تحية كاريوكا



عائشة خليل
2014 / 10 / 29

تحية كاريوكا (1919-1999) هي الراقصة الأشهر في تاريخ السينما المصرية. عملت منذ شبابها الأول في فرقة بديعة مصابني، وتعلمت رقصة الكاريكا فالتصقت باسمها، ومثلت ما يزيد عن مائة فيلم على مدار أربعين عام. وكتب عنها المفكر الأكثر شهرة في التاريخ العربي الحديث البرفسور إدوارد سعيد مقالين. وإدوارد سعيد (1935-2003) هو أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا صاحب كتاب "الاستشراق" الذي افتتح مجال دراسات ما بعد الاستعمار.

التقى إدوارد سعيد بتحية كاريوكا وكتب عنها مقالا، سرد فيه لقاءه الأول بتحية كاريوكا وهو بعد يافع، ثم مشاهدته لرقصاتها وهو في شبابه الأول، ثم تفاصيل الحوار الذي أجراه معها قبل وفاتها بسنوات قليلة. وقارن بين الرقص الشرقي وفن الباليه، وأفرد مساحة سرد فيها جزءا من حياة تحية كاريوكا وزيجاتها المتعددة. ثم رسم بالكلامات صورة حية لرقصها، وأسهب في وصف الابتسامة الغامضة التي كانت تزين شفتيها، وعرض مقاطع من أشهر أفلامها، ونبه إلى تدني مستوى الرقص الشرقي الحديث سواء في الشرق أو الغرب مقارنة بفنها الراقي. وعند وفاتها كتب مقالا آخر في تأبين تحية كاريوكا. وقد استدعى كتابة مفكر عالمي بحجم إدوارد سعيد عن الفنانة تحية كاريوكا سخرية بعض المؤلفين الذين عجزوا عن رؤية قامتها الفنية التي تضاهي قامته الفكرية.

لم تكن تحية كاريوكا مجرد راقصة شرقية، وإنما فنانة متكاملة أنضجتها التجارب والخبرة، فتركت أفلاما هي محطات بارزة في تاريخ السينما المصرية. ولقد عملت في الكثير من الأفلام النمطية التي حصرتها في دور المرأة اللعوب، ولكنها أيضًا أدت أدوارا متميزة في أفلام مثل لعبة الست، وشباب امرأة، وخللي بالك من زوزو، والسقا مات. وهي الراقصة الوحيدة التي أدت فقرة راقصة مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم، التي علمت قدرها في عالم الفن فشاركتها خشبة المسرح. وعلى المستوى الشخصي تعددت زيجات تحية كاريوكا، فقد سعت وراء سعادتها الشخصية ولم تقبل الاستمرار في علاقات لم تحقق آمالها. وعلى المستوى السياسي عُرف عن تحية كاريوكا انحيازها لقضايا الوطن، واعتقالها بسبب حراكها السياسي. وعلى المستوى الوطني أشيع عنها أنها أمسكت بتلالبيب ريت هيوارث أثناء مهرجان كان لأن الأخيرة قذفت في حق العرب، كما أشيع عنها مساندتها للجيش المصري بتعاونها معه في مجالات معينة. وعلى المستوى الإنساني تواترت قصص مؤازرتها للفنانين أثناء المحن ومساعدتها لمن لمست معاناتهم، كما أنها تبنت في آخر حياتها طفلة أمنت لها مستقبلها.

نحن إذن أمام إنسانة متعددة الأبعاد، لم يُلتفت بعد إلى كامل تراثها الفني والشخصي. وبالرغم من رصانة ما كتبه إدوارد سعيد عنها، فإن من الصعب أن يوفيها أي باحث حقها، بل تحتاج إلى المزيد من الدراسات  لسبر أغوارها. فمن لمز في كتابة المفكر عن الراقصة لم يرَ فيها إلا جسدًا للإغراء انزوى مع انتصاف العمر، ولكن عطاءها وفنها استمر بعد ذلك لعقود. فحتى فيلمها الأكثر شهرة «شباب امرأة» مثلت فيه دور امرأة أربعينية تلاحق شاب في العشرين من عمره، وتغرقه بالمال وتستمتع بشبابه. وربما كان هذا الفيلم بالذات هو تجسيد لماهية الغمز. فالمرأة في الثقافة البطريركية ما بين صورتين نمطيتين لا ثالث لهما، فهي إما عاهرة أو قديسة. وبما أن النظرة السطحية على حياتها لا تشي بأنها قديسة فلابد إذن أن تكون عاهرة. خاصة وقد احترفت الرقص الشرقي، وجسدت مثل تلك الشخصيات. على أن إدوارد سعيد رأي فيها أكثر من ذلك، رأى فنها المتميز والذي لن نستطيع الإحاطة به، فكما نوهه هو نفسه : تراث تحية كاريوكا لا ينحصر في السينما ، وإنما يتعداه إلى العديد من الرقصات التي لم تسجلها أي كاميرا.

تحية كاريوكا الفنانة، والراقصة، والممثلة، والإنسانة، المنخرطة في هموم بلدها الاجتماعية والسياسية والإنسانية، شخصية لم تحظ بعد بالاهتمام الكافي الذي يليق بتاريخها الفني والإنساني الطويل. شخصية وقف لتأملها المفكر الكبير إدوارد سعيد، وبدلا من احتذاء مثاله، رجم لاهتمامه بتوثيق تجربتها.