بين الوعي المحكوم ... والمرأة....



فاتن نور
2005 / 10 / 14

الأنسان موجود ليعيش ويتفاعل...
وغالبا ما يتصور (الانسان) او يعتقد بأن العيش والتفاعل البنّاء الذي يكفل الراحة والتوازن والإنسجام ويُأطر شكل وجوده الأجتماعي غالبا ما يعتقد بان كل هذا مرتبط بوعيه.. فكلما كان على درجة من الرقي في الوعي (والإرتقاء بالوعي له سبله!) كلما كانت سبل عيشه افضل وعلاقاته الأجتماعية اصوب وبهذا فهو يحقق تواجد إجتماعي أكثر تطورا...وهو بهذا يتناسى او يغفل او لا يستطيع ان يدرك بأن طريقة العيش ونمط العلاقات الأجتماعية الموجودة وأدواتها بكل أرثها هي من ترسم له حدود الوعي الذي يحمله ويتعامل ويتفاعل به مع المجتمع وتتجه به لتشكيل وجوده ، وبغض النظر عن ماهية هذا الوجود ....!!

أن قلب المعادلة بهذا الشكل قد يشوش الكثير .... فالبعض يميل الى إلتزام حد المعادلة الأول كونه الأصوب من وجهة نظرهم.. بينما يذهب البعض الأخر ليلتزم حدها الثاني.. وهناك من يربط بين الحدين ويصاهر بينهما......

المجموعة البشرية التي تلتزم الحد الأول تقوم بتكليف الوعي ليُظهِر ممارسات وأطر تربوية وعلاقات أجتماعية ذات نمط خاص من أجل النهوض والتطور... وهي لا تدري بأن درجة وعيها محصورة اساسا بدائرة ضيقة ومقيدة بطبيعة واقع حال الوضع الأجتماعي والمؤثر فعلا في نتاجات الوعي... وبهذا سوف لا يفرز وعيها ما لا ينسجم مع واقع الحال مهما كان مريرا ومجحفا وعلى كافة الأصعدة، لأن الوعي كان قد تبلور وشحذ ركائزه من ذلك الواقع بكل مافيه من تراكمات أجتماعية ومعرفية وموروثات ميتافيزيقية....... ولهذا سوف لا نجد اي قفزات نوعية للتغيير في الواقع الأجتماعي من قبل تلك المجموعة التي تستخدم الوعي (المقيد او المحكوم بواقع ما) كأداة لتطوير ذات الواقع...

قد تتدحرج بعض تغييرات بشكل ما من قبل تلك المجموعة ولكن بشكل لا ينفصم من جذروه مبتعدا عن ما هو موجود لأن الوعي الذي أفرز تلك التغيرات واقع في قبضة الموجود.... بينما لو إلتزمت تلك المجموعة الحد الثاني من المعادلة فستذهب للإنطلاق من واقع الحال الأجتماعي المعاش وستقوم بوضعه تحت المجهر بكل أدواته المعمول بها وبتجريد وعيها من مؤثراته المكتسبة للخروج بقفزات نوعية لتطوير ذلك الواقع بما يتناسب مع ضرورات ومتطلبات الحياة وستكون قادرة على التمييز بين الصالح والطالح من أجل النهوض .....

تداعيات عدم التجرد بالوعي ولو بنسبة معقولة له شواهد كثيرة في مجتمعاتنا ولا مجال لحصرها، فقد اغلقت هذه المجتمعات على وعيها الكثير من الأبواب وجعلته مجرورا وليس جارا محكوما وليس حاكما بحلقات البنية الأجتماعية وعلاقاتها وتفاعلاتها وأدواتها وكما هي موجودة وبكل إرثها السالب والموجب.....
ومن تلك الشواهد .. واقع المرأة ودورها في الحياة....والتي ارتبط الوعي العام بحضورها على مسرح الحياة بشكل هلامي مترهل نربطه تارة بطبيعتها الفسيولوجية/البايولوجية.. وتارة بما فرضته غياهب المجهول من عظمة مشروخة بألف شرخ.. كأن يقال:
بأن عظمة دورها يقف عند الحفاظ على النوع.. وينسى من ينهج بهذا بأن حفظ النوع لا يكون بالمرأة فقط ، بل بتفاعل الجنسين فلا حفظ للنوع بدونهما.......فهي عَظمة ملقاة في درب المرأة بتصرف (او قل عظمة بلا لحم او دسم)، ويُراد بها تعثّر المرأة لتقف او لتركع لواقعها بشموخ !!..............

او يقال بأن الشفافية والرقة والجمالية لابد أن تتجسد بالمرأة بإبعادها عن الإنخراط في أداء ما يهز او يشوه ذلك الثالوث الخرافي (الرقة/الشفافية/الجمالية) وهو بنظرهم (او بوعيهم المزكوم بواقع محدد) تكريم، غافلين بأن الثالوث الطبيعي للمرأة هو( انسان/عقل/ طاقة ) ..وقبل كل شيء....

تلك الطروحات تُكرّس في محاولة واضحة لتسخير المرأة كواجهة جنسية او كشهوة متنقلة (وبشكل ناعم ومبارك، قد يبدو كقمة في الخلق والأخلاق !) او كدمية جميلة مركونة في زاوية ما، ليتم التسلي بها متى ما تسنى بعض وقت كي تفرخ... وليس كطاقة بشرية فاعلة ومتفاعلة كي تُنتِج.....

وان مثل هذا الطرح ما هو إلا تهويل مبالغ فيه لخنق انسانية المرأة وطاقاتها بحبال الجمالية الجسدية والتي سوف لا تنقرض فيما لو دخلت المرأة معترك الحياة وإن إنقرضت(وهو محال) فسوف لا تنقرض الحاجات الغريزية ولا ينقرض النوع ... وسوف لا تنخلع كرتنا الأرضية عن مدارها لتبحث لها عن أناس غيرنا وبثالوث جميل تفوح منه رائحة الشهوة لاستقطاب الجنس الأخر المُتعب عادة والتواق لإفراغ تعبه بسرعة البرق الذي لا يمطر لإحياء خصوبة الأرض...........

او يلجأ البعض الى الإسفاف اكثر ليقول بأن المرأة لاتساوي الرجل بل تناظره بواقع الإختلاف في البنية الفسيولوجية والسيكولوجية وفي الموقع الإجتماعي وفي الإنتاج أو القدرة على الإنتاج... وقد يتناسى اصحاب تلك الطروحات التي تناظر على إختلاف الجنس
بكل تلك الإعتبارت المذكورة وبشكل مُهجّن ومُبطن، يتناسون بأن البشرية بعمومها في حالة تناظر شكلي كونهم بشر ولكن ليسوا في حالة تساو من حيث بنيتهم السيكولوجية ومواقعهم الإجتماعية ولا في إنتاجهم او قدرتهم على الإنتاج وطبيعة الإنتاج الذي ينتجونه ومدى أهميته... وهم بهذا يحاولون تعزيز هلامية ورخاوة الإتكاء على الفوارق الفسيولوجية بفوارق يشاطرها عموم البشر ليكون المطروح بواجهة أعرض من التزييف والتداخلات والإنبعاجات المملة...علما أن مقدرة المرأة على الإنتاج ترتبط بتراكمات تاريخية وأسس إجتماعية سلطوية وإستحواذية همشت وإجهضت وما زالت تُهمّش الكثير من الرجال ولكنها كانت سباقة لتهميش المرأة حيث وجدت الكثير من الأوتاد في الموروث الذكوري العقيم والأخاديد اللاهوتية لتهميشها وإبعادها عن قوى الإنتاج وأدواته وبهذا فتلك الطروحات تُظهِرالنتيجة كسبب فهي تدور في فلك الوعي المشطور والمنغمس بالواقع التقليدي ..

والغريب أن أمثال تلك الطروحات تربط احيانا حجاب المرأة بعزلتها عن علاقات الإنتاج وقواه،وتبرزه كتداعيات لتلك العلاقة ليس إلا ، علما أننا لم نشهد الرجال وقد تحجبوا بسبب تطور قوى الإنتاج ولفظها كما هائلا من الطاقة البشرية وهي سائرة نحو الأمام بلفظ المزيد من القوى العاملة.. فهل ياترى إن كنا لم نشهد رجالا بحجاب في يومنا هذا.. فهل نحن على وشك رؤيتهم ومن منطلق رؤية اصحاب تلك العقول ومنطقهم...؟

رغم أن الكثير من الحقوق الأنسانية قد سحقتها النزاعات السلطوية والاقتصادية والصراعات الطبقية..ووو.. وعادت بظلالها على كاهل الرجل والمرأة حيث لم يفلح الإنسان بعد في تنمية مجتمعات لاسلطوية.. إلا أن المرأة تنعم بظلال حقوق مسلوبة من نوع آخر وبأعتبارات التمايز الجنسي والمورث السائد.. والتي لا تمتد لتشمل هامات الرجال.. تلك الظلال يبسطها الوعي المترهل بشقيه الذكوري والأنثوي والمحكوم بالشحذ بأدوات الواقع الأجتماعي والفكر الخامل المتجحفل بالنمطية...

الفجوات بين واقع الرجل ومستحقاته وواقع المرأة ومستحقاتها لا يمكن تجاهلها فهي واقع ملموس يمتد من منابع التربية السقيمة ويمر بفرص التعليم والإنخراط والتفاعل والإختيار والمبادرة..و..و الخ وفي شتى الميادين وعلى كافة الأصعدة الأسرية والأجتماعية والسياسية ووو.. الخ.. حتى يصل الى تخوم الخمول والجمود الأجتماعي المُراد للمرأة من قبل الكثير وبصوره البراقة!!!.............

لم يتوقف نضال المرأة لنيل موقعها الصحيح ومكانتها الفاعلة في المجتمع وسوف لن يتوقف مهما كثرت الطروحات ذات المنبع الغيبي والتي تغدق الكثير من البخور والعطور لتجميل واقعها الحالي وترسيخه في الأذهان فقد اغدقوا بأفراط حتى أغروقها في قاع الإنسانية بمحار الشرف والعفة وأصداف الدور التربوي الأسري وكأن الشرف والعفة لا مكان لهما فيما لو تخطت المرأة لزوجة القاع وأن النظام الأسري سينهار تماما ملوحين الى الغرب كمثال وهم لا يعلمون او يقفزون وراء الحقيقة وهي أن اغلب علاقاتنا الأسرية محمومة ومغلولة كعلاقات الأسياد بالعبيد يتقبل احدهما الأخر بهويتي العبودية والجبروت...حيث لا حق أختيار ولا حق صنع القرار للمستعبد فالأسرة في مجتمعاتنا اشبه بمؤسسة دكتاتورية صغيرة ضمن مؤسسة دكتاتورية اكبر....

كما أن نضالها سوف لن يتوقف مهما كثرة طروحات اخرى تحاول أن تفلسف واقع المرأة وتربطه بشكل متأرجح بين اقطاعية - رأسمالية- برجوازية- قوى إنتاج... متناسية حصاد المورث الغيبي الروحاني الراسخ في الوعي العام والذي لم يستطع التجرد من عبوديته لينطلق من صيرورة الواقع المرير الى الوعي الحر القادر على بناء مجتمع لاسلطوي او مجتمع بنافذة معقولة من الديمقراطية على أقل تقدير.....

كما أن وضع قضية المرأة بهذا الشكل المتأرجح بين تلك المفردات آنفة الذكر قد يجرنا الى التعامل بنفس مستوى التنظير والمنطق فنضع واقع المرأة بمنظومة مماثلة من المفردات والتحليل ، فنقول .. المرأة تحمل قوى أنتاج حفظ النوع فهي من يملك الألة (هذا منطقهم) .. كماهي المأجور في المؤسسة الأسرية وبلا أجر او ريع إقتصادي يذكر وإنتاجها كمالكة للآلة ومأجورة لها وبها!! ، له فائض قيمة كبيرة جدا لا تذهب لصالحها لتصبح رأسمالية/برجوازية /متسلطة.. بل تذهب او تبدد لتوزع على الطاقم الأسري والأجتماعي بأشتراكية معلولة غريبة ورأسمالية أغرب حيث يتم إسقاط حصصها كمالكة لقوة الإنتاج من جهة وحصصها كعاملة مأجورة متميزة الكفاءات وبتخصص لا غبارعليه او جدال من جهة أخرى.....

وبهذا نخرجها صفر اليدين ولم تسلم حتى على قيمة الآلة الموظفة ولو بلا أرباح او فوائد...( لذا ارجو أن يكف البعض عن التحدث في موضوع حفظ النوع بأحادية سقيمة تحاول وضع التاج الزائف فوق رأس المرأة لتحقيق مآرب آخرى، او بمفرادت الانتاج ووسائله لزيادة تعقيد وتداخل واقعها وبغير حق لتفكيك سبل تحررها على المدى المنظور او البعيد)....

مَن يمسك بطائر جميل ويعشق بعض ريشه الملونة الزاهية والنابتة على أحدى الجناحين قد تسره جمالية الريش ويبدأ بخلعها لتشكيل لوحة فنية جميلة مجسمة تزين أحدى جدران مكتبه او منزله ولكن عليه أن لا يجهل بأنه بفعلته تلك النابعة من رؤية أحادية (رؤية الجمال وتوظيفه لأغراض الملكية الفردية) قد ترك الطير مهيض الجناح وغير قادر على الطيران.. او الطيران بشكل غير متوازن متجه او قد يتجه نحو هاوية السقوط.......

حياتنا هي هذا الطائر الجميل فلنرفق بها كي تحلق وتتفجر بأستمرار مثل استمرارية تفجر هذا الكون ومنذ مليارات السنين... فنحن نعيش لنُعين ونسند الوعي كي يسمو ويتفجر... لا نمسك الوعي كي نعيش ونخبو بركوده.....!!!..
فاتن نور
05/10/13