أمي على المائدة



جهاد علاونه
2014 / 3 / 21

حتى اليوم نأكل من يد أمي ونشرب وننسى أن نقول لها كلمة شكراً.

لم تكن لنا مائدة خاصة نأكلُ الطعام عليها, فمرة كنا نتربع لنأكل على الأرض ومرة كنا نتربع لنأكل على طاولة خشبية مستديرة نقول لها (اسكمله) خشبية دائرية أو من خلال (سدر) يقال له (صينيه) أو من خلال شيء مصنوعً من القش والنايلون وتسميه أمي (طبق) وفي حالة كونه من الحديد تسميه أمي (سدر الأكل) فكانت أمي بعد انتهائها من عملية الطهي ترسلُ لنا بصوتها عبر الحارة لكي نحضر ونشهد الطعام , ولم تكن أمي تمتلكُ مكبرات صوت , لذلك كانت تخرج على أقدامها بحثاً عنّا وكأنها تقوم بعملية تمشيط للحارة واسعة النطاق وكذلك نساء الحارة فكانت أمي تلتقي بغالبيتهن في الشارع وهن أيضاً يبحثن عن أولادهن وكانت حين تجدني تقول لي : ول ..ول ..بعدك داير وبتركض من حاره لحاره بدون ما إتحط أي إشي في بطنك , وكانت تمسكني من يدي لتتحسسني , ومن ثم تضع يدها المخملية على جبيني لتتحسس حرارتي ومن ثم تسحبني من يدي لتدخلني الدار ومن ثم تعود للحارة للبحث عن بقية أفراد الأسرة وكنتُ أشعرُ وكأنها تقوم هي ونساء الحارة بإقامة عدة نقاط تفتيش للبحث عن مطلوبين إما للغداء وللأكل وللشرب وإما لإدخالنا الحمام من أجل إعادة غسلنا من أوساخ الحارة الناتجة عن اللعب بالتراب .


وأول شخص كان يجلس على مائدة الطعام هو أبي رحمه الله ,ولم نكن نسمع منه بعد تناوله للطعام كلمة شكراً, وجدتي كانت تجلسُ منفردة لوحدها وكانت أمي تطبخ لها أطعمة خاصة فيها خالية من الأملاح الزائدة , ولم يكن أبي أول من يمد يده على الطعام لأنه أول شخص يحضر على المائدة , لا بل على العكس من كل ذلك لقد كان ثاني شخص يحضر على المائدة ,ولم يكن هو الذي يطهو لنا الطعام ومع ذلك كان يستأثر كل شيء لنفسه وبصراحة لم يكن هو الذي يستأثر لنفسه بحصة الأسد بل كانت أمي هي التي تدلله وتعوده على ذلك حتى أصبح لا يعجبه العجب ولا أي شيء وكانت أمي حين تغضب منه تقول ما حدى بقول شكراً! )لا بعجبه العجب ولا الصيام في رجب).

وطوال حياتي لم أر أمي تأكلُ الطعام وهي تجلسُ بجانبنا على المائدة علماً أنها هي التي كانت تصنع الطعام , وهذا بعكس أبي الذي لا تحسن يداه صنع أي شيء كما هي أيادي أمي , مع أنه كان يلتهم أكثر من ثلاثة أرباع الطعام وأنا وشقيقي وأخواتي كنا نلتهم الثلث الأخير , في حين تقوم أمي بمدنا بالخبز وبالماء وبالطلبات وبالمساعدات وكانت حريصة كل الحرص على إرضائنا وكأنها خادم في مطعم يقدم لزبائنه كل ما يريدون .

فأنا كنتُ أطلبُ منها الخبز علماً أنه بجانبي , وكانت تقول : الخبز ابجنبه وبطلبه مني , أنا بستغرب كيف هذا الولد ما بمدش إيده على الخبز , وبده خادم مثله مثل ربعه , وكانت تقصد بكلمة ربعه أخواتي وأبي , , ومن هذه الناحية كانت أمي تنزعج من كثرة طلبي على الخبز فكانت تلجأ إلى وضع الخبز بجانبي وكنتُ أشاهده بجانبي ولا أمدُ يدي إليه وأطلبه منها فتقول مرة أخرى :حاضر تكرم وهذا أحسن رغيف خبز لأحلى شب في الدنيا .

وبعد ذلك تطلب الخبز مني لتضعه بجانبها من أجل مد الباقين به فكذلك كان أخي وأخواتي , وفي أيام الشتاء كانت أمي فقط تقوم بعملية تسخين الخبز على الصوبه (المدفئة) ولم تكن تستطيع أن تأكل هي الخبز الساخن بل كانت توزعه علينا بالتساوي وتقول عن غير قصد منها (خذوا تقاسموا جسدي أأكلوه ) وكانت تقسمُ قائلةً: والله لو إني خبز غير توكلوني, أو خبز أو شاي غير تشربوني , يا دخيل الله مش قادر أوكل مش املحق عليهم , وكمان ما بسمع من حدى كلمة شكراً, أما أبي فكان يقولُ وهو مغمض العينين : الله جعلهم لا أكلوا , الله ريتهم بالسم اللي يسممهم .

وأختي الكبيرة كانت كثيراً ما تطلب الماء لذلك أمي كانت تريح نفسها من هذه الناحية فتضع الماء بجانبها ومع كل هذا لا تمدُ أختي يدها إلى الماء بل كانت تطلبه من أمي , وكانت أمي تفعل بالماء ما تفعله في الخبز فكانت تعيده إلى حضيرتها فتجلس أمي بجانب الخبز والماء والشاي لكي تمدنا جميعنا على حسب الطلب .

وأبي أيضاً مغرماً بشرب الشاي مع الطعام وقد تعلمنا أنا وأخواتي هذه العادة عنه إلا أخي الصغير فقد كان رياضياً وشعاره أن الشاي لا يساعد الجسم على امتصاص الحديد من الطعام , لذلك لم يكن يطلب الشاي ولكنه كان يطلب من أمي المرطبات الباردة , أما أبي وأنا وشقيقاتي فكنا نصرُ على الشاي ومما سبق أخذت أمي درساً مهماً من الماء ومن الخبز فلم تكن تضع الشاي بجانبي أو بجانب أبي بل كانت تضعه بجوارها فكانت تسكبُ لأبي أولاً ومن ثم لي ولشقيقاتي وطوال مدة مكوثنا على المائدة ونحنُ نطلبُ منها الشاي والخبز والماء فكانت تتحرك بحركات آلية فمرة تعطيني الخبز ومرة تسكبُ لي الشاي وحين تنتهي من طلباتي تبدأ طلبات أخي وحين تنتهي من طلبات أخي تعود أمي لتلبي طلبات أخواتي وبعد ذلك تتفرغُ لطلبات أبي من حيث سكب الشاي والماء له كل دقيقتين أو خمسة دقائق وكان أبي سريعاً في شرب الشاي حتى وإن كان ساخناً لدرجة الغليان وكانت أمي تقدر على ملء فمه بالشاي دون أن تسمع منه أو من أحد منا كلمة شكراً وكنت أسمعها أحياناً وهي تهمس( هو وولاده مثل الجراد ماكلين الأخضر واليابس) ..,وحين لا يجدُ أبي شيئاً يطلبه كان يأخذُ نفساً عميقاً ليعطي ملاحظاته على الطعام فيقول :
-الأكل في ملح زائد .
وأحياناً يتنفتر ويشخط ويزعق في وجه أمي ليقول :
-الأكل ناقص ملح .
فحين كانت أمي تضع الملح على الطعام يعترض عليه ليقول أنه موجود بكميات زائدة وكبيرة وكثيرة وملحوظة وفي الوقت الذي يكون فيه الملح غير موجود في الطعام بنسبة ملحوظه كنا نسمعه وهو يقول : الأكل مش مالح , أما بالنسبة لأمي فقد كانت تاخذ نفساً عميقاً وترفع يديها للسماء لتقول

: يا الله احترنا في هذا الزلمه وولاده , مش املحقه عليهم طلبات وأحياناً تقول : ما بدي منهم كلمة شكراً بدي بس يعطوني سكوتهم , ودائماً تقول: والله صارلي ساعه معاهم على الأكل ما مديت إيدي على لقمه وحطيتها في ثمي (فمي) والله ما أكلت قد ما رحت وأجيت .
أما جدتي فلم تكن تبدي أي ملاحظات على طبيخ أمي أثناء الأكل إلا بعد أن تشبع بطنها , فبعد أن تشبع بطنها تقول :
طبيخ أم جهاد أوجع قلبي .
وأحياناً:
طبيخات أم جهاد رفعن ضغطي .
أو:
حاسهن على قلبي زي النار .


وكانت أمي ترفع يديها للسماء لتقول : ول يا الله دليها حتى (ت) أمليها .

لقد كانت أمي تقوم عن المائدة وتقعد أكثر من مئة مرة لأن طلبات أبي كثيرة وكذلك طلباتنا أنا وأخي وأخواتي , وكانت أمي تقوم وتقعد ومن ثم تقوم وتقعد ومن ثم تنظرُ إلينا تراقبنا جميعنا ونحن نأكل لتبحث عن أي شيء ناقص على المائدة بينما يكون أبي مغمض العينين يأكلُ الطعام وعيونه مغمضة ونادراً ما يقوم بفتح عيونه ولم يكن أثناء تناوله للطعام يفتح أي شيء إلا فمه لالتهام ثلاثة أرباع ما تضعه أمي على المائدة , وكان كل شيء فيه مغلقٌ إغلاقاً محكماً فكانت عيونه مغلقة وآذانه مغلقة فلم يكن يسمع طلباتنا ونحنُ على المائدة فلم يكن يفتح أذنيه لأي شيء , أما أمي فكانت آذانها مفتوحة وعيونها مفتوحة وقلبها وصدرها متسعات للجميع ولم تكن تغلق أي شيء إلا فمها , فلم تكن تفتحه لتضع فيه أي شيء .

وكنا نجلسُ على مائدة الطعام مستديرين بشكل دائري حول السدر دون أن نترك فراغاً لكي تجلس أمي فيه , وكانت أحياناً ما تمدُ يدها من فوق رؤوسنا لتنال شيئاً من أمام الأسد وأشباله الجياع , وهذا نادراً ما كان يحدث .

وكانت تبحث عن الأشياء التي أحبها فتختزلها لي وكذلك لشقيقاتي كانت تختزلُ لهن كل ما يعشقنه على المائدة ولم تكن أمي تسمع من أي أحدٍ منّا كلمة شكراً,أما أبي فلم يكن يعرفُ ما نحبُ أكله إلا ما يأكله هو فقد كان يعشق البندورة مع البيض وقد ورثتُ أنا عنه شخصياً هذه العادة , فحتى اليوم أطلبُ هذه الطبخة من أمي , وبالمناسبة كل ما أشتهيه من طعام لا أطلبه من زوجتي بل من أمي ., وأنسى أن أقول لها شكراً.

وكانت أمي أخر شخص يجلسُ على مائدة الطعام وكانت في نفس الوقت آخر شخص يقوم عن المائدة وهي ما تزال في جوعها , وكنا نحن وأبي وإخواني أول من يجوع وأول من يأكل , أما أمي فقد كانت آخر شخص في المنزل يشعرُ في الجوع وآخر شخص يأكل , وكانت أمي تحضرُ على مائدة الطعام متأخرة جداً بربع ساعة بسبب عملية التحضير ونقل المستحضرات من المطبخ إلى غرفة الجلوس التي نلتهم فيها ما أعدته لنا , وكانت حين تنتهي من عملية الإعداد والنقل تجدنا قد بدأنا في الأكل والشرب , فتبدأ هي بتحسين نوعية الخدمات , وكانت خدمات أمي على المائدة تتحسن في كل يوم تقريباً فقد كانت دائمة السؤال عن أنواع المخللات والبهارات والمحسنات التي تزيد من عملية إقبالنا على الطعام ودائمة البحث والتطوير في مطبخها من أجل ملء بطوننا وكروشنا , وكانت صحتنا في كل يوم تزداد وصحة أمي تتراجع يوماً بعد يوم وهذا يعني أن صحتنا كانت تزدادُ على حساب صحة أمي , وكانت أوزاننا أيضاً تزداد وبطوننا تعرض أما أمي فقد كان بطنها في كل يوم ينكمش للوراء حتى بدأت في الآونة الأخيرة نحيلة جداً لدرجة أنه من الصعب أن نرى لها على الأرض خيالاً .

لقد كانت أمي على مائدة الطعام معلمة ومضحية وخادمة وكنترولاً وجارية وكان أبي سلطاناً وكنا نحن نتعاملُ معها وكأننا زبائن لديها في مطعم خاص , وحين كبرنا اكتشفنا أن أمي لم تكن صاحبة مطعم خاص بها بل كانت صاحبة منزل حريصة على منزلها وبيتها وزوجها وأطفالها , كانت آخر شخص يشعر بالجوع علماً أنها كانت تجوع كثيراً ومرة سألتها : أنت ما بشوفك على الأكل معانا إبتوكلي , فقالت لي : الستيره مع الضيوف , وكانت تقصدنا نحنُ : أنا وأبي وأخواتي , فكانت أمي تعتبرنا ضيوفاً في منزلها تقدم لنا خدماتها بالمجان ولم تكن صاحبة مطعم مأجورًٍ يتلقى مقابلاً على خدماته لزبائنه , وكانت أمي على مائدة الطعام حريصة حتى على إرضاء أصدقائنا من أبناء الجيران فكانت تحترمهم جداً لكي لا يضربونا حين نخرج للعب معهم في الحارة وهذا أسلوب تربوي مقنع جداً فكانت تتعامل معهم وكأنهم أولادها لذلك لم نكن نتعرض للعنف ضد الأطفال في الحارة .

وكنا حين نقوم من على مائدة الطعام نترك أمي تبحثُ عن بقايا أي شيء لتأكله أما أنا وأخي وأخواتي فقد كنا ننام ونتمدد على الفراش ونبدأ بالتفكير بطلبات جديدة ودائماً ننسى أن نقول لها شكراَ,بينما أمي تقوم برفع المائدة والتكنيس تحتها ودخول المطبخ لغسل أطباق الطعام لتبدأ مشواراً جديداً فيه قصة أخرى عن العشاء أو الغداء أو فطور اليوم التالي , لنأكل جسدها مرة أخرى وفي النهاية نقول لها : كان الطعام مالحاً أو قليل الملح أو لم نكن نحبُ هذه الطبخة, ويا ريت ثاني مره أتغيريها .

كنا وما زلنا نأكلُ من يد أمي دون أن نقول لها شكراً.