عاملة بعمر المراهقة



طاهر مسلم البكاء
2015 / 5 / 10

لايمكن ان نلقي باللوم الأكبر على العائلة في جميع الحالات ،ولكن يلام المجتمع الذي تغيب فيه العدالة وتكافؤ الفرص وتوفير الحياة الكريمة لأفراده ،والحكومات التي تغيب فيها برامج النهوض بالواقع الأقتصادي وغياب برامج الأعانة ومعالجة البطالة ،والأنسانية التي يتوحش فيها الفكر وتموت المبادئ وتتحول الى تصارع ومصالح وتغذية للحروب بمختلف الحجج الواهية .
القصة حقيقية من الواقع :
في مدخل محطة الوقود كنت انتظر ضمن صف السيارات لأملاء سيارتي بالوقود ،حيث توجد محطة واحدة في مدينتي تبيع البنزين المحسن رغم اني في بلد النفط !
افواج من الأطفال والفتية تتصارع لعرض خدماتها ،فبعضها يبيع حاجيات السيارات او ورق التنظيف وبعضها يعرض خدمات اخرى كغسل وتنظيف زجاج السيارات ،لفت انتباهي فتاة في عمر المراهقة ترتدي ثوبا رثا ً ضيقا ً تخفي مسحة جمالها وفتوتها آثار الشمس اللاهبة وظروف الشارع القاسية ،وكانت تبيع علب الكلينيكس وتعرضها على صف السيارات واحدة واحدة وعندما وصلت قريبة مني اشتريت منها علبة وسألتها عن من يرسلها للعمل ، اذ من المعروف ان الأعراف العائلية هنا تتشدد في خروج النساء ، قالت ان بيتهم هناك ،واشارت الى منطقة سكن عشوائية تسكنها العوائل الفقيرة ، واضافت ان ابيها يطلب منها الخروج للعمل ،قلت لها وابيك هل يعمل هو الأخر ام ماذا ؟
وابتعدت عني وكأنها لاتريد ان تكشف اسرار عائلتها ولكنها عادت بعد دقائق واقتربت مني وكأنها قد اطمئنت الي ، قالت : انا اليوم كثير حزينة على ابي وسكتت .
قلت لها : ولماذا ما الذي حدث له ؟
قال بحزن وبراءة : البارحة هو وعمي سكروا وقام عمي بكسر يد والدي ،وأخذناه بالليل الى المستشفى .
ولم اتمالك نفسي فاستدرجها بالكلام لأفهم طبيعة مثل تلك العائلة التي ترمي فتاة بعمر الزهور الى المجهول ، بل قلت لها بصورة لا ارادية :
لعن الله ابيك وعمك ولا عافاهما ،اذن هذا السبب الذي يجعل ابيك يرسلك لتعملين وسط الشارع ، انشاء الله يخلصك منه الى الأبد .
وجفلت مبتعدة وهي تحمل علب الكلينيكس بكلتا يديها ..
حقوق الأنسان لعق على الألسن :
حسب احصاءات اليونسكو فأن 43 % من اطفال مدينتي يعانون الحرمان وممارسة حقوق الطفولة التي هي حق عام من حقوقهم .
العوامل المرتبطة بالحرمان :
هناك العديد من العوامل المؤشرة في حرمان الطفولة ومن اهمها هي بطا لة رب الأسرة التي هي مسبب رئيسي للفقر وبالتالي الى سوء خلقه واهمال حقوق اطفاله والزج بهم في العمل فيما يكونوا غير مؤهلين عمريا ً لموا جهة الحياة ، وأية حياة انها حياة الشارع والألتقاء بشخصيات مختلفة أغلبها غير منضبطة وبعيدة عن الأخلاق الأجتماعية وبالتدريج يتحول الطفل من عامل يبحث عن رزق لمؤنة العائلة الى طفل غير منضبط وبالتالي منحرف و خارج عن القانون وعالة على عائلته ومجتمعه برمته .
ان العائلة التي فيها رب الأسرة مفقود أو عاطلا ً عن العمل مما لاشك فيه تحمل بذور تمزقها وسط قسوة الحياة وتكون تلك العائلة اشبه بسفينة غير محصنة وسط ريح عاتيه ،وتكون حياة الأبناء متميزة بالفشل والضياع ،وسيكونون مؤهلين للأنجراف نحو الممارسات الخاطئة والأنحراف والشذوذ و سيخسر المجتمع هذا الجيل الواعد الذي تقوم الأمم المتقدمة المتمكنة برعايته منذ الصغر واكتشاف مواهبه وسبر اغواره ، لوضعه في الطريق والأختصاص اللا ئق الذي يجيد الأبداع فيه ، حيث ان اكبر طاقات واعدة هي طاقات الشباب التي هي امل كل امة ،وعندما نقرا سير اغلب المتفوقين اليوم في مختلف مجالات الحياة ،نجد ان هناك آياد امينة وقلوب حانية قد امدتهم بالرعاية في السنوات المبكرة من الحياة ،وهذه سنة الحياة ،ومن هنا فاننا برمي الأحداث في صخب الحياة نجني عليهم بقطع طريق الحياة عليهم ونخسرهم ،ونولد مشاكل جديدة تجعل من هؤلاء وبالا ً على المجتمع ذاته ،الذي يأخذ بالأنفاق ووضع الدراسات المختلفة لمعالجة نفوقهم وتحولهم الى فئات تهديمية ، كأمتهان الجريمة مثلا ً وكان الأولى ان تكون الوقاية خير من العلاج ،فقد كان الأصح معالجة الأسباب التي ادت بهؤلاء الى الأنحراف ووضع الحلول الناجعة لها .
ان من المهم ان تكون السلطة التي تقود البلاد من النزاهة والحكمة و القوة بمقدار كبير لكي تكون قادرة على ادارة البلاد وتوزيع ثرواتها بعدل وانصاف ووفق ضوابط يعرفها المجتمع ويرضاها ،تؤدي بالنهاية الى توفير الحياة الكريمة لكل فرد من افراده ،ونجد هناامثلة كثيرة على مجتمعات ابتعدت عن الحروب والمغامرات ،وسلمت قيادها الى من هم خيرة ابناءها من الصفوة التي تختارهم بطرق حضارية لا غوغائية ، فأننا نجد ان هذه البلاد ينتشر فيها الأمن وتتوفر فيها الحرية و الحياة الكريمة لكل مواطن وتظهر في سماءها نجوم متألقة من العلماء والمفكرين والمتفوقين في كل مجال من مجالات الحياة ونجد فيها البطالة في اقل نسبها ان لم تكن معدومة وينعدم الفقر وتتناقص فيها معدلات الجريمة والحوادث السلبية الأخرى ،ويحصل العكس للبلاد التي يتطاول للقيادة فيها من هب ودب فانها بالنتيجة النهائية ستكون موضع تجارب لأشخاص مغامرين من النادر ان يظهر فيهم القائد المتمكن الذي يستطيع كشف علل المجتمع ووضع الحلول لمعالجتها .
تشير الأحصائيات الى ان 60 % من الأطفال الأيتام يعملون كمعيلين لعوائلهم ،وهي ظاهرة تدل على عدم تحسن الدخل للفرد العراقي واستمرار العوز والفقر رغم الميزانيات الأنفجارية التي كانت ترصد سنويا ً بسبب شيوع الفساد الأداري والسياسي .
هل يمكن العلاج :
ان الظاهرة في العراق هي ظاهرة غير طبيعية صنعتها الظروف القاهرة التي مر بها البلد ، ولهذا لايمكن ان نقول ان وزارة العمل والشؤون الأجتماعية بأمكانياتها البسيطة قادرة على معالجة هذه الظاهرة والتي تستدعي معالجة سريعة وجدية بسبب ما تحمله من مخاطر ليس فقط على مستقبل هؤلاء الأطفال بل على مستقبل البلد برمته و برأينا ان يتم :
- دراسة الظاهرة من قبل متخصصين وباحثين يكلفون من الدولة وعلى عموم الدولة العراقية لكشف مسبباتها .
- وضع الأحصائيات الدقيقة عن هذه العمالة والأماكن التي تنتشر فيها .
- الطرق المثلى للمعالجة كتوفير العمل المستقر والكريم وتوفير السكن .
- الطرق المثلى للوقاية ، وهي منع عمالة الأطفال ووجوب استمرارهم بدراستهم ، ووجوب القضاء على المسببات الرئيسية التي تجبر الطفل على النزول للعمل .
ان الأهتمام والمتابعة الجدية من الدولة مطلوبة بألحاح ، لما تشكله هذه الظاهرة من خطر اجتماعي واقتصادي وامني . صحيح ان هناك من ينادي بمعالجة البطالة والفقر ،وتوجد هيئات ومنظمات دولية لحماية الطفولة والدفاع عن حقوقها ،ولكن الواقع مؤلم ومرير فالاف الأطفال والصبية من كلا الجنسين يباشرون كل صباح اعمال من المفترض ان يقوم بها الكبار وان هناك الالاف منهم من يقع ضحية جماعات وعصابات لا هم لها سوى الربح المادي ،تستخدمهم كسلعة رخيصة ثم ترمي بهم في الشارع عند انتهاء حاجاتها ، وهذا يحصل بوجود الحكومات واجهزتها الأمنية والمنظمات المختلفة ، ان مشكلة عمالة الأطفال والأحداث ونفوقهم في الشوارع مشكلة كبيرة بحجم مشكلة القيادة والفساد الذي يستشري في البلاد وحلولها تتم بمعالجة مشاكل البلاد الرئيسية ونوع الكفاءات التي تتولى القيادة فيها .