نساء سوريا طرّزن وشاح الجلاء وتحملن اليوم أسمال الحرب



إيمان أحمد ونوس
2015 / 4 / 18




جاء الجلاء في نيسان وشاحاً ربيعياً مزركشاً بأجمل أزهار النصر لشعب كافح على مدى ربع قرن من أجل حريته واستقلاله، بعد أن قارع أعتى أنواع الاستعمار الحديث مطلع القرن الماضي، استعمار اقتنص فرحة الشعوب العربية بتحررها من استبداد السلطنة العثمانية التي جثمت على الصدور أربعة قرون، جرّت خلالها المجتمع برمته إلى قاع الجهل والتخلّف على مجمل المستويات.
وقبل أن تُشرق شمس الحرية تماماً آنذاك، وقبل أن ينعم الناس بنسائم الحياة الحرّة، بل حتى قبل أن تُضمد البلاد العربية جراحها وندوب العثمانيين، غرز الاستعمار الغربي مخالبه في تلك البلدان عبر اتفاقية سايكس بيكو التي أوهمونا أنها مجرد وصاية وانتداب كي تنهض تلك البلدان وشعوبها، وتتمكّن من قيادة نفسها بنفسها، وطبعاً هذا المنطق الصوري كان منطقاً نظرياً وظاهرياً، بينما الواقع الحقيقي والضمني لتلك الاتفاقيات هي بسط سيطرة الغرب على المنطقة العربية برمتها من أجل استغلال موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط القارات بعضها ببعض من جهة، ومن جهة أخرى من أجل استغلال مخزونها الاستراتيجي سواء من النفط أو من الثروات الباطنية والأرضية الأخرى، وقبل كل هذا وذاك، جاءت الاتفاقية سيئة الذكر- سايكس بيكو- تمهيداً لإنشاء دولة إسرائيل في المنطقة خدمة أزلية لمخططات أمريكا والغرب والاستعماري.
غير أن الشعوب العربية لم تُخدع بشعارات الاستعمار الرنانة، بل ثارت منذ اليوم الأول لظهور تلك الاتفاقية للعلن، بعد أن كشفت عنها ثورة أكتوبر الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق.
وقد كان للمرأة السورية دور أساسي في مناهضة الاستعمار ومشاريعه المشبوهة في المنطقة، إذ لم تمنعها القيود والعادات الاجتماعية من المشاركة في المظاهرات التي خرجت منددة ورافضة لهذا الاحتلال في كل أرجاء البلاد. حيث شهدت دمشق في العام 1919 أول تظاهرة نسائية هتفت بسقوط الاحتلال، مما دفع قوات الاحتلال لإطلاق النار عليهن، فأُصيبت بعضهن بجروح، حملنها وساماً راقياً من أجل حرية الوطن.
وقد استغلّت العديد من النساء لباسهن التقليدي الذي ساعدهن في إخفاء الرسائل والسلاح، وكذلك في نقل المؤونة والعتاد الخفيف إلى ثوار دمشق وغوطتيها، واستشهدت كثيرات منهن أثناء أدائهن لتلك المهام مثل سلمى بنت محمد ديب قرقوره التي قتلت في معركة الصالحية بدمشق، وكذلك نايفه خلف الجابر التي استشهدت عام1922، وأم عبده التي كانت تساعد الثوار وتنقل لهم السلاح والقنابل في سلال الفاكهة.
ولم تكتفِ النساء بذلك، بل شاركن أيضاً في المعارك الحربية، لاسيما حين خرج يوسف العظمة لملاقاة الفرنسيين في ميسلون، حيث رافقته السيدة زينب الغزاوي التي خرجت متنكّرة في زي رجل، فكان لها شرف الشهادة، وكان معها في تلك المعركة مناضلات أُخريات مثل فاطمة بنت كبكب، وأم سعيد عواد، ورشيده الزيبق التي ساهمت في أكثر من معركة، واعتقلت أكثر من مرّة.
وفي جبل العرب برزت نساء أسهمن بجدارة في مساعدة الثورة والثوار أمثال بستان شلغين التي كانت تُعدُّ الزاد للثوار، وعندما نفذت مدّخراتها النقدية، باعت مصاغها لتشتري بثمنه طحيناً للثوار الجائعين.‏
أما شما أبو عاصي، فقد خاطبت الثوار الذين تجمعوا في ساحة قرية نجران لتناول الطعام بقولها: "من يريد أن يقاتل المستعمرين فليتقدم ويأكل من طعامنا، ومن لا يريد القتال فليخرج من هنا، فهو لا يستحق أن يأكل" هذه الكلمات أثارت حماسة الرجال، حيث انطلق الجميع وشاركوا في معركة المزرعة.
وفي الثورة التي قادها المجاهد صالح العلي، شاركت النساء بشجاعة في القتال، وبرز من بينهن زوجته(حبّابه) التي شاركت معه في خوض المعارك الوطنية، حيث كانت تملأ له البندقية، وترمي الأعداء بالرصاص، وتشجع المحاربين وتقوي فيهم روح التضحية.
كما اشتهرت رنده الملقبة بالفارس الملثم، والتي رفضت أن تُزف إلى خطيبها قبل أن يزف إلى بني قومه بشرى الانتصار على الغزاة. وبعد أن استشهد تابعت خوض المعارك حتى سقطت شهيدة الوطن.
كما استُشهد العديد من النساء في مناطق عدة أمثال عزيزة خير بك من وادي العيون، وفاطمة الرحّال، وخديجة بنت صالح مريود، ومريم بنت إبراهيم، ومريم بنت مخول الفحيلي في جباتا الخشب جنوب سوريا.
وقد اتجه نضال النساء أيضاً إلى تشكيل فرق الطوارئ والإسعاف، ففي العام 1945، حين قصف المستعمر الفرنسي مدينة دمشق، ومنع التجول، خرجت النساء من بيوتهن، وطُفنَ الشوارع من أجل إسعاف الجرحى، وتقديم المساعدات لعائلاتهم.
هذا ما كانت عليه المرأة السورية أيام الاحتلال الفرنسي، نضال وتحدٍّ لم يهدأ حتى اضطر المستعمر بكل قوته وجبروته إلى الخروج من بلادنا تحت وقع بسالة الشهداء والمناضلين نساءً ورجال، فجاء الجلاء موّشى بأجمل أزاهير النصر.
أمّا اليوم، واستمراراً لأهداف ومخططات خارجية استعمارية، ومآرب داخلية مشبوهة، تعيش المنطقة في أتون حرب عبثية- مجنونة، ما زالت نيرانها تلتهم كل مقومات الحياة مثلما تلتهم السوريين يوماً إثر آخر منذ أربع سنوات، ها هي المرأة السورية، حفيدة تلك التي صنعت الجلاء، تقف اليوم بكل صلابة وصبر وشموخ في وجه الموت اليومي، وفي وجه الدمار الذي أتى على كل ما تملك، وعلى زمنٍ كانت تحلم فيه أن ترى مستقبل أبناءها وهم يبنون الحياة والوطن بعلمهم وعملهم، أبناءها الذين باتوا اليوم إمّا قتلى، أو مختطفين بلا أدنى أثر، أو معتقلين إلى أمدٍ مجهول، أو نازحين ولاجئين ومشردين في بلاد الله الواسعة بحثاً عن بعض أمانٍ وكرامة أهدرتها الحرب في أوطانهم.
ها هي المرأة السورية اليوم، تُعاند أقدار الحرب بحثاً عن ملاذٍ آمن لها ولأطفالها الذين تركهم الأب من أجل الالتحاق بجبهات القتال لدى بعض الأطراف، أو أنه تخلّى عنهم بعد أن أعيته الحرب بكل عبثيتها ونيران أسعارها المتأججة في كل لحظة، وبعد أن أصبح هو ذاته عالة عليها بحكم أنه عاطل عن العمل، ولم يعد قادراً على القيام بمسؤولياته، فتخلى عنها لامرأة تنوء كل لحظة بأعباء الحياة والحرب.
ها هي حفيدة من صنعت الجلاء، تواجه اليوم حرباً ضارية كانت فيها ضحية القتل والذبح والحرق والخطف والاغتصاب والتحرّش، وضحية مجتمع لم تُخرجه ويلات الحرب من أتون ذهنية متخلّفة لا ترى الشرف إلاّ وشاحاً علّقته على مناكب المرأة، ذهنية جعلتها قرباناً على مذبح إذلال الخصم من جهة، ومن جهة أخرى إرواءً لغرائز همجية متوحشة تأبى عنها البهائم، وبهذا تحمل المرأة السورية على أكتافها اليوم أسمال حرب رثّة تنوء بثقلها إلى أمدٍ مجهول. غير أنها على المدى محكومة بأمل يجعل المستقبل بعينيها مشرقاً ولو طال ليل الحروب.

المراجع:
(1) دور المرأة السورية في صنع الجلاء- زينب نبوّة
(2) من دفاتر الوطن... مجاهدون ومجاهدات رفعوا هامة سورية عالياً- رفيق الكفيري