النموذج الصحي للرجولة



عائشة خليل
2015 / 2 / 21

خلخلت الحركة النسوية في الغرب المفاهيم البطريركية التقليدية للرجولة والمرتكزة على القمع والإكراه والإجبار. فالنموذج الكلاسيكي للرجولة والمتمثل في «سي السيد» بطل ثلاثية نجيب محفوظ، والقائم على ثنائية العطاء والإكراه، قد تجاوزه الزمن. فمع دخول النساء معترك الحياة العامة، ومساهمتهن الإيجابية في الدعم المادي للعائلة تراجع مكون العطاء الذي ارتكزت عليه الرجولة البطريركية، وانزاح معه إلى حد بعيد جانب الإكراه. ومع أن العنف ضد النساء مازال يمثل تحديًا كبيرًا تعمل النسويات بدأب على إنهائه، ولكن مفهوم العنف والإكراه أصبح ممجوجًا على الأقل من الناحية النظرية. فلا يتباهى رجل مثقف ومتعلم بتعنيفه لامرأته، والرجل الْمُعنف يقوم بذلك في الخفاء ولا يعترف به، ليس فقط درءًا للعقاب، ولكن أيضًا درءًا للازدراء المجتمعي.

ومع خلخلة النموذج التقليدي للرجولة، أصبح لزامًا على النسويات إيجاد نموذج آخر للرجولة، فضلت النسويات أن يطلقن عنه النموذج الصحي للرجولة. والحديث عن هذا النموذج مازال في طور التكوين والتشكيل، فمازال النقاش دائرًا حول مفردات هذا النموذج ومكوناته. تعلم النسويات بحق أن النموذج الصحي للرجولة لا يمت بصلة إلى النموذج التقليدي للرجولة. فلا ينبني على القمع، والإكراه، والإجبار. وتعمل النسويات بالتنسيق مع التربويين من أجل تدعيم النموذج الصحي للرجولة داخل الجامعات. فيدرسون معًا توجهات الطلبة الذين يقعون في معيار الرجولة الصحية : بالإضافة إلى غياب العنف في العلاقات مع الجنس الآخر، أولئك الطلاب الذين يواجهون زملاءهم إذا تجاوزوا الحدود بإطلاق نكات تعبر عن ازدراء الآخر أيما كان هذا الآخر (مثلا إطلاق نكات جنسية تزدري النساء) أولئك الذين لا ينغمسون في الملذات، أولئك الذين يعملون بجد في التحصيل العلمي، أولئك الذين يعتمدون على أنفسهم، وغيرها من المعايير التي يحددها التربويون كنماذج جيدة يحتذى بها.

ثم يقوم التربويون بمقابلات لهؤلاء الطلاب الذين تجتمع فيهم تلك الخصال الحميدة من مختلف الجامعات والكليات والمعاهد بطول البلاد وعرضها. ويلخص التربويون تجربة أولئك الطلاب ويستخلصون منها العبر والنتائج. فيتلقفها عمداء شؤون الطلبة والطالبات بالجامعات وذلك من خلال خلق برامج وإدماجها في النشاطات الطلابية بهدف نشر النماذج الجيدة وتعميهما. وتقوم عمادة شؤون الطلبة والطالبات بالجامعات المختلفة بمبادرات داخلية، يتم مراجعتها باستمرار لتقييم الجيد وإبقائه، والتخلي عن المبادرات غير الملائمة أو تطويرها. ثم تتلاقح الأفكار بين المهتمين بشؤون الطلبة في الجامعات المختلفة، وتنشر التجارب الناجحة وتعمم. وتولي عمادات الطلاب اهتماما خاصا بالتجمعات الطلابية المعروفة «بالأخويات».

فهناك ظاهرة معروفة بـ «الأخويات» مفردها «الأخوية» في الجامعات الأمريكية، وهي أشبه بالنوادي المغلقة حيث يسكن الطلبة في مبنى مشترك ويقومون بطقوس انضمام إلى الأخوية في عامهم الدراسي الأول، حيث يقسمون يمين ولاء للأخوية، يصبح على أثره الطلبة أعضاء بها، ويتحتم عليهم مناصرة بعضهم البعض. وتلك «الأخويات» معروفة بأنها أرض خصبة لإعادة إفراز النموذج الكلاسيكي للرجولة. مما أوجب التفات الإدارات الجامعية لتلك «الأخويات» وعوضًا عن تفكيكها يعملون على تغييرها. فمثلا تعمل النسويات منذ سنوات على توعية أعضاء «الأخويات» بالقوانين الأمريكية الخاصة بالعنف ضد النساء حتى ينتفي الجهل المسبب لبعض الحوادث المؤسفة التي تقع في الجامعات.

يركز التربويون، كما تركز النسويات، على طلاب الجامعات والمعاهد العليا لأنهم الجيل القادم من أرباب الأسر. فالجامعات الأمريكية تمنح ما يقارب مليون شهادة بكالوريوس كل عام، ولا يمكن أن يمر هذا العدد الهائل من المؤسسات التربوية دون غرس قيم جديدة تلائم العصر. تدرس النسويات منذ عشر سنوات على الأقل مواد إجبارية لكل طلاب الجامعات، فلا يتخرج طالب أو طالبة (أي كان تخصصه) دون دراسة مادة أو أكثر عن التحليل الاجتماعي من منظور نسوي. أما المفهوم الأكثر إلحاحا في هذه الفترة هو مفهوم الرجولة الصحية الآخذ في التشكل، وأعتقد أنه سيتم إدماجه خلال السنوات القليلة القادمة ضمن المنظومة التعليمية لكل طلاب الجامعات.