحدة تقر بالاختلاف الجميل للرجل والمرأة. بمعنى إدراك وتحقيق الفكرة القائلة، بان الرجولة هي الوجه الآخر للأنوثة، والأنوثة هي الوجه الآخر للرجولة.
وفي مجال العلم لا يعني ذلك سوى الإقرار بإمكانية الاشتراك العملي والمشاركة الفعلية في إنتاج المعرفة. وهو إدراك يلغي التمايز ويرفع من شأن الاثنين بمعايير الإنتاج المعرفي وليس بمظاهر النفسية الجنسية للمرأة والرجل. لأنه يوصل الجميع إلى إدراك الحقيقة القائلة، بان العلم هو منتهى الجمال لأنه منتهى الكمال النسبي والمطلق في النسبة والوظيفة والغاية. وذلك لان العلم فقط قادر على الجمع بين مكونات الكمال بطريقة ترتقي على الدوام إلى مصاف الحدس والمطلق. وهو الوحيد القادر على توظيف الكمال بطريقة نموذجية، لأنه بحد ذاته فضيلة. فالناس يمكنها التنازل عن كل شئ وقبول مختلف أشكال التقييم والاعتبار باستثناء الجهل والغباء. كما أن كل امرئ يرغب ويتقبل وصفه بالعلم مع خلوه منه. وفي غايته هو منتهى الكمال أيضا، لان غايته به وفيه. وبهذا المعنى يمكن اعتباره نموذجا مطلقا أو مرجعية للجمال. فحقيقة العلم لا تتعارض مع الأنوثة والرجولة، على العكس أنها تفترضهما، بوصفهما الجليات للجميل والجمال. من هنا سخافة الصورة النمطية القائلة بأن المرأة الجملية لا محل لها في العلم. فهي رؤية تعكس أولا وقبل كل شئ الرغبة الذكورية الخفية لجعل حسية الجسد حدس العقل والوجدان، أو لاستبدال أحدهما بالآخر. أما انتشارها الواسع في العالم العربي ودعمها شبه التام من جانب الرجال والنساء أيضا(!) فهو مؤشر على عمق الانحطاط العلمي وغياب الحرية الفعلية. فانتشارها بين الرجال هو الوجه الآخر لما يمكن دعوته بالرجولة الخشنة، أي الذكورية المبحوحة بعشقها لرعشة الجسد العابرة. وليس مصادفة أن لا تعرف اغلب النساء (العربيات) حالة الشبق التام! وهو جهل سافر بمعنى وحقيقة الحرية الفعلية للجسد، كما انه جهل بحدود العلاقة الممكنة بين الأنوثة والرجولة في ميدان الإبداع العلمي. وهو جهل يستحيل معه إدراك حقيقة العلاقة الممكنة بين الجمال والأنوثة، والأنوثة والعلم من جانب النساء والرجال على السواء.
وهي حالة يمكن دراسة وتحليل إحدى صورها وصيغها النموذجية على شبكة الانترنيت سواء من الناحية الكمية (عدد المشاركات من النساء) والنوعية (نوعية الكتابة والمتابعة وردود الفعل على محتوى الكتابة وصورة الكاتبة!). إذ أننا نرى حجم "المتابعة" الهائلة من جانب الرجال للكاتبات بشكل يثير الاستغراب. فقد وجدت، على سبيل المثال لا الحصر، تفوق كاتبة من الدرجة "الثالثة" بمئات المرات من حيث عدد "القراء" على عدد "قراء" كارل ماركس على صفحات (موقع بساري ماركسي!!). بل أن إحصاء بسيط وسريع لعدد "الداخلين" على النساء مقارنة بالرجال يوضح هذا التفوق النسوي. وهو "إنجاز" يستحق الاحترام فعلا. بمعنى أننا نقف أمام ظاهرة الاعتراف الأولية بقيمة الإبداع العلمي للنساء في العالم العربي. إلا انه اعتراف ما زال مشبوبا بأولوية الرغبة الجنسية وليس العلمية. وذلك لان مقدار الداخلين وعدد القراء يتناسب مع شكل الصورة المطبوعة للكاتبة. وهو الأمر الذي "يرغم" بعض النساء على تقديم أنفسهن في بعض الأحيان بهيئة سينمائية وليست علمية. وهي حالة يمكن فهم دوافعها وحوافزها النفسية، لكنها تعكس مستوى التخلف الفعلي للرجال والنساء على السواء. أنها تعكس نموذج العلاقة الذكورية من جانب "الرجال" بالمرأة وإبداعها العلمي من جهة، وبقاء المرأة العربية ضمن عبودية الإغراء الخفية للجسد من جهة أخرى. بمعنى اشتراكهما بمعايير الرؤية الحسية الخفية وأولويتها في تقييم الإبداع العلمي للمرأة. وهو دليل على انهما كلاهما لم يتحررا بعد، وان العلم بالنسبة لهما وسيلة للإغراء والإغواء وليس لبلوغ حقيقة الحرية والجمال. انهما لم يدركا بعد بان الطريق الأمثل للحصول على اعتراف الجميع في ميدان العلم هو العلم. وهو طريق ليس اقل إثارة في "الإغراء والإغواء"! وهو حكم ينطبق على كافة ميادين الإبداع. إن إدراك هذه الحقيقة سوف يذلل التعارض التاريخي والثقافي المتكلس في تضاد العلم والأنوثة. بمعنى تحولهما إلى أسلوب إنتاج الجميل والجمال في الأقوال والأفعال، والظاهر والباطن، أي في تكامل الشخصية الإنسانية للرجل في رجولته والمرأة في أنوثتها.
***