في نفي دونية المرأة – 4 – الانسجام الجيني الأنثوي مع حاجة حفظ النوع القديمة و قيم العصر الجديد.



نضال الربضي
2014 / 7 / 1

في نفي دونية المرأة – 4 – الانسجام الجيني الأنثوي مع حاجة حفظ النوع القديمة و قيم العصر الجديد.

تعتمد كل الكائنات على مبدأ التكاثر لحفظ نوعها من الانقراض بُغية الاستمرار الوجودي الذي يشكل ما زال أعظم َ الغرائز و أكثرها دفعا ً للفعل، و هو الذي يختفي وراء الطاقة الجنسية و رغبة كل جنس ٍ في لقاء ِ الجنس الآخر، كما أنه السبب الخفي الذي تجهد الأنظمة الأخلاقية ُ و التشريعية ُ و الدينية المختلفة ُ في السيطرة ِ على مظهره الجنسي دون التطرق إليه كجذر و دافع، إما لجهل هذه الأنظمة تشخيصَ الجذر ، و إما لأنها تتبنى الجذر لكن تريد ترجمته من خلال آليه ِ أخرى.

يتخذ الإنسان العاقل Homo Sapiens من اللقاء الجنسي آلية ً لهذا التكاثر، و هو ما يعني وجود نوعين: الذكر و الأنثى، و اختصاص كل نوع ٍ بصفات ٍ مرغوبة تجذب النوع الآخر، و تجعله راغبا ً في هذا اللقاء، و قادرا ً على فهم مُتطلباته، و تلبيها، و إتمام العمل بما يضمن لقاء الخلايا الجنسية: حيمنات ذكرية مع بويضة أنثوية، لكي يقدِّم أحد الحيمنات (واحد فقط من ملاين) ثلاثة و عشرين كروموسموما ً (23) إلى بويضة الأنثى الوحيدة التي تحتوي هي أيضا ً على ثلاثة و عشرين مثلها (23)، فيصير المجموع ستة و اربعين كروموسوما ً (46) و يبدأ تكوُّن ُ الكائن البشري.

تتطلب حاجة ُ حفظ النوع نشوء الكائن البشري في بيئة ٍ تقدم له "المأوى" لكي يبدأ وجوده، و تضمن له "استدامة البدء" لتتطور إلى "نمو" حتى يستكمل َ احتياجُه متطلباتِه قبل أن ينفصل َ عن المُضيف، كما تتطلب أيضا ً التزاما ً اختياريا ً من المُضيف الذي ستتغير بيئته الداخلية لتقدم هذا "الدعم" البيولوجي، فنجد ُ جسد الأنثى و قد تترجمت فيه خصائص الأمومة بيولوجيا ً ليتغير شكله و حجمه و تتعقد كيمياؤه و تغزر إفرازاته، مع ما يصاحب ُ كل ذلك من تغير ٍ نفسي ٍ على الأم، يستطيع أن يشعر به كل من حولها.

تقدِّم المرأة ُ جسدها و كل ذاتها لطفلها بسخاء شديد و الذي تحتضنه منذ اللحظة ِ الأولى لتكوينه، و تُعاني في حملها شتى صنوف الألم و الغيرات القسرية على جسدها، لكنها تختار أن تستكمل حملها و تمضي به حتى النهاية، حتى إذا ما اشتد الألم و حين يبلغ ُ ذروته يخرج جنينها إلى الحياة في مشهد ٍ هو في اعتقادي ملخَّص ُ الوجود ِ كله: الحياة المولودة من ذروة التفاعل.

يكفي هذا المشهد لنفي أي استعلاء ٍ ممجوج ٍ و بلا أساس للذكورة ِ على الأنوثة، فلا فضل َ للكائن ِ على مصدره، و لا يمكن ُ للكائن ِ أن يسمو عن مصدره إلا حينما يتوقف المصدر عن كونه مصدرا ً و يجد الكائن لنفسه مصدرا ً جديدا ً أسمى، و عليه طالما بقيت النساء تلد الرجال أي ما بقيت المرأة ُ هي المصدرسيبقى دَيْنها و دليلُها معلقا ً في وعيه حتى يُغمض َ عينيه، و عليه إن أراد الاستعلاء و التفوق َ أن يجد لنفسه مصدرا ً آخر أو أين يلد َ نفسه.

لكنني اليوم َ أريد ُ أن أُبرز َ نقطة ً بيولوجية ً أخرى جديرة ً بالتأمل ِ و الدراسة أرى فيها تفوقا ً أنثويا ً لا بد من الاعتراف به، و هو انسجام ُ الدور الأنثوي الذي تُترجمه جيناتها إلى خصائص سلوكية ٍ في عملية اختيار الشريك و التكاثر، و كيف تنسجم ُ هذه الجينات و ما تُترجمُه مع حاجة ِ حفظ النوع، أكثر مما تنسجم ُ معه خصائص ُ الذكر.

سأقدِّم التجربة َ التخيُّلية ِ التالية لتسهيل الفهم و تقريب الأفكار إلى عقل القارئ الكريم:
فلنقل أننا أحضرنا رجلا ً سليم البُنية النفسية ِ و الجسدية، و عرضنا عليه مئة ً من النساء الجميلات اللاتي يأخذن بمجامع القلوب، و طلبنا منه أن يختار منهن من تعجبه لتكون َ أمّا ً لأبنائه، أو لتقضي معه وقتا ً حميما ً، دون أن نفرض عليه عددا ً معينا ً أو شرطا ً خاصا ً يؤثر ُ على رغبته أو يحد منها، أي أننا تركناه ُ على انطلاقه. سيقوم ُ هذا الرجل باختيار ِ أكثر ِ من امرأة، و لن يكتفي بواحدة ٍ منهنَّ، و من الرجال من سيقوم بـ "حجز" المئة تباعا ً و تخصيص "برنامج" يُقسِّم ُ فيه نفسَه عليهُن َّ. و بتكرار التجربة بين الذكور سنخلص ُ إلى أن الرجل لا يكتفي بامرأة واحدة.

أمّا لو قمنا بعمل هذه التجربة معكوسة ً فقلنا لمرأة واحدة سوية البنية النفسية و الجسدية أن تختار بين مئة رجل مع إمكانية اختيار أكثر من واحد أو حتى كلِّهم، فإن تكرار التجربة مع النساء سيقود إلى نتيجة واحدة و هي أن المرأة ستختار في أغلب الحالات و أكثرها: رجلا ً واحدا ً فقط لا غير.

إن سلوك التعدد عند الذكر كان حاجة ً تطورية ً في أزمان ٍ سحيقة جدا ً حينما كانت ظروف ُ الكرة ِ الأرضية ِ صعبة ً جدا ً، يندر فيها الطعام، و تتعرض ُ الكائنات ُ لأخطار َ مستمرَّة ٍ و مُتعددة من مفترسات ٍ و عوامل بيئة و جيولوجيا و طقس، و تنهش ُ في أجساد أعضائها الأمراض، و هو الذي شكل تهديدا ً حيويا ً لبقاء المجموعات الحيوانية جميعها و التي طورت هذا السلوك لتضمن َ بقاءها عن طريق تزويد الذكر بإمكانية إخصاب أكثر من أنثى على التوازي يلدن جميعا ً كائنات ٍ جديدة تُعوِّض فقدان ما يذهب.

لكن على الرغم ِ من انفصال ِ جنس البشر عن أسلافه الأقل تطورا ً، و حتى مع التقدم الحضاري الكبير الذي تمكن من السيطرة على عوامل الطبيعة و نجح َ في تحجيم ِ فعل المرض، و وفر الطعام و المأوى، و أطال معدَّل أعمار النوع، إلا أن هذه الخاصية التعددية في ذكور النوع البشري ما تزال ُ حاضرة ً بقوة، و هي تترجم ُ نفسها لا من خلال التعدد في عدد الإناث فقط لكن من خلال الرغبة المحمومة في الإكثار و شدة الإقبال على العلاقة حتى لو مع إمرأة واحدة، فالذين لا يمارسون التعدد مع أكثر من إمرأة يمارسونه في تكراره و زخمه ِ تعدادا ً مع امرأة واحدة، ليصير هذا السلوك ُ مسؤولاً عن هذا التكاثر اللامنطقي و الموبوء لأكثر من سبعة ِ مليارات ِ بشري على كوكب تكاد ُ موارده تكفي لأربعة ِ مليارات ٍ فقط.

أما الأنثى فلقد بدأت بقدرتها على احتضان ِ طفل ٍ واحد ٍ ، و استمرت عبر العصور تحتضن ُ في حملها طفلا ً واحدا ً، و ستستمر ُ أيضا ً في احتضان ِ طفل ٍ واحد، لينسجم َ سلوكها مع حاجة ِ حفظ النوع في الماضي، و لينسجم َ أيضا ً مع هذه الحاجة في حاضرنا، و لينسجمَ أيضا ً مع الحاجة ِ في مستقبلنا، و يُعزِّز ُ هذا التوازن َ التوجهُ الأنثوي نحو العلاقة الحميمة و الذي يميل ُ نحو إقلال عدد اللقاءات مع الذكر لا الإكثار منها، و نحو كبح جماح ِ الذكر "الهاجمِ" و "المُتهيِّج ِ" في عقلانية ٍ تفرضها جيناتهُا ترسم ُ سلوكها و تطبعُهُ.

أرى أن الانضباط الجيني الأنثوي يقدِّم في بيولوجيته أخلاقية ً فلسفية ً تنزع ُ نحو سلوك ٍ يطلُب إشباع غريزة ِ البقاء و مظهرها الجنسي من خلال الاعتناء ِ بـ و استدامة ِ العائلة المُكوَّنة من الأب و الأم و الأطفال و تكريس الطاقات ِ للـ "الموجود"، بينما يدفع ُ "الهياج" الذكري الرجل لإشباع الغريزة ِ ذاتها بواسطة ِ "خلق امتداد" جديد يُضاف إلى "الموجود" و "زيادة أعداد" الموجود، أكثر من الاهتمام بالعناية ِ به و استدامته.

تنسجم ُ البيولوجيا الأنثوية مع قيم هذا العصر ِ التي تؤمن ُ بالمساواة و العدالة و تكافئ الفرص، كما و تنسجم ُ مع دعوات ِ تحديد النسل للتغلب ِ على التحديات الاقتصادية للعائلة، و التحديات الدولية للحفاظ ِ على مصادر ِ هذا الكوكب ِ المُستنزف. و أعتقد ُ مخلصا ً أن على ذكور نوعنا إدراك َ الضرر ِ البليغ للسلوك ِ الجنسي غير المُنضبط و الإدمان عليه، و التكاثر ِ غير المسؤول، و تقع على عاتق النخب السياسية و الفكرية إيجاد قنوات إنسانية لتفريع الطاقة الجنسية بتوجيهها نحو ملذات العقل و مُستثيرات الإدارك و مُنمِّيات الوعي.

معا ً نحو الحب، معا ً نحو الإنسان!