ولن تنكّلي بعد اليوم بوريقات البقدونس!



أماني أريس
2015 / 6 / 19

وتستمر ملحمة جالجامشية على رغيف النعمة في صحن بال، ولأن خساءة المنحطين لا تهادن ستقذفه بعيدا ليتحطم ويتطاير جذاذه ويتناثر كما تناثر جذاذ الذلّ في خلايا أجسادهم، يتّسخ الرغيف وتنتهي الفصول بإسدال الستار على مشهد فاره تنهال فيه أقدام الإنتهازيين على المقدّس.

كانت تفرز ربطات البقدونس والكرفس، في عمل متناسق، ومتقن قبل أن أثير قطاة عقلها بكلامي، جسّدت ثورتها الصامتة في التنكيل بوريقات الأعشاب، فهي عادة تتحفظ عن تحريرها خوفا من الصّداع والتيه الذي أتركه لها بعد كل نقاش بيننا. وكلما اشتد خوفها عليّ تستنجد ببعبع المجتمع المعروف، وبنبرة تختلف حسب وتيرة النقاش ومزاج اللحظة تقول : " واينا دار راح تدخلك "
أمي تفكر في الدّار التي يمكن أن تقبل بي وافدة جديدة تحمل اسم العائلة، وأنا كنت أبتسم في حسرة موازية في الإتجاه المعاكس، وأقول لها بأسلوب أرحم وقد علمت مبلغ كلامي من قلبها، ورهبة اليهماء التي ألقيت بعقلها البسيط فيها : " أنا سأبقى معك أرعاك يا أمّي" ثم أنصرف تاركة إياها تنتصر لتقاليدها، وتعقبني بسيل من الكلام تنحني دالته الصوتية بتزايد مستمر لتلبغ الذروة مع أقصى مكان بلغته في البيت، ثم ما تفتئ تتناقص إلى أن تنعدم وتعود إلى الدواخل؛ هناك تجد لها بيئة أكثر أمانا وحرية لتصخب وتعارض .
أما أنا فكنت أنزوي في مكان ما، وأفكر في نوع البيت الذي تريد أمي أن تُفَصّلُني على مقاسه حتى يفتح لي أبوابه ! الأمر لا يستدعي تحليلا عبقريا لأستطيع رسم معالم شخصياته، لكنني كنت أفكر في مدى قابليتي للتفصيل، إنصافا للنسبة الأقل من إمكانية الهزيمة. فالبيت الذي تريده لا يختلف عن ذاك الذي فتح لها أبوابه منذ ما يربو عن الأربعين سنة، كغيره من بيوت المدجنة الواسعة، تحكمه الأعراف، السيطرة فيه للذّكر، كلمة الكبير مسموعة وملزمة بغض النظر عن صلاحيتها من عدمها، الأنوثة فيه رضوخ مُذلّ، وتكلّف للمثاليات والأخلاق، وخطب ودّ الزوج وأهله، وفي خضم تلك البيئة تتوالد الطفيليات والفطريات على جدران القلوب، وتضرب العنكبوت بخيوطها المجهرية على مسامات العقول. أمّا ما يُحسب له من فضائل النية والحياء والوقار والتجاوز؛ فما كانت استحقاقية مقصودة بقدر ما كانت إنكارا مطلقا للذات محتّما لا مخيرا.

هذه البيئة التي عاشت فيها والدتي منذ أربعين عاما ونيف؛ لا تختلف كثيرا عن بيئة اليوم، وإن كانت الكثير من النساء قلبن الطاولة على هذه الأعراف، إلا أن جذور العلّة لم تقتلع بدليل التحول من التثعلب إلى التضبع! ومعظم نتائج تلك الانقلابات، لا تعبر سوى عن مزيد من البؤس إذا ما قورنت بتزايد أعداد الفطريات، وتراكم طبقات الصدإ في الجماجم، وتخبّل خيوط العناكب؛ التي لا تزال ثاوية في مقرها المكين. كنت أعيش دوامة اللحظات وأنا استحضر آخر فصل علق بذاكرتي من فصول هذه الحياة البائسة :

بهمسات إجلال ( لقد جاء فلان، لقد جاء فلان ) تخالها برتوكولات لاستقبال راهب دير، هي في الحقيقة هستيريات متوارثة؛ تحدث كلما تراءى لهن أحد القائمين في عرس تقليدي، حيث تتفنن المازوخيات في التذلل وإبداء الولاء، وترقيق الأصوات، واستظهار كل ملامح الأنوثة السطحية، والإستخفاء الملفت والستر السيتريبتيزي، بجذب الفستان، أو رفع خمار لتغطية الرأس، تتبعها حركات اِدعاء التفاجئ، وهو ما يصفه السيكولوجيون وعدا كريما بالعكس ! ويالها من حظوة تحظى بها من يكون لها قصب السبق في تقديم الخدمة التي طلبها، خاصة إن كان شابا وسيما، فينتفش هذا الأخير، و يقطب مبديا التعب من كثرة المهام وثقل المسؤولية. ويصحل بصوته ويغلظه؛ مشيرا بيديه إلى النواعم بضرورة الإسراع في تقديم المطلوب، وهنا، يبدأ المشهد الأكثر إلهاما وبلاغة، تتعثر فيه الأقدام، وتهتز النتوءات، وتكثر قعقعات الملاعق والأواني، وتتلألأ عيونها تلك التي أصابه سهمها باللحظ أو بالقربى، حتى لو كانت عجوزا خمد وترهل فيها كل شيء .

إنه العوز الأنطولوجي، وفاقة الإحساس بالذات، تتجلى في سلسلة من الأثلام و تعبر عن حجم الكبت الاجتماعي، بسبب تسطيح صياغة المعاني وفقا لما تقتضيه نزوات المركزية المسيطرة .

والأكثر بؤسا أن يتكرر نفس المشهد أينما اِلتقى الصنفان من الجنسين، ويفضي إلى ملحمة افتراضية في عصر التقنية، أين لا تكتمل رجولة الكثير من الذكران سوى بإخضاع جمع من متفلحسات الاهتمام، وعارضات البضاعة تحت غطاء الدين والعفة والأخلاق والحياء، في نكران مطلق للذات.
مرت الأيام وأنا في صراع مع المفاهيم المتهالكة، مخلّفة في قلوبهم ركاما من الانطباعات السلبية عن شخصي، مع ركام من الصدمة والرضوض النفسية، لصعوبة مواجهتهم للحقيقة بصدر عار، لقد تفاقمت الأزمة في سريرة أمي، بعدما انطفأ جمر الحماسة ويئست من تفصيلي على مقاس البيوت الرّائجة، وغاب عنها أنني كنت في رحلة ستيفنسونية، ثم عدت لأفاجئها بعقد صلح طال انتظاره، وأتقاسم معها سعادة غنيمة من وغى الوقواق.
طيبي نفسا يا حبيبة! لن تنتفي بعد اليوم أضلاع الكرفس، ولن تنكّلي بوريقات البقدونس، لقد وجدت الدار التي تفتح لي الأبواب وأنا سافرة الفكر من غير تبرج ولا بهرجة، وقرّي عينا يا أمّاه، لقد تجسست كل المواضع على رويّة فلم أجد مكان الثلم، وحان الوقت لأقول نعم !