المرأة و الازدواجية



نزار جاف
2005 / 8 / 27

کنت و لازلت من أشد المأخوذين بکتابات الراحل الکبير الدکتور علي الوردي، ولازلت بين الفينة و الاخرى أجد نفسي راجعا الى أحد مؤلفاته ليأخذني بسحر کلماته بعيدا عن هموم هذه الدنيا التي تکاد أحيانا أن تسحق إنسانية الانسان وتسلبه کل شئ. ولطالما إستوقفتني مسألة الازدواجية التي أسهب في الحديث عنها الدکتور الوردي، کما و إستحضرت هذه المسألة وأنا أطالع کتب التأريخ و التراث ووجدت عمق جذورها الاجتماعية ـ التأريخية وإرتباطها الجدلي بحرکة الواقع المبنية على علاقة الفرد بالمجتمع وتداخل ذلک مع العلاقة بالسلطة. إن النظرة لإزدواجية الشخصية العراقية"بشکل خاص" وقياسها وفق مجموعة سياقات إجتماعية ـ تأريخية محددة، قد تکون"رغم قوة حجتها"، تعاني من قصور لا يمکن تحديده بتلک السياقات إطلاقا إذ هي أکبر بعدا و أوسع أفقا. إن المشکلة ليست في شخصية تعاني من إنفصام مرتبط بجذر تأريخي لايمکن إعادة صياغته بل إن المشکلة تتحدد في معضلة عويصة متداخلة مع حرکة واقع شبه أعرج إن لم يکن مشلولا. واقع مبني على نظرة أحادية الجانب وتوغل في تأريخ هو أقدم من ذلک التأريخ الذي يشير إليه الدکتور الوردي، واقع وضع حجره الاساس على مبدأ قمع أهم شريحة في المجتمع الانساني. وکما أن الجسد المريض يکون مؤهلا لتلقي و إستقبال المزيد من الامراض و العلل الجديدة، کذلک الامر مع المجتمع السقيم بعلل تکاد تکون مزمنة حيث يکون هو الاخر مستعد لتلقي المزيد من الامراض و الاوبئة الاجتماعية الجديدة. المجتمع العراقي"ولاسيما في الجنوب و الوسط"، يحفل بالکثير من العادات و التقاليد و القيم الاجتماعية التي حطت و تحط من قيمة إنسانية المرأة و تضعها في بعض الاحيان في مصاف الحيوان و الجماد و القاذورات! بيد أنني لا أعتقد أن الازدواجية تواجدت في المجتمع العراقي مع بروز بعض الاحداث التأريخية التي کانت لها إنعکاسات قوية في الجانب النفسي ـ الاجتماعي للفرد، بل إنها کانت موجودة أساسا لکن هکذا أحداث تأريخية ساهمت بشکل أو آخر في دفعها الى المزيد من التعقيد و أکسبتها أبعادا و مضامينا أخرى. إن مظلومية المرأة و سحق کيانها و وجودها الانساني ودفعها قسرا للإنزواء في رکن إجتماعي مهمش دفع لمخاطبتها و التعامل معها بلغة و أسلوب هو غير المتداول في الوسط الاجتماعي "الرجولي" وهو أمر يعني و بشکل ليس فيه أي شکل من اللبس أو الغموض الازدواجية بأنصع صورها. وهنا يبدو الامر له علاقة بکل تلک المجتمعات التي تبنت قيم و معايير المجتمع الرجولي وليس حکرا أو حصرا بالعراقيين، لکن الذي ساهم في تعميقه و ترسخه لدى المجتمع العراقي هو طبيعة تلک الاحداث الغريبة و الغير عادية التي مرت بالعراق وبلورت مجمعة مفاهيم نفسية ـ إجتماعية إستقرت في عمق وجدان الشخصية العراقية"الرجل تحديدا". ولست هنا أزمع أن المرأة العراقية لاتعاني هي الاخرى من الازدواجية، بل هي أيضا مبتلية بهذا المرض النفسي ـ الاجتماعي، غير أنها تعاني بشکل يکون أشد وطأة من معانات الرجل من جرائها، إذ أن الرجل يجد في بيته المأوى و الملاذ الوحيد الذي بإمکانه أن يظهر فيه مکنونات نفسه من دون رتوش أو مساحيق، والکائن الوحيد الذي بمقدور هذا الرجل أن يملي عليه قناعاته أو يصب جام غضبه"المخزون من واقعه المر"على رأس زوجته أو أخته أو أبنته وهلم جرا، إلا أن المرأة بدورها لا و لن تجد المتنفس الذي تفرغ من خلالها خزينها "المتراکم" من الغضب وإنما تظل تخزنه في عقلها الباطن ليزيد همها و سقمها عمقا. إن المرأة في المجتمعات المتحضرة"برغم المآخذ العديدة "، قد تحررت من تلک القيود و الاغلال التي کبلها إياها الرجل بمبارکة من الکنيسة وصارت تتنفس في فضاء إجتماعي أرحب و تمارس دورها الاجتماعي بشکل أکثر واقعية من السابق المر الذي عانت منه الامرين. والرجل بدوره لم يعد يعاني من إزدواجية الخطاب و لا أسلوب التعاطي مع المرأة بل هما"أي کلا الجنسين"يعيشان في أجواء من الممکن تسميتها الى حد بعيد بالشفافية. أما کلا الجنسين في مجتمعاتنا، فلايزالان في قمة المعانات من هذا المرض الاجتماعي ـ النفسي وقد يکون من الهراء التصور أنه بالامکان معالجة هذا المرض بسرعة موازية لتلک التي جرت في المجتمعات الغربية، إذ أن عمق حضور"المقدس"في الجوانب الاجتماعية هو من القوة بحيث ليس في الامکان إقصائه بفترة زمنية محددة بحقبة أو حتى حقبتين. إنها معضلة بحاجة الى أکثر مصلح و داعية جرئ يحمل روحه على کفه في سبيل أن تشرق الشمس الانسانية على مجتمعاتنا من دون حجب و جدران تسرق الضياء الحقيقي لا لغاية إلا لکي يستمر الانسان في منازلة الانسان ذاته!