مديح لنساء العائلة/ قراءة سوسيولوجية للرواية



مهند عبد الحميد
2015 / 8 / 17

"
(مديح لنساء العائلة) رواية ثانية للقاص والاديب محمود شقير، بعد روايته الاولى ( فرس العائلة)، روايتان انتقل بهما الكاتب من عالم القصة القصيرة التي أبدع فيها أيما ابداع الى عالم خاص من الرواية مثير للاعجاب. يرسم شقير في روايته الجديدة مسارمجتمع بدوي فلاحي في قالب روائي مشوق، وهو يمر بتحولات وتناقضات هي اشبه بآلام ولادة جديدة. النساء – نصف المجتمع - كن زاوية النظر التي انطلق منها الروائي ببصيرته الثاقبة وحولها الى أداة قياس لرصد التطور والثقافة الجديدة، وقد وضع النساء في فضاء اجتماعي انساني جاذب وصادم في الوقت نفسه. استحضر الروائي النساء من الهامش الذي حدده لهن المجتمع، ووضعهن وسط المشهد، وقال الاشياء المسكوت عنها بجرأته المعهودة. كان ذلك في صلب رسالة الكاتب التحررية المنسجمة مع موقفه الصريح الداعم لحق المرأة ولمكانتها كَنِدٍ وعلى قدم المساواة في المجتمع، خلافا لما هو مألوف في استخدام النساء للإثارة وضمن وظيفة التسويق والتسليع، او لتجميل الذكورة المستبدة.
ربط الروائي شقير بين التطور المادي والتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي في إطار المجموعة السكانية البدوية . فالكهرباء هزمت "الجن" بالضربة القاضية، تقريبا. وجلسات السمر التي تحكي تغريبة بني هلال وابو زيد الهلالي، وتٌلقى فيها الاشعار على ايقاع الربابة الآلة البدائية، استبدلت بالتلفاز الذي قدم بديلا من نوع آخر، كالمغنية سميرة توفيق والمغنية صباح ، والراقصات والافلام والمسلسلات ونشرات الاخبار. انه التطور المادي الذي فعل فعله في البشر وفي اسلوب حياتهم وعلاقاتهم ونقلهم من عالم الميثولوجيا (الاساطير والخرافات والجن ) الى المخترعات الحديثة الكهرباء والتلفزيون والثلاجة).
الرواية عرضت تحولات كان من ابرزها نقل الولاءات من العشيرة الى الاحزاب السياسية ، ومن العشيرة الى الوطن. فقد التحق أبناء من العشيرة بالثورة ، بعضهم نشط في الاحزاب والبعض الاخرارتبط بأنظمة عربية، وبفعل التعدد والتنوع تفككت العشيرة الى عائلات وأسر صغيرة مستقلة لم يعد رأي زعيم العشيرة هو القول الفصل، ففي الانتخابات مثلا تباينت الاراء وتوزعت الاصوات على عدد من المرشحين.
غير ان التحول الابرز الذي تمحورت حوله الرواية تجسد في تغير مكانة المرأة ودورها، من النموذج التقليدي الذي قدمه شيخ العشيرة "منان" الى نماذج الابناء والبنات الذين تعاملوا كشركاء "تقريبا". ففي حين تزوج الاب ست مرات وحاول الزواج من أرملة سمراء سابعة وكان عليه أن يطلق أقدم زوجاته كي يحتفظ بأربعة نساء بصورة مستمرة وحتى الرمق الاخير من حياته، وأنجب 27 ولدا وبنتا ، وانحدر من صلبه اكثر من مئتين ابنا وابنه. مقابل هذا التعدد المفرط من الزوجات والعائلة الممتدة، سلك الابناء طرقا أخرى، "محمد الصغير" الموظف في المحكمة أخبر ابوه انه سيتزوج من امرأة مطلقة هي "سناء" التي تكبره بثلاث سنوات، ورفض كل ضغوط العائلة للزواج من أخرى بعد ان اكتشفوا انها لا تستطيع الانجاب، لم تعترض سناء على زواج محمد من اخرى بشرط انفصالها عنه لانها ترفض تعدد الزوجات، لكن محمد لم يفعل. "فليحان" خطف "رسمية" من ابن عمها وتزوجها، خلافا للقول الشائع (ابن العم بنزل ابنة عمه العروس عن الفرس). "عطوان" ترك زوجته وابنه وتزوج من برازيلية وبقي معها خارج البلاد. "فلحة" الابنة هربت مع عشيقها وتزوجت الرجل الذي احبته وعندما عثر عليها عمها "عبد الجبار" لم يقتلها كما جرت العادة وحظيت بعفو الاب لاحقا. ورفضت "نوال" الزواج من "ادهم" بسبب طموحها الدراسي. وأصغى محمد الكبير"العامل" في فنادق المدينة الى افكار "مريم" التقدمية بعد ان احبها، وتحول الى ناشط يساري مهم في المدينة. و"فاتن" التي طلبت الطلاق من زوجها لانها لم تحتمل الذل والمهانة وظفرت بحريتها. كما نلاحظ، فان العلاقات التي قدمها شقير تجاوزت تعدد الزوجات التي لم تعد تطاق، وأظهرت شراكة المرأة في الاختيار وفي الحياة، وتغلب البعد الانساني على عادات وتقاليد لا سيما مقياس الانجاب الذي تُقَيّم على أساسه المرأة، فضلا عن الدور الريادي للمرأة في تطوير الرجل وفي نجاح الحياة المشتركة المتكافئة كما ظهر في دور "مريم" و " سناء".
النماذج الايجابية التي سلط شقير الاضواء عليها، وفتح الطرق والمسالك التي تفضي اليها، مشجعا القراء على الحذو حذوها من طرف خفي وبمهارة وذكاء الروائي، هذه النماذج كانت جزءا من المشهد ولم تكن المشهد كله. فقد تخلل هذه العملية اشتباك الروائي مع المسكوت عنه من ظلم واستبداد كان يحيق بالمرأة، وما يزال.
يقول محمد الموظف في المحكمة : "حين رحت اسجل في دفتري الخاص تفاصيل ما تبوح به النساء والرجال الراغبون في الطلاق اعتقدت انني سأكتب قصة طويلة مسلسلة أزلزل بها اركان مجتمعنا الابوي الذي يظلم النساء ويهينهن ويتنكر لحقوقهن ولكرامتهن. كنت اربط بين ظلم النساء وضياع البلاد، فلن نتمكن من تحرير البلاد ما دمنا نظلم النساء". ثم يقرر محمد ترك وظيفته احتجاجا، لانه لم يعد قادرا على رؤية بنات في الرابعة عشرة والخامسة عشرة يزوجهن اهلهن ويخرجوهن من المدارس بحجة ان مصير البنات الزواج والقعود في البيت. وفي معرض استعراض ثقافة المجتمع الذكوري الظالمة للمرأة والحاطة من كرامتها استعرض الروائي تقليدين بائسين الاول : " لا يوجد بنات في شجرة العائلة التي تعرف بالعائلات، لأن المجتمع الذكوري لا يعترف بوجودهن باعتبارهن ضلعا قاصرا وملحقات بالذكور كما هي الامتعة والمقتنيات. والثاني : نصيحة العريس ليلة الدخلة، " إقطع رأس القط من اللحظة الأولى وإلا فسوف تعيش عمرك كله وانت مذل مهان وسوف تتحكم فيك وتركبك". ويمضي في وصف -لا يخلو من تحريض-، ذلك العمل الوحشي الذي يتسبب في امراض نفسية دائمة للنساء.
النساء إذن مظلومات في العائلة والعشيرة والمجتمع الفلسطيني . ولا يمكن للمجتمع أن يتطور بمعزل عن إزاحة هذا الظلم التاريخي الذي يستند الى ثقافة رجعية محافظة تستقوي بتفسير القدماء لنصوص دينية، وترفض تفسير رجال الدين المتنورين الذين استبينوا العدالة والاخلاق والمساواة والتطور. ومن اهم إضاءات الرواية، الاشتباك مع الثقافة الرجعية بجرأة ووضوح لمصلحة ثقافة تقدمية، وربط التحرر الوطني من الاحتلال الكولونيالي بالتحرر الاجتماعي. اشتباك توقف للاسف منذ عقدين إلا ما ندر وقل كما فعلت هذه الرواية التي تعاود الاشتباك بجرأة وبصراحة.
اختم بما استعرضه الروائي من "رسالة ابن فضلان" : انكشف جزء من جسد زوجة رجل من الترك اثار استغراب الرحالة، فجاء رد زوجها : أن تكشف عنه وتحافظ عليه خير من أن تحجبه عن الانظار ثم تمكن الاخرين منه". رد بليغ يلخص هشاشة الشكل الذي يشغل الذكورة وعمق المضمون الذي لا يحرك فيها ساكنا.