المرأة العراقية في الحياة العامة



تيسير عبدالجبار الآلوسي
2005 / 7 / 8

تقدمت المرأة العراقية أشواطا كثيرة في القرن المنصرم ودخلت أبرز المعتركات العامة في البلاد.. وكان من ذلك وجودها المميز في الريف وحقول الزراعة وميادينها المتنوعة، ثم دخولها ميادين المعامل والمصانع وبالتأكيد المدرسة التي أهلتها لـِـولوج أبرز مؤسسات الدولة حتى احتلت بُعيد ثورة الرابع عشر من تموز المنصب الوزاري...
ولكن التراجعات السياسية وسطوة عصابات مافيوية على السلطة وإدارة مؤسسات الدولة أدى إلى التراجع التدريجي لوجودها أو التذبذب الخطير في التعامل معها فمرة يدفعونها إلى ميادين العمل لحاجتهم لبديل الأيدي العاملة المنشغلة بحروب النظام وأخرى يعيدونها إلى المنزل حيث يتنامى دورها الوطني في فضح تلك الحرب ومخاطرها؛ فيكافحون أنشطتها بعزلها وسجنها لا سياسيا وأمنيا حسب بل واجتماعيا واقتصاديا؛ كما جرى عندما أصدروا قرارات الذبح الهمجي الوحشي وقطع رقابهن ورؤوسهن بتهم باطلة...
اليوم ما زالت قوى الظلمة والوحشية ترى في وجود المرأة في ميادين العمل فضحا لطبيعتها الاستغلالية ولسياساتها الرعناء المعتمدة على العنف السادي في الحياة الإنسانية. وهي بذلك تعول على مزيد من العزل الاجتماعي وهذه المرة بمزيد من ادعاء التمسك بتقاليد الشرف وقوانين العيب والعار التي يلصقونها بالمرأة خدمة لتنفيذ مآربهم..
إنَّ فتاوى مغلفة بالدين والمذهب والطائفة والمجتمع الشرقي أو الإسلامي وبقرارات التجريم والتكفير والتعيير (من العار)، هي برنامج القوى الطائفية والمتخلفة الظلامية الضلالية في مساعيها لحجب قوى المرأة الناشطة في بناء الحياة الجديدة..
وإذا كان العقل البسيط يمكنه تذكر ومعرفة أن لا دين ولا مذهب ولا أي فكر إنساني أو رباني قد حرَّم عمل المرأة أو منعها وطلب حجبها أو سجنها فإنه من السهولة بمكان أن نجد الوسائل الكفيلة لفضح تلك الأفكار السياسية المريضة وخطلها الفكري والاجتماعي معتمدين على النص الديني الأصل في عملية الفضح نفسها..
فلقد جاء النص الديني في مرحلته في الغالب بوصفه أرضية إصلاحية سامية عملت على تحقيق أركان التطور الإنساني وحراك المجتمع البشري بطريقة ما.. ويمكن لنا بناء على مثل تلك النصوص فضح حقيقة الدجل الفكري وعلله في مسعى قتل المرأة وتصفية أدوارها البنائية..
وبخصوص مجتمعنا العراقي بالتحديد يمكن الحديث عن المرأة العراقية في تاريخ الحضارة السومرية ونذكر ملكات سومر وكاهنات البلاد وبطلات من التاريخ وناشطات في دفع عجلته مرورا بالتاريخ الإسلامي وقيام الدولة العراقية الحديثة بكل النساء اللواتي كنَّ علامات مشرقة في تاريخ وجودنا الوطني والإنساني..
حيث اشتركت المرأة في المظاهرات ووزعت صحافة الحركة الوطنية وساندت نضالات زميلها الرجل في مختلف مؤسسات الدولة العراقية وميادينها.. فعملت في الهندسة والطب والتعليم ودخلت سلك الشرطة والجيش وقادت ميادين ظلت محظورة على نساء عديد من البلدان حتى يومنا هذا..
ولقد كان تطور المرأة العراقية مؤسسا على وعيها الطبقي والسياسي والمهني وعلى معارفها العلمية التي استقتها من أعلى مؤسسات المعرفة الأكاديمية.. ولقد نظمت نفسها منذ مرحلة مبكرة في بلادنا فشكلت الجمعيات والمنتديات وكذلك رابطة المرأة العراقية التي كانت من بين أرقى المنظمات وأنشطها حتى استطاعت أن تشترك في مؤتمرات نسوية وسياسية دولية مرموقة في المكانة التي احتلتها بين بقية المنظمات النسوية..
ولم تستكن المرأة العراقية لطبيعة التقاليد المتخلفة التي ورثها العراق الحديث من دولة الخلافة العثمانية وتركتها السلبية العليلة ولم ترضخ للقمع الدموي للنظم الفاشية التي حكمت العراق بالحديد والنار.. فواجهت بشجاعة وصلابة الحملات البوليسية التي طاولت الحركة الوطنية من سجون وتصفيات وإعدامات..
وما ينبغي الاعتراف به هو درجة التخلف التي أصابت الحركة الوطنية عامة والشلل الخطير في الحياة العامة وفي تنظيم الفئات الشعبية العريضة ومنها تنظيم الحركة النسوية بخاصة؛ في ظل أعتى أجواء القمع والاستلاب التي عانى منها العراق في العقود الأخيرة!
وهذا ما خلق الفرص المؤاتية لعمليات التضليل التي تمارسها بعض القوى السياسية الدخيلة على الميدان العراقي بعد سقوط الطاغية وهي قوى تمتلك الإمكانات المادية والإعلامية وأرضية النخلف وأمراضه فضلا عن لعبة التضليل والتمويه والتستر بالدين وطقوسه والتقاليد السلبية التي لا يقرها صحيح الدين أي دين أو شرع..
وعملت تلك القوى وممثلاتها من نسوة [معروفات] كنَّ بالأمس يعملن في أجهزة النظام القمعي واتحاد نسائه الذي كانت مهمته الأساس التسقيط الأخلاقي تحضيرا للتسقيط السياسي فضلا عن جوقة من هنا وأخرى من هناك ممن يعملن جهلا أو مصلحة ذاتية سيئة ضد النساء وضد حركاتهن ووعيهن بأوضاعهن..
وعلى سبيل المثال تظاهرات [ما أطلقت عليه العراقيات الكواني أو الكبنكات] أي المتلفعات بأحجبة مبالغ بها(إيرانية أو أفغانية أو غيرهما) بطريقة فجة الهدف منها تمرير أفاعيل تضليلية تخدم القوى المستغلة في وقت لا تقدم للمرأة إلا الويلات ومزيد من الاستلاب ليس لحرياتهن العامة حسب بل لوجودهن الإنساني حتى في بيوتهن حيث تصير المرأة إلى سوق النخاسة في المنزل وخارجه!!
ومن عجيب الأمور أن المتنورين من الملتزمين دينيا لا يعلنون مواقفهم بشأن تلك التظاهرات التي يقرون في مجالسهم الخاصة بخطئها ويتحدثون عمّا يختفي وراءها من مخططات. وهو ما يزيد الطين بلّة حيث يرون في تحالفهم مع القوى المتخفية وراء أستار الدين والطائفة زورا وبهتانا وتضليلا أفضلية على تحالفهم مع قوى المجتمع الحية وفئاته الشعبية ومنها الحركة النسوية المتنورة...
ما المطلوب اليوم من الحركة النسوية؟ ومِن أنصارها؟ وما الحل لحالة التخلف المقيتة؟ وما دور المرأة في قراءة أوضاعها وتفاصيل حياتها؟

ليس معقدا أن تجيب المرأة بأنها إنسان كامل وأنَّ عليها الإيمان بوجودها الإنساني غير المنقوص لأي سبب؛ فهي ليست كائنا ناقصا لا بيولوجيا ولا عقليا ومن ثمَّ فإنَّها تمتلك حقوقها مثلها مثل أي إنسان آخر رجلا أو امرأة فلماذا تصير ناقصة الحق في القرار وفي التصرف بحياتها وإدارتها على وفق ما تراه من مصلحتها ومصلحة أن تحيا حياة إنسانية كريمة؟
على المرأة أن تعي موقعها في البيت وموقعها في الشارع وفي المعمل والحقل في المدينة والريف.. إنها مدعوة لتحمل مسؤولياتها المدنية.. كيف؟ حتى في النص الديني المقدس تؤمر بأن تكون مسؤولة عن نفسها وعن تصرفاتها وأنشطتها حيث ستحاسب على كل فعلة كما الرجل ولن يكون لها، دينا، أمام الله إلا أن تجيب عن مسؤولياتها المباشرة وليس لها التذرع بأي حجة تبعد عنها مسؤوليتها التامة الكاملة.. وهي أمام القانون تحمل المسؤولية ذاتها وأمام المجتمع مسؤولة عما يجري لها ويدور حولها..
فليس صحيحا أن الخطيئة، بمفهومها الواسع كالمثالب الاجتماعية والاقتصادية وغيرهما، تجري من طرف واحد بل تشارك فيها المرأة حتى بسلبيتها وعليها لتجنِّبَ نفسها مسؤولية أخطاء الآخرين أن تعي مسؤولياتها وأن تكون إيجابية في اتخاذ القرار وفي توجيه حياتها حيث تستجيب لمصالحها الحقيقية وتصون آدميتها وتدفع عنها التوريط المستمر بحيوات السيد الذي يذلها ليل نهار؟!
إنَّ مسألة اتخاذ القرار المناسب أو القرار المصيري ينبغي لها وحدها أن تتخذه أي المرأة الواعية لتفاصيل ما يدور حولها.. ومن الطبيعي أن يتطلب هذا انخراطها في التنظيمات التي تدعو لتحررها لا إلى عبوديتها وإلى القوى التي تريد تنويرها لا تضليلها وهي صاحبة الإحساس المرهف والعقل الراجح في اختيار الجهة الحقة في معالجاتها..
كما ينبغي لها أن تصر على تعلمها وتثقيفها وتوعيتها وأن تعقد الندوات المستمرة بالخصوص سواء في المنزل أم في ميادين التخصص من منتديات أدبية ثقافية أو علمية.. وأن تتمسك باهداب المعرفة الأكاديمية طريقها لشق حياتها الجديدة ومنح ذاتها فرصتها التاريخية في زمن أرعن بساديته وهمجيته في التعامل معها..
في ذلك فقط يمكن للمرأة العراقية أن تجد صحيح طريقها وقويمه إلى يومها المستقر وغدها الأفضل.. وبالتحديد في قراءتها لأوضاعها وتحديد التوصيف الدقيق لما يجري ميدانيا من نمط السياسات الحزبية التي تعول على إقصائها المباشر أو غير المباشر.. فالمباشر يكمن في عملية تحديد التمثيل النسبي لها في مؤسسات الدولة كما جرى بخصوص الـ 25% التي اختيرت في وقت تشكل النسوة حوالي 60% من مجموع الشعب العراقي..
وغير المباشر في تعطيل ذاك التمثيل المتحقق عبر منع النسوة الواعيات من المشاركة ومنع الناشطات من الوصول إلى مقاعد العمل والفعل والتأثير.. مع عرقلة كبيرة وإرهاب حقيقي يعتمد فلسفة التكفير والحظر والمنع والتسويف وتخريج الرؤى بطريقة سلبية إقصائية وكم الأفواه وإصدار أوامر بعينها بخصوص ما يجب وما لا يجب قوله لممثلات الأحزاب التي أُكرهت على قبول تمثيل النسوة..
طبعا تجد المرأة نفسها في دوامات من العصروالقهر، الاستلاب والاستغلال بطريقة مضاعفة وهي تجد نفسها باستمرار أمام مشكلات تشغلها وتضعها بعيدا عن هموم الشأن العام بمزيد من المشاغلة والفردنة والتشظي لحياتها الشخصية ما يعمق تعطيلها عن الفعل والتأثير وما يوقفها عن التصدي بنفسها لمشكلاتها التي لا يمكن للرجل حتى النصير أن ينهض بها بالنيابة ..
إذ تظل النيابة أمرا مستكرها ولا يدعم حركة التطور والمشاركة وعليه كان لزاما للنسوة أن يخرجن على التقاليد السلبية المرضية وتلك الموروثة عن أفعال المتخلفين عقليا قبل المتخلفين فكريا وهم جميعا يستبيحون كرامة المرأة وشرفها وإنسانيتها في وقت يتحدثون عن أوهام لا يتحقق منها إلا ما يخدم أمراضهم الاجتماعية والنفسية وغيرها..
المرأة العراقية اليوم في خانق كبير لا مخرج لها منه بكل القوى الاجتماعية المتنورة ودعمها إلا إذا تحركت هي وعملت على تقرير مصيرها بنفسها وقالت ها أنا ذا عندها يتحقق لها وجودها الإنساني عمليا وليس وراء أوراق الصحف التقدمية شكلا بل تكسب حريتها في واقع الحال لا في الأحلام والأوهام...
وينتظر ذلك الانتصار النسائي مزيد من التعلم والتثقيف ومزيد من الإصرار وعميق الثبات ورسوخ الإرادة الحرة في اتخاذ القرار بعيدا عن سلبية واستكانة طال أمدها وامتد بعيدا.. وهي جديرة بكل المواقف الرائعة المؤملة فيها عندما تقف بحزم مع أخواتها المناضلات من أجل تحررها واتعتاقها ومع المتنورين الذين يعملون من أجل دعم تطلعاتها...