عن النقاب سألوني



فاطمة ناعوت
2016 / 1 / 24

لماذا أؤيدُ حكم محكمة القضاء الإداري، الذي صدّق على قرار الدكتور جابر نصار ‏رئيس جامعة القاهرة، بحظر عضوات هيئة التدريس من ارتداء النقاب داخل المعامل البحثية ومراكز ‏التدريب العلمية لطلبة الدراسات العليا؟
ليس فقط لأن من حقّ الطالب أن يرى وجه مُعلّمه لحظة الدرس، وليس فقط لأن النقاب اليوم أصبح يُذكّرنا بفضيحة مرشد الإخوان حين اعتمر نقابًا ليتخفّى عن عيون الناس محتميًا في أثوابهن، وليس فقط لأنني أؤمن أن أقصى اليسار هو أقصى اليمين، كما تقول الفلسفة، وعليه فإن الإخفاء الكامل يشبه العرض الكامل من حيث أن كلا المرأتين ترى في نفسها مادة إغراء وغواية، فتختارُ إحداهما أن تعرضَ على الناس إغراءها الكامل، في حين تختار الأخرى أن تُخفي عن الناس إغراءها، وهذا منطقٌ مرفوض لأن المرأة عقلٌ وإرادةٌ وشخصية وإنسان كامل الأهلية، وليست مادةً لإغواء الشهوانيين. ليس لكل ما سبقـ وحسب، ولكن لأسباب أخرى مضافة، أودُّ توضيحها.
أفرحُ حين أصادفُ وجه طفل يضحك، أو سيدةً أنيقة، أو أشاهد بناية منظمة جميلة، أو شارعًا نظيفًا، أو أرمق شجرة مزهرة عند المفرق، أو أتأمل ظلالا كالدانتيللا رسمتها الشمسُ على الرصيف، أو أرفع عيني نحو السماء فأبصر غيمة تأتي على غير موعد لتُغلل وهج السماء. أفرح حين أقرأ كتابًا جميلا، أو أسمع أغنية عذبة، أو حين يُباغتني وجه امرأة صافيًا مشرقًا، وأحزن حين أصطدم بأبنية متنافرةٍ، وطرق لا انتظام فيها، وبشر يغلظون القول ولا يجيدون الكلام، أو يلبسون ما يزعج البصر والروح. أحزن أكثر حين أرى النساء يخفين وجوههن لأنهن يؤمن أنهن مفردات اقتناص للرجال؛ وفي هذا سوء ظن مزدوج بالنفس وبالآخر، في النفس باختصارها في محض "متاع" يخص الرجل، وفي الآخر باعتباره قناصًا ينتظر الفريسة.
أؤمنُ إيمانًا حاسمًا بحرية المرء في اختيار طرائق رسم مظهره، مثل إيماني بأن "الوجه" الإنساني هو بطاقة التعريف ID الربانية بالإنسان. لهذا فإن اعتمار المرأة النقاب لإخفاء وجهها أراه منطويًّا على مشكلتين محوريتيْن. الأولى أنه اعترافٌ صريحٌ ونهائيّ من قِبَل المرأة أنها إنما محض أداةُ استمتاعٍ للرجل، وفقط. وهذا أمر لا يُعدُّ اختصارًا لكيانها وحسب، بل هو ضربٌ من التحقير والتهميش لوجودها لا يقبله الله. "بيدها هي لا بيدِ عمرو". فضلا عن التناقض الجليّ بين أن تطالب النساءُ بالمساواة بالرجل وفي الوقت ذاته يرضين أن يستقين طرائق معيشتهن وأسلوب تعاطيهن لكلّ الأمور، حتى الملبس، من خلال منظور الرجل ومرجعياته. فالمطالبة بالنديّة تنطلق في الأساس من الخروج من عباءة الرجل على نحوٍ تام. لكن الشاهد أن المرأة ذاتها لم تكتفِ بأن ينظّم لها الرجل حياتها، بل تسعى راضية مرضية لأن ترتب أمورَها، حتى أدق التفاصيل، من خلال عينيّ الرجل. الثانية، أن وضع النقاب ينطوي على سوء ظنٍّ مُبيّت بالآخر الذكر. وكأن كل الرجال هم بالضرورة ذئابٌ بالفطرة، ينتظرون الصيدَ المطروح كي يسارعوا باقتناصه. لكن الشاهد أن نسبة المرضى من الرجال لا تختلف كثيرا عن نسبة النساء المريضات. إذْ لماذا نسّلم بأن لا نساءَ يرين في الرجال قنصا؟
-;---;-- والمشكلة الأخطر التي تنطوي عليها الفكرتان السابقتان هي إلغاء عنصري "الاختيار و الإرادة". اختيار وإرادة المرأة واختيار وإرادة الرجل على السواء. فسوء الظن بالنفس، وسوء الظن بالآخر، بينهما كليهما بديلٌ راق وجميل ومنطقي هو بمثابة الثالث المرفوع الذي تطرحه المرأةُ أرضًا حين تضع على وجهها نقابًا. هذا البديل هو حسن الظن بالنفس وبالآخر مادام عنصر الإرادة موجودًا. إرادة واختيار أن نخطئ، أو ألا نخطئ. فلا فضيلة تُخدش بغير إرادة الإنسان. ولا فضيلة تُحفظ بغير إرادة الإنسان. الفضيلة والعهر ليستا "شكلا" وزيًّا، بل عقلٌ وقرارٌ وإرادة وطريقة نظر إلى العالم. 
-;---;--إن إخفاء الوجه هو إخفاء لهوية المرء. الهوية الربانية التي منحها لنا الخالق، وليست تلك الهوية المدنية التي تهبها لنا الدولة في رقم وبطاقة وتعريف.
المرأة بالتأكيد هي أحد رموز الجمال في الحياة. ليس الجمال الحسي الساذج الرخيص، بل الجمال بالمعنى الفلسفيّ الأشمل والأرفع والأجلّ. مثلها مثل كلّ مفردات الحياة التي تكرس الاتزان النفسيّ وتعادل موضوعيا كل ما تنطوي عليه الحياة من قبح وعبث. مثلها مثل الوردة والنهر والغيمة و الخضرة والثلج والموسيقى والقيم الرفيعة والألوان والطفولة والخير والعدل.... إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الرموز التي تجعل لحياتنا مبررا مقبولا كي نواصل الطريق على صعوبتها ومرّها. قائمة المعطيات الجمالية التي وهبنا إياها الله كمنحةٍ لعيوننا وانتعاشنا البصري وما يزال ينهل منها الشعراء إذا ما أحبوا أن يكتبوا شيئا رفيعا وساميًّا. والمرأة ذاتها تدرك أنها معطى جماليّ على نحوٍ فطري. تدركه منذ طفولتها ودون معلّم، وفي هذا دليل على أن إدراكها هذا محض فطرة جبلها الله عليها بغير أن ينطوي فكرها على وجود الرجل أصلا. نجد الطفلة الصغيرة تطيل النظر إلى المرآة، ترتب شعرها وتنتقي شرائطَها الملونة وتعنى بفساتينها وتنسيق ألوانها. هذا الإحساس المجبول بأنها إحدى مفردات الجمال في الوجود، والبريء من نظرة الرجل تماما، يلازمها حين تغدو صبيّة وحين ستصبح امرأة. وهذا يفسر أن تجد المرأة، في المجتمعات التي تلتزم النقاب، تمعن في تجميل هاتين العينين وإبراز جمالهما بالكحل وأدوات الماكياج، بل وبالعدسات اللاصقة الملونة أحيانا. رغم أن لا شيء أجمل من وجه امرأةٍ بلا مساحيق. هي هنا تتحايل على القانون الذي يعسف الفطرة، وهي بكل يقين لا تفكر في أن تغدو جميلة في نظر رجل ما، بل هي تقدس جمالها وحسب، وتظهره للحياة. فهي نفسها الطفلة التي أطالت النظر إلى المرآة قبل أن تدرك أن ثمة ما يدعى رجلا. 
-;---;--كلنا يعرف أن كثيرًا من آيات القرآن الكريم نزلت في ظروف خاصة ولأسباب محددة وفق متطلبات مجتمعات لها ظروف وأعراف تناسبها تلك الآيات. نزل القرآن قبل وضع دساتيرَ وأحكامٍ وقوانينَ تحفظ حقوق الناس فكان هو بمثابة كل ذلك. وأما المجتمع المدني الذي سنّ قوانين وأعرافًا تحفظ للمواطن حقوقه، عطفًا على ما أسلفتُ حول الاختيار والإرادة، هي أمور كفيلة أن تُنجّي المرأة من المخاطر التي يظن البعض أن النقاب قد يحميها منها. وهل منعَ النقاب خطف النساء والتحرّش بهن؟ وهل منع النقاب بعض النساء أنفسهن من ارتكاب الأخطاء؟ قضية الفضيلة أوسع مما نرتدي أو نكشف. لأن الفضيلة تكمن في العقل والدماغ لا في عدد السنتيمترات التي نُظهر أو نخفي من أجسادنا.
-;---;--الحياة بالفعل مليئة بمفردات القبح الذي يستطيل ويتمدد كل يوم. القبح على المستويات المادية والمجردة. التلوث البصري والسمعي والأخلاقي والنفسي واللغوي والمعنوي والوجودي والسياسي، في مقابل مفردات قليلة من الجمال الذي ينحسر أيضًا بالتدريج وتباعًا حتى أوشكَ على الاختفاء. أنا كإنسان وكشاعرة وكامرأة أفرح بأيٍّ من القليل الجميل الذي أصادفه في يومي، وأعدّه ذخيرةً ومنحة تساعدني على مواصلة الحياة