من حمورابي الى الشمري .. بين تزويج الصغيرات .. وتمتيع الكبار



فارس حميد أمانة
2014 / 3 / 24

أثار طرح مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري الجديد في العراق زوبعة شديدة .. وككل مرة وفي كل معضلة يختلف عليها طرفان في العراق فان الزوبعة تكبر بسرعة لكنها ما تلبث أن تخمد وبسرعة أيضا .. لقد أيد الكثيرون طرح هذا القانون للاستفتاء ودعموه بشدة وما زالوا يدعمون ويتهمون المعارضين بأنهم شيوعيون ملحدون كما ظهر في صور لبعض مظاهرات التأييد التي نشرت على صفحات التواصل الاجتماعي وفي هذا اشارة واضحة لقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الذي سن في عهد عبد الكريم قاسم المتحالف مع الشيوعيين حينها .. كما عارضه الكثيرون ونقدوه بشدة وما زالوا يعارضون ويتهمون خصومهم بالعودة بالعراق عموما والمرأة خصوصا الى الوراء وبأنهم طالبان العراق الجديد .. ويطرح المؤيدون حججهم لدعمه كما يطرح المعارضون حججهم لنقضه ..

وبالعودة لبداية القصة تاريخيا نجد أقدم القوانين الموثقة كتابيا في مسلة حمورابي الملك البابلي الذي حكم مملكة بابل التاريخية وسط العراق قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف وثمانمئة سنة حيث توثق المسلة أكثر من مئتين وثمانين نصا تشريعيا وقانونيا يخص مختلف الحالات الاجتماعية للشعب كالزراعة ورعي الأغنام وحقوق المرأة والأطفال والعبيد .... الخ من القوانين الاجتماعية الوضعية .. تلا ذلك عهود طويلة من الانحدار وحتى سقوط مملكة بابل الأخير بيد كورش الفارسي قبل الميلاد بخمسة قرون وقيام طيسفون قرب المدائن وخضوع بابل وأغلب وادي الرافدين الى الهيمنة الفارسية حيث أدى وجود ممالك صغيرة على غرار دولة المناذرة الخاضعة بشكل كبير للدولة الفارسية الى تدهور القوانين الوضعية وخضوع الشعب لقوانين كل مملكة أو لقوانين القبيلة لضعف الاتصال بأراضي كل مملكة وضعف التزامها وخضوعها لقوة مركز الحكم ..

استمر الحال بالقوانين هكذا لحين هزيمة الجيوش الفارسية ودخول العراق مظلة الاسلام فسيطر بذلك قانون الهي سماوي موحد وهو القانون المستمد من القرآن الكريم والذي هو في الآخر نص مكتوب الا ان تعدد المذاهب في التفسيرات جعل تلك التفسيرات تختلف وبالتالي جعل الأحكام الشرعية تختلف أيضا الا ان تلك الاختلافات ليست كبيرة جدا ..

وفيما يخص دستور العراق فالكل يعرف الاختلاف بين الدستور وقانون الأحوال الشخصية حيث ان الدستور هو مجموعة القوانين التي تخرج عن نطاق تفاصيل الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية التي تمس حياة كل فرد .. حيث يكون الدستور هو القانون الأعلى الذي لا يجوز تجاوزه الا بتعديل مصادق عليه وهو أيضا القانون الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة ونظام الحكم وشكل الحكومة وينظم السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية مع حدود كل سلطة اضافة الى تحديد واجبات وحقوق الأفراد من الشعب المنضوي تحت لواء هذا الدستور مع وضع الضمانات للأفراد تجاه تعسف محتمل للسلطة .. ان الغاية من هذه المقدمة الطويلة أن أذكر المفارقة المؤلمة بان العراق الذي سنت فيه أول قوانين الأحوال الشخصية بقي بلا دستور يحدد العلاقة بين الفرد والدولة وبلا قانون تفصيلي مكتوب للأحوال الشخصية للأفراد حتى تاريخ متأخر جدا كما سأذكر بعد قليل .

عند خضوع العراق للسيطرة الفارسية مرة أخرى وبعد الفتح الاسلامي بقرون شهد البلد هبوطا شديدا آخر في تعسف الحكام وهيمنة القوانين العشائرية والقبلية الوضعية كبديل عن قانون للأحوال الشخصية أو دستور يحمي الفرد .. وما خضوع العراق للهيمنة العثمانية الا امتداد لهذه الحالة وحتى أواخر العهد العثماني عندما وضع دستور عثماني خضع الفرد العراقي فيه له على اعتبار ان العراق خاضع للسيطرة العثمانية .. وما ان تم للقوات البريطانية اكمال احتلال العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى حتى منع العمل بالدستور العثماني وظل الفرد العراقي بدون دستور حتى ربيع سنة 1925 وهو تاريخ أول دستور للعراق بعد أربع سنوات من الدراسة والتمحيص والمجادلات .. ولم يخل الدستور حينها من لمسة استعمارية بريطانية تحفظ للتاج البريطاني مصالحه في هذا البلد .. وقد استمر العمل بهذا الدستور وحتى نهاية الحكم الملكي في تموز عام 1958 تلا ذلك عدة دساتير وتعديلات لدساتير قائمة بسبب تبدل الحكم والانقلابات المتعددة حتى عام 2003 حيث حل ما يصطلح على تسميته بقانون بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق ثم صدر الدستور للمرحلة الانتقالية ثم تعديلات ثم الدستور الأخير الذي أجري عليه الاستفتاء عام 2005 .

يعتبر قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 هو أول قانون يحدد العلاقات والحقوق والواجبات والأحكام الفقهية بين الأفراد فيما يخص مواضيع الزواج والطلاق والوصية والارث وما شابه ذلك من القضايا التي تهم الأفراد .. سن القانون من خلال لجنة شكلتها وزارة العدل العراقية حينها حيث استمدت فقرات القانون من الشريعة الاسلامية ومما هو متفق عليه من أحكام الشريعة الاسلامية وما هو مقبول في الدول الاسلامية الأخرى على اعتبار ان الدستور ينص على ان العراق بلد ديانته الرئيسية هي الديانة الاسلامية حيث نصت الفقرة الثالثة من المادة الأولى باسترشاد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه الإسلامي في العراق وفي البلاد الإسلامية الأخرى التي تتقارب قوانينها من القوانين العراقية .. وقد نصت الفقرة الأولى من المادة الثانية فيه على سريان أحكامه على كافة العراقيين الا ما أستثني منهم بقانون خاص ( والمقصود هنا العراقيين من أديان آخرى ) وذلك لكون هذه الأحكام قد وقفت موقفا وسطا من أحكام كافة المذاهب الاسلامية في العراق . ولم يترك المشرعون حينها القاضي أو الحاكم ليقف متسائلا عند عدم وجود فقرة يستند عليها في الحكم اذ ترك له الباب مفتوحا للحكم بأحكام الشريعة الاسلامية الأكثر ملائمة لهذا القانون وحسب نص الفقرة الثانية من المادة الأولى وبهذا لم يحدد أو يذكر أو يشترط فقها لمذهب معين دون الآخر.

ان هذه هي أولى النجاحات المسجلة لهذا القانون بابتعاده عن الاشارات أو التلميحات الطائفية مباشرا ما كان منها أو غير مباشر . ان مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري ومن عبارته الأولى المتضمنة اسمه يؤسس للطائفية والمذهبية باعتماده قانونا يصلح لطائفة دون أخرى تاركا الباب مفتوحا وراءه لبقية الأفراد من المذاهب الآخرى للمطالبة بوضع قوانين خاصة بالأحوال الشخصية لتلك المذاهب.. ولقد جاء توقيت مشروع القانون في وقت حرج يمر بالبلد من حيث اشعال وقود الطائفية والمذهبية التي تمزق أوصاله وكان الأجدر الالتزام بالقانون 188 لسنة 1959 أو أجراء التعديلات عليه توافقيا على الأقل .. وبرأيي المتواضع فان التوقيت هو مسرحية انتخابية الهدف منها كسب الأصوات اعتمادا على العزف على الوتر المذهبي .

نصت المادة السابعة والستون في ما يخص الوصية من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 اشتراط ان يكون الموصي بماله أهلا للتبرع قانونا ومالكا لما أوصى به .. ان عبارة " أهلا للتبرع قانونا " تحتاج هنا الى توضيح فيما اذا كانت الأهلية القانونية تعني العمر القانوني المجيز للايصاء بما يملك أم تعني تمتعه بالعقل أم الاثنين معا وفي كل الأحوال فهي تحتاج الى توضيحات وتحديدات وعلى النقيض من ذلك فان مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري حسم في نص المادة 16 من موضوع الوصية وعمر الموصي بالبلوغ وحدده بتسع سنوات هلالية للأناث وخمس عشرة سنة هلالية للذكور .. ومن المعروف ان السنة الهلالية تقل عن السنة التقويمية الميلادية بأحد عشر يوما وبذلك يصبح عمر الأناث هنا ثمان سنوات وأقل من تسعة أشهر وعمر الذكور أربع عشرة سنة وأقل من سبعة أشهر.. وهنا أخفق هذا المشروع باعطاءه الحق للفرد بالتنازل والايصاء بما يملك للغير وبأعمار تقل عن أعمار الرشد بكثير ولاسيما للأناث .. ومن الجدير بالذكر ان مشروع هذا القانون اعتمد على تحديد سن البلوغ البايولوجي ولم يعتمد على سن الرشد والمتفق عليه عالميا باكمال ثمانية عشر عاما للذكور والأناث على حد سواء أو باكمال واحد وعشرين عاما لأي من الجنسين في بعض البلدان .. وأشير هنا الى اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1990 والتي تعرف الطفل بأنه كل شخص تحت عمر ثمانية عشر عاما .. فهل سنسمح لأولادنا وبناتنا من القاصرين بالتصرف بأموالهم بهذه الأعمار ؟

ومن الفقرات الخلافية الشديدة لمعارضي مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري هو العمر المسموح به لعقد الزواج .. فبينما حدد القانون رقم 188 لسنة 1959 العمر المطلوب لذلك بالعقل واكمال الثامنة عشرة وكما جاء في الفقرة واحد من المادة السابعة من فصل الأهلية .. في حين أخفق مشروع قانون الأحوال الجعفري بتحديد العمر المشترط للزواج بالسماح للأب والجد للأب بتخويل الولاية بتزويج الطفل الصغير والطفلة الصغيرة كما في المادة رقم 50 من أحكام الزواج .. ان وضع الفقرة بهذا النص المفتوح دون تحديد جعل حياة ومستقبل الصغار مرهونين بقرارات الكبار .. السؤال هنا كيف يسمح للصغار دون سن البلوغ بالزواج تحت أية ذريعة ؟ وكيف يسمح لمراهقين صغار بالزواج وادارة شؤون الأسرة وهم بهذه الأعمار ؟ الا يكونون بأمس الحاجة الى الرعاية والتربية والحنان بدلا من السماح بتزويجهم وانجابهم لأطفال يحتاجون الرعاية ؟ الا تكون الطفلة الصغيرة رغم بلوغها الجنسي هدفا للمتعة الحسية وتحويلها الى ماكنة تفريخ ؟ الا يتعرض جسدها للاستهلاك المبكر ؟ الا تتعرض لأخطار الحمل والولادة التي تنصح الجهات الصحية والطبية بعدم الحمل في السنوات المبكرة ولاسيما تحت سن خمسة عشر عاما لوجود أخطار شديدة رغم البلوغ الجنسي وامكانية الحمل ؟ هل ننظر الى امكانية جسد الفتاة لحدوث الحمل أم الى القابلية العقلية والنفسية لانجاح الحمل وبالتالي اعداد أسرة ناجحة ؟ هل يتمكن صبي صغير من ادارة شؤون أسرة أم سينهمك في الممارسات المسموحة له عند الزواج ؟ ماذا عن اكمال التعليم لتكون هذه البراعم جزءا من مجتمع ناجح بدلا من ارهاقهم بمسؤوليات أسرية تمنع تعليمهم أو تعيقه على الأقل ؟ ان هناك تناقضا شديدا بين تحديد العمر في حالة الوصية التي ذكرتها في الفقرة السابقة وبين جعل الباب مفتوحا بهذه السعة فيما يخص عقد النكاح ؟

أما المادة 51 من نفس الأحكام فقد اشترطت صحة التزويج بعدم وجود مفسدة وتحقق المصلحة .. وهذه أيضا مادة مفتوحة وليس هناك تحديد للمصلحة أو المفسدة وبالتأكيد لن يكون هناك للأطفال المستهدفين بهذه المادة أي رأي أو قرار بتحقق المصلحة أو المفسدة بسبب العمر أولا وبسبب الولاية ثانيا .. ان حياة ومستقبل هؤلاء الأطفال مرهون وفق مشروع القانون برغبات الأولياء وادراكهم وليس كل الأولياء على درجة عالية من الادراك والتفهم وستتدخل الرغبات والأهواء والأطماع بعقد زيجات مشرعنة ضحاياها هم الأطفال ..

أما المادة 52 التي تنص على عدم تثبيت ولاية الأب والجد للأب على البالغ الرشيد أو البالغة الرشيدة اذا كانت ثيبا فهي مادة تسبب اشكالا كبيرا للمشرع والمنفذ على حد سواء.. ان الاشكال في نص هذه المادة هنا يقع في أن كلمة " البالغ " كلمة مفتوحة وتعتمد على البلوغ الجنسي كما هو واضح وتحقق البلوغ الجنسي يختلف من شخص لآخر وكما يبدو سيكون في الغالب لعمر اثني عشر أو ثلاثة عشر عاما للأناث وأربعة عشر عاما في الأغلب للذكور .. أما كلمة " الرشيد أو الرشيدة " فهي كلمة مفتوحة ولا يمكن للقاضي التحقق من الرشد وسيكون الأفضل هو الرجوع الى اتفاقية حقوق الطفل التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تحدد سن الرشد وتجاوز مرحلة الطفولة باكمال عمر 18 عاما .. أما عند وجود خلاف بين زوجين من مذهبين مختلفين فهي المعضلة الأشد فبأي قانون سيحكم القاضي بقانون ينطبق على الزوج أم بقانون ينطبق على الزوجة ؟

لقد طرحت هنا فقط أهم النقاط الخلافية بين القانونين وأجد ان الرجوع الى قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 واجراء التعديلات للفقرات التي تحتاج الى تعديل يمثل الحل الأفضل وبالتأكيد سيكون الدور الأساس هنا للمختصين في مجالي القانون والشريعة الاسلامية ..

في النهاية هل سيكون المعارضون للقانون شيوعيين ملحدين أو علمانيين ؟ وهل سيكون المؤيدون هم المؤمنون وحدهم ؟