جريمة هدى أبو عسلي بين العلمانية والطائفية



عمار ديوب
2005 / 9 / 26

إن مقتل هدى أبو عسلي لم يكن الأول في تاريخ القتل غسلاً" للعار والشرف" ، ولن يكون الأخير أيضاً ،ما دام البشر أحياء وطائفيين ، ولكن مقتلها يقدم إدانة كلية للسلطة السياسية والقضائية والتشريعية ، التي تعطي كل التبريرات كي يستمر مسلسل القتل ، وتذهب أرواح العاشقين سدى ، وتتحمل المواد القانونية المسؤولية القانونية عن تخفيفها لجرائم القتل ، حيث التبرير للقاتل أخاً أو أباً أو أماً أو أختاً ،وباعتبار القانون معبراً عن الدولة ،فالدولة بكل مؤسساتها ،تتحمل تلك المسؤولية ، حيث أن الجريمة المرتبطة بالزواج من خارج الطائفة ، تشكل خرقاً لقوانينها المستدامة بقوة قوانين الدولة ، وهذا يؤدي للقول أن الدولة دولة تعتاش على الطائفية وسيادة القتل ، إن تم الخروج عنها لصالح تأسيس علاقات غير دينية أو طائفية ، بشرية، علمانية ،وعلى قاعدة المساواة كوننا بشراً ولسنا بشراً متدينين ؟
فجريمة القتل هي تعبير عن نزوع طائفي يعم الطوائف بأكملها ، ويرفض العلاقة مع الطوائف الأخرى، ويحددها في إطار ذات الطائفة، فيصير على الأفراد إن أرادوا تحقيق مصالحهم ،الدوران في فلك العلاقات الطائفية، وكل خارج عنها هو منبوذ، مقتول لا محالة، وهنا الخطورة...
وباعتبار الجريمة من هذا النوع لا يمكن القبول بأنها مسألة نسويه بل قضية اجتماعية سياسية تتحملها الدولة كما أشرت وكذلك الوعي الذي يحمله الطائفيون ، الطائفيون الذين صاروا كذلك بقوة تغييب الدولة لكل الشرائح العلمانية واليسارية والديمقراطية في مؤسسات الدولة والمجتمع...
هذه الجريمة المنوه عنها لا تحدث في طائفة دون الأخرى باستثناء السنة منها لأسباب سنذكرها لاحقاً ، وبالتالي فإن محصلة الوعي السائد والمسوّد هو الوعي الطائفي ، ولكن تبقى هناك حالات لا فئات ولا مجموعات ترفض الانخراط في هذا الاتجاه ولا تقبل بقتل الفتاة والامتثال للقيم الطائفية ، مستعينةً بقيم إنسانية عامة ، فتآزر الفتاة وتخرج من المدينة أو الحي ، إلى المدن الكبرى تفادياً للثرثرات والنذالات التي يمارسها جزء من أصحاب الوعي الطائفي المتحالف مع الوعي السلطوي بالتقليل من قيمة العائلة والطعن بأخلاقها وشرفها ، وعدم الدعوة للمناسبات الاجتماعية والمقاطعة عن الارتباط بالنسب وأحياناً التهجم الوقح على العائلة وتاريخها وأولادها وبناتها ونعتهم بصفات لا علاقة لهم بها....

تتعلق مشكلة التجييش الطائفي والقتل أيضاً ،بمسألة وجود شريعة مهيمنة على بقية شرائع المجتمع، وارتباط الزواج في مجتمعاتنا بالعقائد الدينية ، وعدم وجود زواج مدني خارج إطار الطوائف ،حتى ولوكان من نفس الدين ، ففي سوريا كل من يتزوج من خارج الطائفة السنيّة ،فتاة أو شاب سني،سواء أكان علوياً، اسماعيلياً ،درزياً ، مسيحياً، سيصير مسلماً سنياً لا محالة، وسيعلن تخليه عن مذهبه القديم ،وإتباع مذهب السنة الحنبلي
وهو ما يمنع جرائم القتل بالطائفة السنيّة ويسبب وجودها بغيرها، وتتضاعف المشكلة عندما يتم تسجيل الزواج والأولاد حتماً وجبراً وفرضاً واكراهاً وغصباً على المذهب السني الحنبلي، وهذا ما يجعل أبناء الطوائف الأخرى طائفيين في مسألة الزواج ، لأن الطائفة ستخسر أحد أفرادها ، وستتم مخالفة العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية عدا عن القهر المعنوي الذي يشعر به أهل الفتاة أو الشاب أو الشاب أو الفتاة أنفسهم ، إزاء هذا الأمر ، الأمر الذي لا يجدون له مبرراً فعلياً لا دينياً ،ولا عقلياً ،ولا اجتماعياً .....

هذا العرف الذي يساوي في مسألة الزواج المتعدد الأديان أو غير المتدينين بين الشريعة المهيمنة والقانون العام ،هو ما يجعل هذه المشكلة قائمة ومستمرة الحدوث ،وهو ما يفرض على ذوي التفكير الجدي والعقلاني ، في كل البلاد العربية وليس في سوريا ،السعي إلى تقديم حلول جادة ،تجعل من الأفراد والجماعات متساوين وأحرار فعلياً وهو ما يفترض النظام الديمقراطي العلماني بالضرورة والبدء بإلغاء هيمنة الشريعة السنيّة على بقية الشرائع ، وأن يكون لذوي العلاقة الحق باختيار شكل الزواج المراد أو الطائفة أو الزواج بدون الانتساب للطوائف وهو ما يعني الحق بالزواج المدني ،أو المتعدد الطوائف بكل بساطة ، وبقاء الزواج الديني لمن يشاء ويعتقد به ، بالإضافة لإلغاء كل القوانين التخفيفية عن مرتكبي الجرائم باسم "العار والشرف " واعتبارها لا علاقة لها لا بالعار ولا بالشرف ، بل هي جرائم قتل عمد عن سابق إصرار وترصد وملاحقة كل المحرضين عليها ....

السؤال الآن هل من الممكن الانتهاء من حل هذه القضية بغير القتل ، وتغيير هذا الحل الهمجي لهذه القضية الإنسانية والشخصية؟
نقول نعم ولكن بشروط ، إن لم تتحقق ، نقول لا، فما هي هذه الشروط ؟
أولاً : لابد من إعادة تأسيس الحراك السياسي العلماني والاجتماعي التقدمي ، والنضال الجاد من أجل الوصول إلى هذا المجتمع العلماني ، الذي يحترم حرية المعتقد للمتدينين باختيار شكل العلاقة بين الأفراد والآلهة ، وفصل الدين عن الدولة والسياسية ، واحترام الحريات العامة ومنها حرية شكل الزواج ،واعتبار الزواج مسألة شخصية ، يمكن تنظيمها عبر قانون ،وباعتبار الزواج الديني رخصة وعقد أوسر مقدس بين اثنين ، وله شروطه وتبعاته، فيحق لنا البحث عن عقد خاص ومختلف ولا علاقة له بالأصول الدينية ، وله شروطه وتبعاته ، ويمارسه الأفراد من ذوي الأديان المختلفة والواحدة بشكل طبيعي ، عدا عن أن الزواج الديني في الإسلام متعدد الأشكال والأسباب فلماذا لا يكون غير الديني أحد أشكاله ، وهو ما يستدعي العمل الحثيث من أجل تغيير وتحديث بنية الوعي والمجتمع بكل مستوياته حتى يتقبل هكذا نوع من الزواج .....
ومن العبث فصل هذا القتل الممارس على الفتيات هدى أو سناء سيف 1996 والعشرات وبأشكال متنوعة عن الضغوط والممارسات الاستبدادية في المجتمع وضد المجتمع ، ومن قبل السلطة والدولة ،وبالتالي النضال الممارس ضد قتل النساء هو جزء من النضال ضد الموت السياسي للمجتمع ، وضد الموت العلماني وضد الفقر والتخلف والطائفية والفساد في المجتمع ....
وبالتالي شروط منع القتل هي هي شروط تقدم العلمانية والديمقراطية، واحترام حرية الأفراد بالاختيار والمساواة أمام القانون وفي الواقع ، كمواطنين متساوين بغض النظر عن الدين أو الجنس أو القومية ....
ثانياً : هذا التحليل أعلاه يجعلنا نتسآل من له مصلحة بهذه الحريات ، وضرورة تعميمها في المجتمع ؟
يمكن القول إن أصحاب المصلحة بالحرية الشخصية وحرية الزواج والمساواة القانونية هم أصحاب المصلحة بالمساواة الاقتصادية والاجتماعية ، وهو ما يعيدنا للقول إن القوى التي تسعى لفرض حق الأفراد في حرية ممارسة المعتقد هي نفسها التي تسعى لفرض حق الانفصال عن الإيمان بالمعتقد ذاته ، وهي نفسها التي تعيد للدين احترامه ، وتعيده للمجتمع ، منزهاً عن الأغراض السياسية والتأويلات المشوهة ومصادرة حقوق الأفراد باختيار شكل العبادة ، وهي التي تفصله عن مؤد لجي السلطة والمال ،وتلغي المراتبية الدينية والاجتماعية ، وتجعل الأفراد متساويين في شكل ممارساتهم لمعتقداتهم وإيمانهم بالله وفي الحياة الاجتماعية ....
هذا الموضوع المثار النقاش به في سوريا ، يخص الشباب بصفة خاصة على اعتبارهم الشريحة التي تقوم بهذا الفعل، وهو ما يفرض عليهم التفكير جدياً بهذه المشكلة، واعتبارها مشكلة قابلة التجاوز، وغير ممكن تفاديها، ما دمنا بشراً مرةً أخرى ، وما دمنا مجتمعاً به تعدد ديني ، ومتوزعة طوائفه في كل أنحاء البلاد ، وليس هناك تجمع بشري صاف من الوارثين للأديان أو موقع عمل أو جامعة أو مدرسة أو معمل أو مؤسسة ، وبالتالي تصير المسألة بحاجة للتجاوز وهو ما يفرض الدراسة ومناقشة القضية كقضية سياسية واجتماعية كما أشرنا وضرورة حياتية ، وبالتالي عدم التعامي ، وتجاهل الموضوع أو إنهائه بطريقة الطائفيين ، واعتبارها قضية صراع اجتماعي أمام الشباب العلماني ( الماركسي والقومي والديمقراطي ) وأيضاً أمام الأحزاب السياسية العلمانية وكل المجموعات والفئات والشخصيات المهتمة بمستقبل أولادها والبشر الأحياء وعدم تحميل المسألة للدين أو للتاريخ أو للسلطة فقط رغم دورها المركزي في وجودها....

هذه المشكلة ستبقى قائمة ومواجهتها أمر لا مفر منه وهي ضرورة حياتية ، وهي واحدة من مشكلات عامة تفترض برنامجاً علمانياً عاماً لها ، وتستدعي تشكيل مجموعات شبابية تهتم بها وبغيرها ، وتتصدى لها ،وهو ما يفرض الصراع ضد توجهات السلطة بخصوص علاقاتها مع الأيديولوجية الدينية ، والطائفية، والقوانين الطائفية ، فقانون الأحوال الشخصية المفروض على المتزوجين من الديانات المختلفة ، هو قانون طائفي بامتياز ،يقسم المجتمع طائفياً ويخلق عذابات للأهل وللأزواج وتشوهات وقتل دائم وانفصال بين الأديان وتحويلها لطوائف سياسية ،عدا عن الظلم الواقع للمرأة حتى ضمن الدين الإسلامي ،من تعدد الزوجات ، وغيرها....

ضرورة تغيير الوعي والتفكير بهذا الموضوع تطرح من زاوية الأولاد وشكل حياتهم المستقبلية أيضاً ، فالزواج إن تم - وهو سيتم بشكل دائم - سيلحق به تشكيل العائلة ووجود الأولاد وسيكونون موزعين بين عائلة الأب وعائلة الأم ،وإذ كانوا من بيئات منغلقة بشكل ما أو مختلفة العادات ستكون المشكلة أكبر ، وبالتالي ستنشأ مشكلات جديدة قد تؤدي إلى الطلاق ، عدا عن المشكلات الدائمة نظراً لاختلاف العادات والتقاليد ،وهو ما يفرض نضالاً فعلياً اجتماعياً وسياسياً وفكرياً لتجاوزها ولتحديث الوعي .....
فالدولة أيضاً تتحمل مسؤوليات إضافية عدا عن المشار إليه أنها لا تؤمن للأفراد المتزوجين من خارج الطوائف تأمين مالي أو عمل أو سكن في حال حدوث الزواج أو الطلاق ......
وإن على رجالات الدين المتعصبين من كل الطوائف التفكير بمصير بناتهم وأولادهم جدياً وعدم التلطي خلف شعارات وكلمات لا علاقة لها بالواقع ،بخصوص القتل ،كأن يقال أن الدين لا يحض على القتل أو أنها مسألة عائلية أو أنه كان عليهم ألا يتخذوا هكذا زيجات ، وقد ذكرنا أسباب حدوثها في هذه المقالة. والسؤال هل هم يفكرون فعلاً بهم ، أم يفكرون بالعادات والتقاليد وبأفكارهم الدينية المتعصبة وبمصالحهم ووجهاتهم ، فإذا كان الأمر كذلك فهم أشخاص غير مسئولين ، وإن حاججوا باسم الدين وبأنه منع عنهم والخ ، فأقول لهم إن كان الدين للمشيئة الإلهية على ما أعتقد، فليترك أمر البشر بالعبادة والزواج وشكل الزواج والحياة والموت وغيرها للمشيئة الإلهية ذاتها ، وليحارب هؤلاء بمنع القتل على أقل تقدير وتأمين حق الحياة التي منحها الخالق إن كانوا مؤمنين كما يعتقدون..
وإن لم يكن الأمر كذلك ، فإن بعض الأفراد يحلوّن أنفسهم مكان الذات الإلهية وضد الحياة ومع الموت ، وبالتالي ومن وجهة نظري فإن منع الزواج المتعدد الأديان والقتل وهيمنة شريعة على بقية الشرائع أمر اجتماعي تستفيد منه فئات محددة من كل الطوائف باسم الدين والله وتستفيد منه السلطات وشبكات التحالف التي تقيمها مع رؤساء الطوائف وأصحاب الأموال ذوي التوجه الديني وربما تمتين العلاقات العربية ،ولا سيما مع العربية السعودية وغيرها في مراحل سابقة ، بهدف إعادة إنتاج التعدد الديني للمجتمع مجتمعاً طائفياً سياسياً ، وبالتالي التوظيف السياسي للأديان في إطار الهيمنة على الفكر والوعي بالإضافة لأدوات القمع غير المحدودة الأشكال تؤمن للسلطة مع تحالفاتها السيطرة على المجتمع وعزل القوى العلمانية والعلاقات الاجتماعية الحديثة عن دائرة الفعل والتأثير .....
لهذه الأسباب لا بد لنا من تعميق الدراسة بأسباب قتل هدى أبو عسلي وغيرها بالارتباط مع تغييب اليسار والديمقراطية و العلمانية وضرورة وجود الأخيرة وفهم مستوياتها ، وليس كونها فقط تعني فصلاً للدين عن الدولة والسياسية وإلحاقه بالمجتمع ومساواة الأديان مع بعضها ، وتأمين حرية المعتقد ، فإنها تعني تحديثاً للوعي وبرنامجا اقتصادياً للتنمية ونقلة للمجتمع نحو مجتمع حديث وعلماني وديمقراطي،يتساوى فيه الأفراد بحق المواطنة ، وقادر على التطور ..
وبالتالي العلمانية الموضوعية ، هي التي يفرضها البشر عبر صراعاتهم الاجتماعية وعلى كل المستويات ما دام البشر يصنعون تاريخهم وحياتهم ودولهم ومؤسساتهم ، فتحقيق تجاوز مشكلة القتل يتم عبر النضال الدوؤب والواعي لمشروع الحداثة النهضوي والإقلاع عن التسطيح في حل المشكلات التي تواجه مجتمعاتنا واختصارها بمشكلة واحدة" الديمقراطية" .
يمكن القول في النهاية إن مشكلة قتل هدى أبو عسلي وغيرها وقمع النساء لا يمكن اختصارها إلى مشكلة عائلية أو قانونية أو نسوية أو خاصة بطائفة محددة ، وإنما هي مشكلة تتعلق ببشر أحياء لهم رؤى مختلفة عن السائد والمسوّد في المجتمع وبضرورة تغيير البنية الاجتماعية وتغيير الوعي وخلق أحزاب أو تجمعات علمانية لا تتباكى وتتحسر على شباب المقتولة بطريقة عاطفية تخفي تهرباً عن المواجهة كما تفعل بعض قيادات الأحزاب القديمة بل تطرح مشروعاً فكرياً وسياسياً واقتصادياً يخرج الأفراد والمجتمع من أزماته بهدف الوصول إلى مجتمع المواطنين الأحرار والمتساويين فعلياً وعلى كل المستويات .......