إسقاطات توحش الاحتلال الإسرائيلي



سعيد مضيه
2014 / 5 / 16

إسقاطات توحش الاحتلال الإسرائيلي
في فلسطين المحتلة ينتشر وباء قتل النساء، ويسقط شباب في العشرينات بسكتة قلبية مباغتة. شبح الموت يتجول في القرى والمخيمات وأحياء المدن. المجتمع الفلسطيني هو الوحيد الخاضع لاحتلال يعلن سدنته تعمدهم جعل حياة الناس لا تطاق؛ وفي السجون الإسرائيلية يتعمدون جعل الحياة عسيرة على الاحتمال ويخيرون الضحايا بين دوام الحال او قبول النزوح خارج الوطن. فأن تتعمد السلطة المحتلة ممارسة التعذيب الوحشي لشعب على مدار الساعة هو الاضطهاد الذي لا مثيل له في العصر الحديث. الاحتلال المتوحش عمل على توحيش المجتمع الفلسطيني، مثلما أغرق المجتمع الإسرائيلي في وحشية والغة بالدماء. حيال النوازل نغرق القهر في أحواض من الروايات المتأسنة عن مفاوضات هزلية ورفض اجوف مصحوبتان باوهام انتصارات وبطولات صمود. اما قيادات الفصائل ، لها التجلة ، وكذلك هيئات المجتمع المدني، والعمق الاستراتيجي العربي فيكتفون بالتسجيل ويكتفون الأيدي. مشاهد ترتد بالإحباط وثلم المروءات ، تجرح النفوس وتقوض دعائم العزة والكرامة، تتكرر كل مطلع شمس. ولغرض المقارنة نذكّر بالانتفاضة الشعبية في ثمانينات القرن الماضي ، حيث انطوت النفسية الاجتماعية للفلسطينيين على عافية واعتزاز بالذات؛ كان الأمل يسكن النفوس والجماهير تخوض انتفاضتها الشعبية . ولم تنشب انتفاضة غيرها؛ فما حدث في بدايات القرن كان مواجهة عنفية استدرج إليها شارون لغرض في نفسه تم إنجازه، واستجابت لها فصائل توهمت انها إنما تقبل إرهاب الاحتلال بإرهاب مضاد. وعلى هذا فليس غير توفير أسباب تصعيد المقاومة الشعبية بهدف تصفية الاحتلال، وسيلة إنقاذ للشعب الفلسطيني والشعب اليهودي من وباء ضعف المناعة، الأخطر من مرض الإيدز.
قد يستكين البعض لإرادة الصمود بوجه محاولات التهجير. حقا فالوعي الشعبي محصن ضد الرحيل ؛ غير اننا ينبغي ان لا ننسى أن اليمين الإسرائيلي والدولي يضمر أساليب ووسائل همجية متوحشة يباغت بها الجماهير ليفقدها الإرادة ويحملها على تصرفات لاإرادية لا تستفيق منها إلا ضحى غد تعض فيه على الأصابع وتتساءل كيف حدث ما حدث.
الزوج الذي اغتال طليقته هو ضحية ملابسات أفقدته الإرادة والحس الإنساني؛ فلم يتبق لديه قلق على أطفاله الخمسة، أوديت أمهم الردى وأودع والدهم السجن! وبعد يومين لا أكثر يقدم رجل على خنق زوجته حتى فارقت الحياة دون اكتراث بأطفال كيف يدبرون معيشتهم ، وأي ذكريات سترافقهم مدى الحياة عن والِدَين فصمت علاقتهما الزوجية بأسلوب تراجيدي . والدين يأمر " عاشروهن بمعروف او فارقوهن بمعروف"، فأين مؤثر الدين في الوجدان؟ الجريمتان نموذج لحالة ثقافية - نفسية وذهنية تلف أغلبية المجتمع الفلسطيني، وهي تجلّ غير منظور، كمرض السرطان يتطور بخبث، بضغوط هيجان توترات نفسية جراء الأوضاع غير الإنسانية التي يحياها المجتمع الفلسطيني.
بعد اوسلو اشتط الاحتلال في أساليب هدر الكرامة والإرادة والعقل لدى الشعب الفلسطيني.في هذه الأثناء رفع جدران الأبارتهايد. والحقيقة أن الليبرالية الجديدة استهدفت أكثر من شعب بمصير الهدر وابتكرت الوسائل والأساليب السياسية والاقتصادية والثقافية في هذا المسعى. بذل المحتلون المساعي الحثيثة كي يسقطوا من الذاكرة الجمعية تلك التجربة المجيدة للانتفاضة الشعبية، فكان الشطط في مصادرة الأراضي وتوسيع الاستيطان ، ثم عربدة القوة على يد شارون، تقتل وتدمر وتشيد الجدار وتهود المناطق وتعتقل بالجملة، وأخيرا اوغلت في العنف، بعد أن سحقت المقاومة المسلحة، بتحد صارخ لكل شرعية محلية او دولية ، تغتصب الأرض وتوسع المستوطنات وتطلق قطعان المستوطنين يعيثون في الأرض، وهي تطلق شعارات دولة يهودية في عموم فلسطين؛ بينما الأيدي مكتفة. الحالة العربية عامل مشجع، وعشوائية المقاومة عامل إغراء. تلك هي وسيلة الهدر ، هدر العقل والإرادة والتفكير. والمهدور يتكئ على اواليات دفاعية لا إرادية تستبدل الفعل باستعراضات مظهرية ، هي بمثابة المخدر يغيّب الهموم، وينسي واقع الهدر.
اما التوقف عند ظاهر الجريمة فيراوح عند المتأسن الراكد في موضع العبث. فقد طرح مذيع فضائية فلسطين سؤاله على اكاديمية فلسطينية، عبرت في إجابتها عن غضبها ونقمتها علي " الرجل"بالمطلق . بدت متجهمة مستفزة تضامنا مع أختها المرأة التي خنقها زوجها حتى الموت. لا احد، ذكرا ام انثى، يستسيغ جريمة القتل؛ غير أن تضامن الأكاديمية مع المراة كجنس؛ وتوجيه اللوم إلى الرجل كجنس إنما يدخل في باب ردود الفعل التلقائية. إنها مظهر العفوية في حياتنا ، والعفوية لا نصيب لها من العلم. هي في حقيقتها نمط من تقليد ("نحن" ضد "هم")، التقليد الموغل في القدم، سمم وجودنا منذ حروب داحس والغبراء ، وعلى تتالي العقود عمق التشظيات داخل المجتمع وانفذ مشارط التقسيم الثنائية، " نحن" و"هم" على مختلف المراتب الاجتماعية وعبر الانتماءات العرقية و الطائفية و الجغرافية. والأوضاع السيئة تستحضر ما هو سيئ من التقاليد والقيم التراثية. في ظروف القهر والهدر المستشرية يستحضر عُقَد القهر من تراث الماضي ؛ فبات الاستقطاب في فريقين متضادين تصرفا تلقائيا لدى بروز أبسط إشكال، وعلى أي مستوى اجتماعي؛ فلا يغيب تناقض طائفي إلا لبروز انشقاق عشائري او قومي ؛ ويعبر التشظي حدود القوميات والطوائف والعشائر وحتى الأفخاذ والعائلات. والعقل السياسي، كما يؤكد مرارا أخصائيو علم النفس أمثال الدكتور قاسم حسين صالح، الأكاديمي ورئيس جمعية النفسيين في العراق، " متورم بماضوية اللاوعي الجمعي ، الذي من خصائصه تغليب العقل الانفعالي على العقل المنطقي في سلوك الفرد والجماعة."
بالانفعال نقارب مشاكلنا ونواجه المحتل ، حتى وهو يمارس الفعل بتفكير وتخطيط استراتيجيين.لا نحتوي مشكلة ولا نقهر أزمة ونفاجأ بعواقب تعقيد المشاكل وتعميق الورطة .. يستفحل التأزم ويزداد تعقيدا. ليس من الأخلاق الإعفاء من مسئولية القتل ؛ ولكن الواجب يقضي بالتعمق في الأسباب من اجل اجتثاث شواحن القهر الضاغط على النفوس.
إيريك فروم عالم التحليل النفسي الألماني كتب مؤلفا حلل فيه البنية الفكرية للشعب الألماني الذي انتخب زعيما سبب الكوارث له وللبشرية جمعاء. الجيوش الألمانية تتوغل في الأقطار وتقترف الجرائم لتثير في الجماهير الألمانية هيستيريا اعتزاز قومي زائف، كذلك الذي يلف حاليا المجتمع اليهودي في إسرائيل، وهو الجنون بعينه. "المحك الحقيقي فى اختيار الشعب لرئيسه( ومن ثم اتباع سياساته) إنما يتمثل فى بنائه الفكري وحوافزه الاقتصادية الاجتماعية"، هذا ما استخلصه إيريك فروم .
والبنية الفكرية للمجتمع الفلسطيني مداميك من الانتكاسات ، شواحن القهر والإحباط. جرب الفلسطينيون مختلف أشكال المقاومة ليرتد عليهم بالمزيد من التطاول وقضم الأرض. اشتبكوا في المقاومة المسلحة من غير إعداد، أحيانا انجرارا مع الاستفزاز وفي أحايين عدة تسابقا على الشعبوية؛ والحصيلة مزيد من الاضطهاد والتطاول وسلب الأرض، ثم تمتين قيود التبعية والتخلف . ردد الرئيس الأميركي السابق، بوش الابن ، اكثر من مرة ضرورة احترام كرامة الشعب الفلسطيني، نظرا لأن تعمد الإذلال بدا جليا، وما زال، في ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية. أما الرئيس الحالي اوباما فتبلدت حواسه بالكامل.
العمق الاستراتيجي للشعب الفلسطيني تبلدت احاسيسه كذلك فلا يصدر عنه ما يدعو إسرائيل إلى وقفة تامل او مراجعة. الجماهير الفلسطينية تكظم الغيظ على جرعات من القهر والإحباط ، إذ يطرق أسماعها على مدار الساعة اخبار القتل والتدمير ومصادرة الأراضي وتخريب المزارع وهدم البيوت، تتطلع حولها، وهي تدرك أن ما يتقصدها بالشر تحالف استراتيجي امبريالي – صهيوني، فلا تجد رادعا ولا قوة ذاتية تصد او تسائل ولا نقول تعاقب. الضغوط ، وكما بينت أحداث العقود الأخيرة، ليس بمقدور الشعب الفلسطيني وحده التصدي لها ووقفها ؛ إنما هي تستدعي جهودا متلاحمة من الشعوب العربية وحركاتها التحررية، سيما وهي المستهدفة من نفس التحالف.
في بيان أخير صدر عن قوى " اليسار العربية" وردت عبارة " تضامن مع الشعب الفلسطيني ، اسوة ب" تضامن" قمة الحكام العرب. لم تطرح الفصائل الفلسطينية على الاجتماع المشاركة بتحرك جماهيري عربي في يوم الأرض او ذكرى النكبة او مجزرة صبرا وشاتيلا ،او وقفة مع إضرابات الأسرى، وما اكثر المناسبات التي تظهر الشعب الفلسطيني وحيدا بوجه التحالف الإمبريالي – الإسرائيلي. حتى هذا الموقع عرض مقالة كتبتها بمناسبة يوم الأرض، نشرت يوم 28 آذار الفائت، و لمدة تقل عن اربع وعشرين ساعة ، فلم يطالعها غير بضعة قراء، بينما المقالات الأخرى طالعها آلاف القراء . وكم حز في نفسي اغتيال مقال يوم الأرض. الأرض بؤرة الصراع مع الأبارتهايد والقائمون على الموقع يتعمدون تقليل أهميتها.
إحساس الوحدة رهيب، وطبيعي أن يستحضر اللاوعي الجمعي المشحون بتوتره الانفعالي مخزونا ثقافيا يضيق عن استيعاب دلالات القهر النازل ومغازيه ، فيرتبك الذهن ويقعد عن ترشيد ردود أفعال ناجعة. الشعوب في أوقات الأزمات تتفاعل مع وعيها وتتحكم بسلوكها "قوة خفية تتضمن أفكارا ومعتقدا ت وقيما ورموزا وأساطير تسمى (اللاوعي الجمعي)"، حسب تعبير الدكتور قاسم، تستجير بانفعالية نزقة تصبها في "أنا" متضخمة على الأقرب الأضعف. استبدت بالعقل المأزوم سيكولوجيا " الغالب والمغلوب " ، لم تترك حيزا لتفاهم او حل وسط داخل أسرة او حي، فلا تسمح لفترة تبريد العقل. تلاوين القهر المتغلغل في النفوس من إسقاطات القهر السياسي تصب سمومها في العلاقات الدارجة داخل المجتمع وخلاياه حتى الأصغر منها – الأسرة، وتسمم العلاقات الزوجية .
يفاقم الفاجعة تقليد تحدر من العصور الخوالي يربط شرف العشيرة بسلوك امرأة. لا يثلم شرف العشيرة خيانة رجل او افتقاد البعض من أفرادها المروءة والفضيلة. لايثلم شرف القبيلة أن يوقع بعض أفرادها الضرر بالمجتمع.من اختلال القيم والمعايير أن العار أكثر المصائب رهبة، يلحق العشيرة من تصرف امرأة وليس من تصرف الرجل. المرأة كانت تسبى، ولتحاشي المهانة كان الرجل يئد الطفلة. مضت عهود الغزو والسبي ، وما زالت تتلبسنا من الأمثال " موت بنيتك من طيابة نيتك"! عار المرأة أعظم مصيبة تلحق بالأسرة والعشيرة، لا تدانيه مصيبة موت كبيرها أو الفقر أو أي مصيبة غيرها. واولى الدعوات تجنيب " كشف الخيم". ومن العادة أن يقول الرجل حين يأتي على ذكر زوجته " العيال الله يعزك". طالنا بعض تحضر وبتنا ننصف المرأة جزئيا ، نتقبل العزاء لوفاتها وتتحمل أسرة المتوفية ، زوجها وأبناؤها وأقاربهم أعباء مراسم الدفن وتقبل التعازي. فمتى تتعادل المراة مع الرجل في عقوبة الزلة أوالانحراف ؟! متى نكف عن تجيير الغضب على الأضعف ونواجه القهر في مصدر شروره؟
إن ركود الحالة عند حفرة القهر والهدر مثل ركود الماء ؛ لكن لا تمتصه التربة ولا يتبخر في الهواء؛ يعمي البصيرة ويدني من الجنون. وهذا ما تفصح عنه حوادث القتل التي غدت ظاهرة اجتماعية. والنقاهة وصولا إلى الصحة النفسية تكمن في تصعيد المقاومة الشعبية.