مَرحَباً بِجَهدِ شَبَكةِ صَيْحة الاستِنَاري!



كمال الجزولي
2015 / 3 / 9

(1)
أعذب التَّهاني إلى نساء بلادي بمناسبة 8 مارس، وأرجو أن يسمح لي القارئ بأن أستعيد هنا، في هذه المناسبة الطيِّبة، لمحة من الكلمة الرئيسة التي كنت ألقيتها العام الماضي، بدعوة كريمة من الصَّديقة الأستاذة/ هالة يسن الكارب، في الحفل الذي أقيم بدار اتحاد الكتاب السُّودانيين، في 17 يوليو 2014م، بمناسبة تدشين مجلة "المرأة في الإسلام"، إحدى أهمِّ إصدارات شَّبكة "صيحة" الإقليميَّة الماجدة التي كانت أطلقت "صيحة" ميلادها الأولى، على أيدي رائدات كهالة، في منتصف تسعينات القرن المنصرم، ثمَّ ما انفكت، منذئذٍ، تخطو من نجاح إلى نجاح، فتتسع، وتتعملق، بثقة، حتى باتت تضمُّ، اليوم، ما يربو على الثمانين منظمة مدنيَّة نسائيَّة في منطقة القرن الأفريقي، شاملة السُّودان، وجنوب السُّودان، وإثيوبيا، وإريتريا، ويوغندا، والصُّومال، وأرض الصُّومال، تبشِّر برؤيتها المستنيرة لحقِّ النساء في العيش كبشر، على قدم المساواة، في بيئة سلميَّة وعادلة.
كما أرجو أن يأذن لي القارئ، أيضاً، بأن أهدي كلمتي هذه إلى روح جدتي الباسلة نفيسة بنت شوش "أمي نفيسة"، فقد كانت شاركت، ذات يوم بعـيد من سبعينات القرن الماضي، في موكـب جلُّه من نساء أُسَرنا، نحن معتقـلي نظـام النمـيري، وقتها، فشققن به شـوارع الخرطوم، جهاراً نهاراً، إلى مكاتب الأمـم المتحـدة، حيث سـلَّمن مذكـرة احتجـاج على اعتقالنا، فاعتقلت "بنت شوش" نفسها، ضمن من اعتقلن، وهي في الثمانيـن آنذاك، عليهـا رحمـة الله ورضوانه، وزُجَّ بها في غيهـب زنزانة شائهة بمباني الجِّهاز، فما كان منها إلا أن تربَّعت على خرصانة الأرضية الصلبة، ثمَّ أصدرت، بكـبرياء ملكـة من أرض المحس، تعليماتها الواضحة إلى عنصر الأمن القائم على حراسة زنزانتها بأن يسرع بإحضار قهوتها التي كان موعدها اليومي قد أزف .. فتأمَّل!

(2)
أما بعد، فلئن بتنا نقرُّ، صباح مساء، بأن "التنوُّع" يمثِّل أحد أهمِّ حقائق الواقع السُّوداني، فلا بُدَّ لنا، أيضاً، من الإقرار الجَّهير بحقيقتين لا تقلان أهميَّة: أولاهما أثر وخطر الجَّماعة المسلمة، ودينها، وثقافتها، بسبب عوامل تاريخيَّة عديدة، اقتصاديَّة سياسيَّة، واجتماعيَّة ثقافيَّة، على خارطة هذا "التنوُّع"؛ أمَّا ثانيتهما فهي ما ظلت تتوارثه هذه الجَّماعة، عبر غالب نمط "تديُّنها" الشَّعبي، من خلط وتخليط مريعين بين "تقديس المقدَّس" و"تقديس التاريخ"، مِمَّا يتمظهر، عادة، في عدم التَّمييز الشَّائع بين "النُّصوص" قطعيَّة الورود والدَّلالة في القرآن والسُّنة، بمعياري "الحلال والحرام"، وبين "الفقه" الذي هو جماع الآراء القائمة على الاجتهاد البشري، والمسيَّجة بمشروطيَّات أبستيمولوجيَّة تاريخيَّة محدَّدة بمعياري"الصَّواب والخطأ". ومن الغريب، كما لاحظ باحثون نجباء، أن يحتاج المسلم للتَّدليل على أن المشروعات الفقهيَّة الضَّخمة، بما فيها آثار الصَّحابة والخلفاء الرَّاشدين، دَعْ الشُّروحات والتَّفاسير المستنيرة، إنما تعبِّر عن اجتهاد بشر كانوا بمثابة مفكري ومثقفي عصورهم، كابن رشد، مثلاً، الذي استنهض، خلال القرن الثاني عشر الميلادي، فرضيَّته الأساسيَّة القائمة في عقلانيَّة الإسلام، فخلص إلى رفد الفكر العالمي بعناصر تنويره وتفتُّحه، ومع ذلك لم يغادر شرط بشريَّته قيد أنملة؛ والإمام الشَّافعي الذي استهدف خلع نوع من التَّماسك على العمل الذِّهني للقاضي والفقيه، فلم ينفِ كلُّ ذلك الجَّلال شيئاً ولو يسيراً من نسبيَّة اجتهاده المترتِّبة على محدوديَّته البشريَّة التي تقطع مع نصوص الوحي المطلق. فمن ذا الذي يجرؤ، إذن، على مطالبة المسلم بـ "تقديس" بشر أقل شأناً من ابن رشد والشَّافعي؟!

(3)
ضمن هذا السِّياق تهمُّنا، بالأخص، خطورة مشهد "التديُّن" شديد التباين داخل الجَّماعة المسلمة ذاتها، بشأن الموقف من هذه القضية أو تلك، إلى حدِّ أن يحصر كلُّ من شاء "صحيح الدِّين" في "نمط تديُّنه" وحده، بل ليس نادراً، لأسباب سياسيَّة في الغالب، أن يعتبر كلَّ ما عدا ذلك "كفراً بواحاً"!
طرح المسألة بهذا المستوى من الوضوح والتَّجرُّؤ، فضلاً عن المعرفة الوثيقة بجوانبها، ومناهجها، ولغتها، ومصطلحاتها، كافة، من أوثق مصادر منظورها الإسلامي، لهو جهد لا يُنتظر، فحسب، مِمَّن يُسمُّون أنفسهم "رجال الدِّين"، بل ومن كلِّ مسلم، تبعاً للحديث الشَّـريف الذي رواه البخـاري: "من أراد الله به خيراً فقَّهه في الدِّين". فضل هذا الجَّهد يفوق، بما لا يُقاس، محض الرُّكون إلى مناهج ولغة ومصطلحات الصِّراع السِّياسي اليومي، كما وأنه يمثل، بلا شك، الآليَّة الوحيدة التي يجدر التعويل عليها في إخراج التباين بين "الدين" و"التديُّن" من ضيق الأفق الذي يجعل منه، في الغالب، عظمة نزاع سياسي غوغائي؛ فليس أخيب، بالطبع، من خطة تروم معالجة الصِّراع الفقهوفكري بآليَّات السِّياسة السِّياسويَّة ومناهجها.

(4)
ولعلَّ "الموقف من المرأة" يندرج في عداد أخطر وجوه هذا التباين داخل الجَّماعة المسلمة في بلادنا. ويتحدَّد هذا التَّباين بفسطاطين: فسطاط أكبر يشمل الغالبيَّة العظمى من الأمَّة التي تتبنَّى، للأسف، فهوماً محنَّطة لفقهاء يعادون المرأة، ويعتبرونها مصدر الشَّرِّ كله، رافعين، في تأييد ذلك، أسانيد تفيد، فقط، في استرهاب العقول، لكنها لا تثبت، قدر قلامة ظفر، حال عرضها على الفهوم المستنيرة لمصادر الإسلام الأصليَّة؛ وفسطاط أصغر يشمل الأقليَّة الحداثويَّة من مثقفي ومثقفات الجَّماعة الذين يستشعرون "خللاً ما" في ذلك الفقه، لكنهم لا يتقنون سوى المناهج الغربيَّة الحديثة وحدها، أما كسبهم في حقل المعارف "الدينيَّة"، خصوصاً على الصَّعيد الفقهوفكري، فمن البؤس بحيث لا يؤهِّلهم لمجابهة تلك التَّيَّارات التي تحط من قدر المرأة باسم الدِّين. أسباب هذا القصور تكمن في عوامل تاريخيَّة لا يتسع المجال هنا للخوض فيها، وقد حاولنا تقصِّيها في كتابنا "إنتلجينسيا نبات الظل" فليُرجع إليه. أما هنا فربَّما تكفينا محض الإشارة إلى تجذُّر هذه العوامل في صميم أوضاعنا التربويَّة والتعليميَّة، وحركة تطوُّرنا المعرفي والثقافي، والتي تعدُّ، وفق علي الطرَّاح، بعض أهمِّ المجالات التي ينبغي حسم الحرب ضدَّ هذه التَّيَّارات فيها (الاتحاد؛ 1 نوفمبر 2014م).
لا بُدَّ، إذن، من إعادة النظر في هذا القصور الذي يَسِم كسب وأداء معظم المثقفين الحداثويين، والمتمثِّل، على صعيد قضيَّة المرأة بالذَّات، وباستثناء قلة ماجدة، في الاقتصار التَّاريخي الموروث، كما أشرنا، على مناهج المعارف "السِّياسيَّة" الغربيَّة وحدها، رغم أهميَّتها، وهو قصور يطعن في التأهُّل الذَّاتي المطلوب لمجابهة أطروحات التَّخلف، والتَّطرُّف، والغلوِّ، والإرهاب في المجال "الفقهوفكري" الحيوي، لا "السِّياسي"، فحسب، بالتركيز، خصوصاً، ولأسباب معلومة، على فئات الشَّباب والطلاب، وبالأخص في المدارس العليا والجَّامعات. فما كانت هذه الأطروحات لتتمدَّد على النَّحو الذي نراها عليه الآن، لولا الخلل في التَّكوين الاجتماعي لعقول هؤلاء الشَّباب والطلاب الذين هم، جيلاً بعد جيل، ضحايا لغياب السِّياسات التَّعليميَّة الرَّاشدة، من ناحية، ولثقل الاتِّجاهات الاجتماعيَّة الغالبة، من ناحية أخرى، والتي دفعت بأقسام واسعة منهم كي تبحث في الآخرة عن الذَّات التي خسرتها في الدُّنيا (المصدر نفسه).

(5)
مع ذلك، إن كان مثقفو ومثقفات الجَّماعة المسلمة يستهدفون، حقاً وفعلاً، مناصرة "قضيَّة المرأة"، كشرط مفتاحي لازم لاستدبار أوضاع التخلف الحضاري، واستقبال روح التقدُّم في جميع المجالات الأخرى، فلا مناص من خوض منازلة لا هوادة فيها، ابتداءً من الذَّات، وبطون البيوت والأسر، وسائر الوسط المحيط، مع "ذهنيَّة العداء للمرأة"، والتي تسيطر، اليوم، بالكامل، على مشهد علاقات الجَّندر داخل هذه الجَّماعة، ومغالبة أوضاع القصور الفقهوفكري الذي يقعد بـ "الاستنارة" على صعيد"التَّدين"، فيباعد بينه وبين جوهر "الدِّين"، ويخلق حالة من الاغتراب المتبادل alienation بين المثقفين والمثقفات وبين مجتمعاتهم، الأمر الذي يستدير، في نهاية المطاف، ليصبَّ في صالح تلك الذِّهنيَّة، من حيث يروم، للمفارقة، هزيمتها!
مجابهة هذه الذهنيَّة، إذن، تحتاج، مثلها مثل أيَّة قضيَّة "تديُّنيَّة" أخرى، إلى أعمق مستويات المقاربة الفقهوفكريَّة، اصطلاحاً ومضموناً، والتي لا يشعر المسلم بغربته عنها ولا بغربتها عنه، مِمَّا يحتاج، بدوره، إلى مراكمة معرفيَّة وافرة على صعيد الثَّقافة الإسلاميَّة، بأكثر من اللجوء، بسبب وبدونه، لاستخدامات المناهج والمصطلحات الغربيَّة. ولعلَّ هذا، بالتحديد، هو ما أفلحت فيه هيئة تحرير مجلة "المرأة في الإسلام". فهي، بتدشينها لعددها الأوَّل، إنَّما تبشِّر بهذه الانتباهة النَّادرة التي نرجو أن تغلب على الخطط الموضوعة، والمناهج المعتمدة، والأمزجة السَّائدة كافة في عمل منظمات المجتمع المدني الحداثيَّة كلها، وخصوصاً النِّسائيَّة منها، إذ أن هذا النِّزال الذي لا فكاك منه، والذي ندعو له، بل ونحرِّض عليه، ليس فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. هذا من ناحية. أما من النَّاحية الأخرى، وبالنَّظر إلى غلبة الطابع "السِّياسي" على الكثير من الحراكات، والتَّعبيرات، ووقفات الاحتجاج النِّسائيَّة الرَّاهنة، بجمهور جُلُّه من المسلمات، فإننا لا نملُّ تكرار القول بأن هذا النِّزال المطلوب ينبغي ألا يقتصر على المجال "السِّياسي"، فحسب، وإلا اتَّسم بقصور معيب من شأنه أن يقعد به عن بلوغ غاياته، بل من الضَّروري أن يشمل المجال "الفقهوفكري"، بالأساس، تأسِّياً بالنَّهج الذي اختطته القائدة الفذَّة فاطمة أحمد إبراهيم، استهدافاً لوضع الدِّين في مكانه اللائق من حركة الجَّماهير، على حدِّ النداء الشَّهير الذي أطلقه، أواخر ستِّينات القرن المنصرم، شهيد الوعي والاستنارة .. عبد الخالق محجوب.

***