إنهم يقتلون النساء



سمر يزبك
2005 / 9 / 19

أذكر الألم الحاد الذي كان يقطع أمعائي وأنا أنهي رواية "معراج الموت" لممدوح عزام، وحلم كل ليلة بعد قراءة تلك الرواية. كانت البطلة تأكل زجاجا مطحوناً في الطعام، وكانت أمعائي تتقطع وعيوني تحمر، وأتخيل لوهلة القتل الهمجي المنظم الذي تعرضت له البطلة. ورغم أن فيلم "اللجاة"، وهو الشريط السينمائي الذي تحولت إليه الرواية بإخراج السوري رياض شيا، لم يكن يحتمل تلك الفظاعة حتى نهاية الموت المأساوي للمرأة العاشقة على يد عائلتها وباتفاق مضمر بينهم، إلا أني عدت بمشاهداتي البصرية نحو وجه المرأة التي تموت ببطء وحقد. بعد ذلك لم يتسن لي زيارة تلك المنطقة من الجغرافيا السورية والتي تدور فيها أحداث الرواية، إلا في زيارة لصديقي الكاتب نفسه صاحب "معراج الموت". ولم أكن لأتخيل ان ذلك الشعور سينتابني في أول ردة فعل على زيارتي المكان: آلام حادة في المعدة. وربما كان من القدر المحتم على خيالاتنا أن تكون محكومة بفكرة الدم والقتل، فالنساء اللواتي يقتلن بجريمة الحب ما زلن هنا يقتلن، وما زلن يشتهين الحب والموت على درجة واحدة من الشبق، وإلا فكيف نستطيع المضي باتجاه واثق المعرفة، كلي الاخلاص، نحو تلك القتامة المفرطة في تكوين ثنائيات الموت والموت؟
هذه المرة القتل لم يكن في رواية، ولم يكن في شريط سينمائي مسجل، رغم أننا وحدنا ـ نحن الكتّاب صنّاع السراب ومجد الحكي ـ نعرف أن حروفنا هي غبار الواقع. ولكن الجغرافيا هي الجغرافيا، وكانت تفصلني عن آلام تلك الحادثة التي تبين أنها حقيقية كما روى لي الصديق الروائي، فقد قتلت عائلة ابنتها لأنها أحبت رجلا، وبطريقة الزجاج المطحون نفسها.
القتل أيضا هذه المرة لم يكن خافياً على أحد، ولم يكن خجولاً!
القتل كان وقحاً واضحاً تحت عين الشمس، ولم ينتظر القتلة أياماً وشهوراً ليخفوا ما فعلوه. كانت القصة عادية، تحدث في سورية، وفي أي مجتمع عربي. الفارق أننا هذه المرّة لن نصمت عن جنون الدم الذي يتواطأ الكثيرون على الصمت عليه الآن.
أحبت هدى أبوعسلي، وهي فتاة جامعية من الطائفة الدرزية، شاباً من غير طائفتها. هربت وتزوجته، كما يحدث دائما، وكما حدث، وكما سيحدث. ولكنها لم تكن تدرك أن العرس الذي سينتظرها سيكون مختلفاً، بعد أن أقنعها أهلها أنهم سامحوها على مافعلته من اقتراف الحب. جاءت الصبية لتزور أمها، وهناك في أحضان أمها وبين أخوتها ذُبحت كأي حيوان. ذبحت، وأطلق أهلها والجيران الزغاريد فرحاً بمحو العار عنهم.
لم يكن القتل هو الجديد، فنحن النساء نُقتل كل يوم في هذا المكان المظلم.
ولانموت أبداً.
كان العرس الذي أقيم حول جثتها هو البقية الباقية من همجية مستقرة في العقول والقلوب.
ماتت الصبية!
عاشت الحب قصيراً ورقدت بسلام، كما فعلت كثيرات غيرها في منطقة السويداء، العنيدة في الحب والعنيدة وفي القتل.
هي الآن ترقد بسلام بعد أن سلبت منها حياتها، فقط لإدانتها بجريمة الحب.
بعد زمن قصير من الآن، الأخ القاتل سيخرج من السجن مرفوع الرأس، لأن القتل كان تحت شعار جرائم الشرف التي ينص الدستور السوري على تخفيف الحكم فيها إذا كان القتل غسلاً للعار، وكأنّ هذا القانون يشجع المجتمع على القتل.
ألم يحن الوقت للنظر جدياً في ما آل اليه مجتمعنا من حضيض؟
يتشدقون عن حرية المرأة وما وصلت إليه من تطور في المجتمع السوري! عن أيّ تطوّر يتحدثون؟
ألم تحن الساعة التي يجب الإقرار فيها أن ما يحكمنا من قوانين في أحوالنا الشخصية، قائم على تكريس التخلف والهمجية؟ وأي قانون هذا الذي يحاسب امرأة بالغة ناضجة، تزوجت بإرادتها وعلى طريقتها؟
أي قانون هذا الذي يستمر على الشرعة التي استنّها العثمانيون قبل مئات السنين، عندما كانوا يحتلون البلاد؟
هل ستمرّ هذه القضية كما مرّ غيرها من قضايا؟ قبل شهر قُتلت امرأة أيضاً في مدينة حمص، وقبل شهرين قُتلت طفلة في الحادية عشر من عمرها لنفس الأسباب أيضاً في منطقة الغاب.
إلى متى سيقتلون النساء في هذه البلاد؟
إلى متى سيظلّ القانون يحمي ظهور القتلة؟
القتلة الذين يتنفسون بيننا، وينشرون الكراهية باسم القانون؟
ويقتلون الحب... بدعوى ممارسة الفضيلة الكاذبة؟