الخياطة... 1 و 2



ايمان محمد
2014 / 8 / 15

الخياطة
(01)
الغرفة مغلقة ذات نافذة مفتوحة و تنسدل ستارة بيضاء لتغطي نصف النافذة السامحة لأشعة الشمس بالدخول عبر قضبان حديدية متقاطعة لتفترش جزءا" من ارضية الغرفة الفوضوية بأوراق ممزقة و صحون منكفئة على وجوهها و طعام مسكوب على الارض , قطعة لحم و مرق أحمر و سلطة طماطم و خيار و ملعقة و شرشف السرير يُمّزق الى قطع مستطيلة عرضها اكثر من شبر و طولها بطول الشرشف , ثم تُعّلق القطع بعد أن شدت بإحكام لتكون قطعة واحدة بطرف المروحة السقفية و التفت حول رقبة إنسان الذي إعتلى كرسيا وضعه تحت المروحة و قفز من الكرسي و تأرجّح في الهواء , ذلك الإنسان القذر المظهر , كثّ اللحية والشعر , شعره بلون القهوة مع كثير من الشيب مبّعثر هنا و هناك على رأسه , شاحب الوجه , يرتدي دشداشة رمادية ملطّخة بألوان اطعمة مختلفة و إفرازات مخاطية و دموع ...
فجأة يدخل رجلان يرتديان ملابس بيضاء الى الغرفةِ و يمسكان بساقيه و يرفعانها و يحررانه من ذلك الموت المحتم ...
يدخل رجل ثالث يرتدي نفس زي السابقيّن , فيخرج مسرعا" تجاه غرفة الطبيب في نهاية الممر الطويل نسبيا" و يصرخ : دكتور , مريض غرفة 21 حاول الإنتحار مرة أخرى و هو هائج الآن , دكتور أحمد ..دكتور
يخرج الطبيب مهرولا" و بيده حقنة مهدئة , يدخل الغرفة مع الرجل الذي ناداه و بسرعة و خفة سحب العقار من امبولة الدواء و حقنها بالمريض وريديا" , سكنت تلك العاصفة الإنسانية و نامت على الرغم منها ..
الطبيب : إربطوه على السرير حتى يفيق , سأجرب معه علاجأ آخر أقوى من الأول , يبدو أنه سيتعبنا حتى يتماثل للشفاء و الله المستعان .
قال احد الثلاثة : سأمر بتنظيف الغرفة و سأقوم بمراقبته عن كثب كي لا يجرم بحق نفسه ...
الطبيب : أحسنت يا علي , أنت مثال الممرض المتفاني في عمله فحتى لو كان رجلا" مجنونا فعلينا أن نبذل كل ما بوسعنا كي نخرجه بإذن الله من هذه الصدمة , سأتحدث معه حين يفيق
ينصرف الطبيب و الرجل الذي ناداه و يبقى علي مع زميله مصطفى ..و نفذا ما أمرهما به الطبيب ...
بعد سويعات أفاق المريض , يحاول تحريك يديه لا يستطيع , أدرك أنه مقيد الى السرير بقضبان حديدية كتلك التي يستعملها الشرطة في تقييد المجرمين , صار يصرخ و يصرخ , حتى يإس من الجواب ثم أرخى عينيه الذبلتين لنهر مالح من الدموع , سمع صوت المفتاح يدور في الباب , ينفتح الباب و يدخل د.أحمد مبتسما" و يقول بصوته الهادئ :
_كيف حالك يا عماد ؟
_هل تعلم يا دكتور أنكم مجانين !! لأنكم تغلقون الباب على رجل مقيد فكيف لي أن أهرب !؟
_إنك على حق يا عماد , هذا وعد مني أننا لن نكرر ذلك (ينادي الطبيب و هو ينظر تجاه الباب ) : علي , يا علي
يأتي عليّ (للطبيب ) : أمرك دكتور
يناوله الطبيب المفتاح _اغلق علينا الباب من الخلف و إنصرف
_ماذا !!
_إفعل كما أقول لك
_حاضر
تناول عليّ المفتاح من د.احمد و خرج .. خلف الباب سمعا صوت المفتاح يدور في ثغره و وقع خطوات الممرض مبتعدا عن الغرفة حتى تلاشَ الصوت
_ها , هل إرتحت الآن ؟ سأفعل أي شيء لكسب ثقتك
_حضرة الطبيب حررني و تحدث إليّ بإحترام فأنت تعلم أنني ضابط شرطة
_لك ذلك و لكن عدنِ بالصدق و عدم المراوغة
_أعدك
يحرر الطبيب مريضه من القيود و يجلس الأخير على حافة السرير و يهز رأسه بالهواء
_تشعر بدوخة , ستزول بعد قليل , أنه تأثير المهدئ
_لماذا لا تتركنِ أموت ؟ أريد أن أرتاح
_ستموت و ترتاح و لكن ليس هكذا و ليس هنا
_إذن متى و أين ؟
_الله اعلم ( و يشير الطبيب بسبابته الى أعلى )
تسود لحظة صمت يقطعها الطبيب بسؤاله
_ الموت ليس حلا" لأي مشكلة , لو كان حلا" لقتل كل من في الأرض نفسه , لأن جميع من في الأرض لديهم مشاكل
_ليس كمشكلتي أنا ..أنا ( يدق عماد بقبضته اليمنى على صدره و يشهق )
_في هذه الحياة , كل انسان فينا يعتقد أنه ألأكثر عذابا من بين البشر , عماد لقد قرأت تقريرك الذي بلغني من ذوويك لكنني أريد أن أسمع منك أنت , فأنت الوحيد الذي يرسم ما حدث لا غيّرك مهما كانت صلته بك
_تريد أن تسمع ؟
_أجل , أرجوك
_ د.أحمد لقد توفي والدي مذّ كنا اطفالا صغار , لا اعلم سبب وفاته ما أتذكره أنه كان يعمل كعامل في السكك الحديدية , يخرج كل صباح لعمله و ذات صباح لم يستيقظ , لقد نام كي يرتاح و لكنه نام نومة أبدية و إرتاح الراحة ألأزلية , ترك لأمي صبيين و بنت واحدة
كان عمري 10 أعوام , و أختي آلاء في السابعة و أخي عمار في الثالثة .
(02)
صار بعض الناس يعطفون علينا بما يفيض على حاجتهم , و خالي يوسف ( ابو محمد ) بادر بمساعدتنا رغم أن له عائلة كبيرة , لطالما رأيت والدتي تبكي بحرقة و هي تأخذ الصدقة من هذه و تلك , لعلها شعرت بذل العوز , بدأت تعمل خياطة و كنّ نساء الحي و الاحياء القريبة يأتينّ اليها لأنها ماهرة و تتقن صنع الفساتين و ملابس الاطفال و كل ما يُطلب منها ..
حدّث أمامي أن أُسيء إليها من قبل بعض النساء المتعجرفات , ما زلت أذكر إحدى تلك إلإساءات و تلك الكلمات اللاسعة
_ما هذا يا أم عماد , لقد أحضرت لك قماشا غالي الثمن و طلبت منكِ أن تخيطيه فستانا" لا خرقة كهذه ... و ترمي المرأة الفستان بوجه والدتي مما جعلني أستشيط غضبا" فدخلت عليهما و طردت السيدة شرّ طردة
_كيف تجرأين على إهانة أمي و أنتِ في بيتنا , لأن زوجكِ غني , الله قادر على أن يأخذه منكِ كما توفي والدي و تصبحين عندها أرملة فقيرة , هيا أخرجِ من دارنا و لا تعودِ
_ ولدكِ قليل ألأدب يا أم عماد , سأخرج و أخبر جميع النساء بما حدث للتو , كي يعلمنّ أنك لا تحسنين ضيافة زبائنك و لا تجيدين تربية أبنائك و يعلمنّ أنك خياطة سيئة لا تجيد عملها .
أمي غرقت بدموعها و غطّت وجهها براحة كفيّها فدنوتُ منها و إحتضنتُها فأسندتْ رأسَها على صدري و بكت .. لايزال صوت نحيبها يرعد في رأسي للحظة و غيظ يستشيط بوجداني حين أسمع أو أرى ظالما" يتبّجّح ...


يتبع...