هل هي دولة عشائر أم دولة مؤسسات ؟!



ابراهيم الحيدري
2015 / 6 / 13

أثار انتباهي وادهشني ما نشر في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي حول الفصل العشائري حيث أعلنت عشيرة آل فتلة ان عشيرة "أبو كلل تدفع فصلا عشائرياً بمبلغ 100 مليون دينار للحشد الشعبي!"، وان مجلس شورى قبيلة آل فتلة يهدر دم أبو كلل" ليكون عبرة لغيره من المستهترين الذين يرمون المحصنات المؤمنات" وغير ذلك من منابزات. وأتساءل بألم وحرقة أين الدولة وأين القانون ورجال القانون ؟. وهل نعيش اليوم في عصر ما قبل التاريخ أم في القرن الواحد والعشرين؟!
يلاحظ الباحث الاجتماعي انه كلما ضعفت الدولة المركزية في العراق خلال القرون الماضية, قويت شوكة القبيلة والعشيرة وأخذت بالتمرد والعصيان. أما في المدن فيأخذ رؤساء الطوائف والمناطق بالخروج على سلطة الدولة وعدم طاعتها. وهذا ما حدث خلال حكم الدولة العثمانية وما زال يحدث حتى اليوم!
والسؤال الأهم: لماذا لم تستطع الدولة والمجتمع المدني في العراق تفكيك سلطة القبيلة بعد حوالي قرن على تأسيس الدولة العراقية؟
اذا كان ضعف السلطة المركزية في العراق خلال القرون الماضية والحروب والصراعات والموجات البدوية المتوالية التي نزحت إليه, الى جانب استبداد الحكام والولاة وضعفهم, ساعدت على نشوء إمارات ومشيخات وسلطات محلية وطوائف دينية وحرفية وفرت مجالاً خصباً لتقوية الروح العشائرية والنزعات الطائفية وإعادة انتاج القيم والأعراف البدوية والتقليدية, حتى يحافظ كل من الحاكم والمحكوم على موقعه ومصالحه والدفاع عن "ديرته" وحمايتها، فان مرور حوالي قرن على تأسيس الدولة العراقية وما يزال العراقي يعاني من استمرار القيم والعصبيات القبلية والطائفية والمحلية على حساب القيم والأعراف الحضرية, وحلول الولاء للقبيلة والطائفية مكان الولاء للدولة والوطن!
لقد حاول الحكم الوطني, منذ تشكيل الدولة العراقية, دمج القبائل والعشائر والطوائف في المجتمع المدني ونجح في ذلك نسبياً. غير ان صعود حزب البعث الى السلطة حوّل العراق الى دولة ريعية - شمولية بسبب اعتمادها الكلي على واردات النفط الهائلة واتساع حجمها وأجهزتها العسكرية والأمنية والبيروقراطية وانقضاضها على مؤسسات المجتمع المدني وإضعاف الطبقات الاجتماعية وبخاصة الطبقة الوسطى وضمورها، وهو ما ساعد على استرداد العلاقات العشائرية في العقود الاخيرة بعض قوتها وأعرافها واعادة انتاج قيمها وتقاليدها وترسيخها وإعادة استخدام "القوانين" العشائرية, كالدية والفصل والبدل والثأر والحسم وغيرها, بحيث اصبحت العشيرة بديلاً لعدد من مؤسسات المجتمع المدني.
والواقع, ان التركيبة المجتمعية لعراق اليوم ولدت أجيالاً جديدة لا تعرف معنى الانتماء والولاء للوطن ومفهوم الدولة الحديثة وروح المواطنة ولا حتى الانتماء الحزبي أو النقابي.
ومن الطبيعي ان تستغل المكونات الاجتماعية، الاثنية والدينية والقبلية والطائفية وغيرها، الفترة الانتقالية المضطربة التي يمر بها العراق بمساعدة قوات الاحتلال وضعف الدولة وتفكك المؤسسات والفوضى الهدامة والتسيب الذي عم البلاد لتحقيق مصالحها وطموحاتها وأهدافها وان تمارس مختلف الطرق والأساليب الشرعية وغير الشرعية لإعادة تعريف نفسها وتوكيد هويتها الفرعية على اساس أيديولوجي.
وإذا كان اعادة تعريف الهوية أمر ضروري في ظل هذه الظروف غير الطبيعية التي يمر بها العراق، فمن الممكن ان تكون محفوفة بالمخاطر، خاصة وان تركة النظام السابق الثقيلة ما تزال تلعب دورا مؤثرا في سايكولوجية الفرد العراقي. ولهذا فليس من المستبعد ان تمارس التكوينات الاجتماعية المنقسمة على نفسها نوعا من التمركز على الذات والتعصب والانحياز نحو مصالحها الاثنية الخاصة بإسم العرق او الطائفة او القبيلة او المنطقة او الحزب، وان تفرز مفاهيم وشعارات لاعقلانية وعاطفية متسرعة، وتبرر ذلك بحجج واهية مستغلة ضعف الدولة وروح المواطنة والاحتلال الاجنبي والظروف غير الطبيعية التي تمر بها البلاد.
واذا كان للقبلية وللطائفية وظيفة ودور اجتماعي، فهما وظيفة ودور سابقان لتكوين الدولة الحديثة. فالقبيلة في الأصل تكوين اجتماعي ما قبل حداثي تقوم اساسا على وحدة الدم والقربى ولها نزعة تعصبية تعبر عن الولاء للقبيلة والانتماء لها وليس للدولة والوطن، وان أهميتها ودورها الاجتماعي يكمنان في المحافظة على وحدة القبيلة وقيمها واعرافها وحل المنازعات العشائرية ضمن المجتمع البدوي/الرعوي وليس الحضري، ولا يمكن ان تكون بديلا عن القيم الاسلامية ولا عن قيم الحداثة والتحضر، والتي تتناقض مع مؤسسات المجتمع المدني.
والمشكلة هي ان العشيرة تحولت اليوم الى مشروع سياسي وتحول دور "المضيف" الى ما يشبه الحزب السياسي يعقد تحالفات عشائرية وصفقات سياسية وغزوات عشائرية..
كما ان للطائفية نزعة مذهبية تعصبية ايضا تجعل الفرد يقدم ولاءه الكلي أو الجزئي لقيم وتصورات الطائفة وليس للدولة والوطن، وتستخدم الولاء الطائفي للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الروابط والعلاقات الوطنية ، كما تستخدم العصبية الدينية والقرابية في السياسة وتنظر الى الطائفة من حيث هي جماعة مصالح خاصة، وبذلك تتحول الطائفة من مفهوم ديني الى شكل ايديولوجي جديد من التحزب السياسي والتمترس في خندق مذهبي ضيق. وهنا يتغلب الصراع الطائفي على الصراع السياسي، مما يجعل هذا المفهوم الديني/الاجتماعي اكثر توظيفا في السياسة، معتمدا على التحالف والتحزب والتعصب اكثر من اعتماده على المساواة والتوافق والتسامح..
ان دخول القبيلة والطائفة اللعبة السياسية القائمة على المراهنات السياسية يفرغ القبيلة من دورها الاجتماعي والطائفة من القيم والاخلاق الدينية الرفيعة التي تنادي بها ويجر افرادها الى صراعات على المصالح والثروة والنفوذ وليس الى التعاون والتكافل الاجتماعي وان استفحال الولاء للقبيلة والانتماء للطائفة انما يشكل تحد كبير يواجه بناء الدولة الحديثة وروح المواطنة والهوية حيث ينقسم المجتمع العراقي اليوم على ذاته الى قبائل وطوائف ومناطق ومحلات، حولت الصراعات والمنازعات والعصبيات العشائرية الى المدن والاحياء ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني.
ان تنامي الدور السياسي للمؤسسة القبلية والطائفية يبرز العديد من المخاطر، فالمشكلة تتعدى كونها بديلا لمؤسسات دولة القانون والمجتمع المدني، وإنما لكونها تطرح نفسها كبديل عن المؤسسات الدستورية والديمقراطية المنتخبة، ولأنها لا تمتلك أي شكل من اشكال الديمقراطية وليس لها برامج سياسية او اقتصادية واضحة المعالم، بل تتمحور اغلبها عن مطالب تغالبية ومصلحية ضيقة للحصول على مناصب اساسية في دولة المحاصصة التوافقية، بحيث وصل الأمر اخيرا الى احتراب على مناصب الوزارات السيادية. ان صيغة المحاصصة الطائفية بامتياز هي في الحقيقة التفاف على نتائج الانتخابات وتشويه للعملية الديمقراطية التي تتبجح بها جميع الاطراف المشاركة في الحكومة، كما انها تعرقل مسيرة الديمقراطية الوليدة بكونها تضع نفسها كبديل عن مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي تخترق قيمها واعرافها وعصبياتها, قيم التحضر والديمقراطية وتقف ضد المواطنة والحداثة وعملية التغير والتغيير.