حجاب أو لا حجاب، ذلك هو السؤال



علي شاكر
2016 / 1 / 31

مذ عرفت البشرية الغزل في العصر الحجري القديم وحتى عصرنا الذي يشهد تطورا غير مسبوق لصناعة النسيج، لا أعتقد أن قطعة لباس قد أثارت من الجدل ما أثارته ولا تزال تثيره القماشة التي تخفي بها (بعض) النساء المسلمات شعورهن والمسماة بالحجاب ... مثير للاهتمام أن يصبح غطاء رأس رمزا لقيم وممارسات انسانية عظيمة كالايمان والتقوى والعفة والتجرد، ويكون في نفس الوقت وعلى الجانب الآخر نموذجا للتعصب الديني والتمييز الجنسي وقسرية المعايير وازدواجها، الموضوع بلا شك جدير بالبحث والدراسة والتحليل وقد قيل وكتب عنه وفيه الكثير بالفعل
علي أن أعترف في البدء أني لست من أنصار الحجاب وأن سماعي نبأ تحجّب فتاة أو أمرأة أعرفها يصيبني بالضيق في كل مرة وهو عيب فيّ طالما حاولت معالجته دون جدوى ولذلك فقد قرّرت التعايش معه مع حرصي على ألّا أدع رأيي في الظاهرة يؤثر على حكمي على ذوات من يمارسنها وطريقة تعاملي معهن ... لكن، لماذا أكره الحجاب وأنا القادم من خلفية عربية مسلمة، ثم ما شأني أنا وقرارات الآخرين المتعلقة بمظهرهم الخارجي؟ ألا يناقض ذلك زعمي بمناصرة حرية المرأة وحقها في الاختيار؟ أسئلة كثيرا ما تراودني وتتركني في حيرة من أمري وان كنت أعتقد أن السبب الرئيسي وراء رفضي للحجاب يتعلق بسنوات حياتي في بغداد التي شهدت انهيارا اخلاقيا تزامن مع انتشار ارتدائه بين النساء
لم تكن في المدينة التي عشت فيها طفولتي ومراهقتي سوى قلة من النساء المحجبات، معظمهن كن من السيدات المتقدمات في العمر أو القرويات اللاتي ارتدينه كزي تقليدي ولم يكن يترددن في خلعه متى ما دعتهن الحاجة لذلك حتى أمام الأغراب من الرجال، لم تكن في مدرستي الابتدائية معلمة محجبة واحدة ولا أذكر وجود فتيات محجبات في حينا، معظم النساء كن يرتدين ملابسا قصيرة كاشفة للأذرع والسيقان والأجياد في الدوائر العامة والنوادي والجامعات، يدرسن ويعملن ويسافرن ويقدن سياراتهن دون أن يتعرضن للمضايقة أو التحرش من أحد ... حزب البعث الاشتراكي الحاكم حينها كان يجاهر بعدائه للتديّن والمتدينين حتى أن رجال الأمن كثيرا ما لاحقوا المصلين في الجوامع (الشباب منهم تحديدا) كي يستجوبونهم عن دوافع التزامهم وانتهى المطاف بالفعل ببعضهم الى دخول غياهب السجن لذلك السبب تحديدا
كل شيء تغير عندما قرر صدام حسين بذكائه المعهود وبعد أن خسر الرهان على احتفاظه بالكويت التي غزاها بعد انتهاء حربه مع ايران أن يلعب ورقة الدين فقامت زوجته بارتداء الحجاب وتبعتها جموع الرفيقات البعثيات، رافق ذلك بث مكثّف لبرامج الوعظ والفتاوى على شاشات التلفزة مع بناء سلسلة من المساجد الباذخة في الوقت الذي كان الأطفال العراقيون يموتون فيه بالعشرات والمئات يوميا بسبب الفقر والجوع والمرض، الخطة نجحت بالفعل وأبقت الرئيس على سدة الحكم لعشر سنوات اضافية لكنها غيّرت وجه الحياة الاجتماعية في العراق وأذكت النزاعات الدينية والطائفية التي لا تزال تداعياتها الكارثية مستمرة حتى اللحظة ... عندما قررت مغادرة العراق في عام 2006 لم تكن هنالك سيدة أو فتاة واحدة غير محجبة على متن الطائرة التي أقلتني الى مطار الملكة علياء في الأردن، التحجب أمسى القاعدة السائدة فيما عُدّ ما سواها استثناءا ممقوتا ومستوجبا للاستنكار واللعن
لكن من الخطأ أن نلقي باللوم كله على قيادة سياسية بعينها في بلد بعينه في شيوع ظاهرة التحجّب خلال العقود الأخيرة فالموضوع أوسع وأعقد من ذلك بكثير وأعمق، هو محصلة لتراكمات عدة وأحداث وتغيرات شهدها العالمان العربي والاسلامي ابتدأت بالثورة التي اندلعت في ايران وحملت رجال الدين الى قمة السلطة فيها وما تبع ذلك من فرض قسري لمعايير معينة تتعلق بلباس المرأة ومظهرها، كذلك الاجتياح السوفييتي لأفغانستان الذي دفع بالرأسمالية الغربية الى تغذية الأصولية الاسلامية وتمويلها وتسليحها للوقوف بوجهه، ومن قبلهما قيام الرئيس المصري الراحل أنور السادات بالتحالف مع القوى الدينية لتقوية دعائم حكمه (وهو ما أسفر لاحقا عن اغتياله بأيدي ذات الجماعات بعد توقيعه لاتفاقية السلام مع اسرائيل) تزامن ذلك كله مع هجرة العمالة المصرية بأعداد غير مسبوقة الى دول الخليج الثرية وتأثّرها بالفكر الديني المتزمت فيها وممارساته المُضطهِدة للنساء ثم عودتها الى بلدها الأم لتفرض تلك القيم على المشهد المجتمعي فيه وانعكاس ذلك بالتبعية على الكثير من المجتمعات العربية الأخرى بحكم أهمية مصر الجغرافية والديموغرافية وثقلها التأريخي ونفوذها الثقافي الشامل لمجمل العالم العربي والاسلامي (لوجود جامعة الأزهر فيها التي يؤمها دارسو العلوم الاسلامية من شتى أنحاء العالم) كما لا يمكن نكران الدور الذي لعبته لاحقا برامج الدعاة الشباب التي اجتاحت القنوات الفضائية العربية (المملوكة منها أو المموّلة من رأس المال الخليجي) والتي صارت لرموزها شعبية جارفة بين الشباب من الجنسين فاقت في تأثيرها سلطتي الفن والسياسة معا وأسهمت في انتشار هائل لظاهرة التحجّب بين الفتيات
سنوات دراستي العمارة في جامعة بغداد في بدايات تسعينيات القرن الماضي شهدت تزايدا ملحوظا لعدد الزميلات اللاتي شرعن بارتداء الحجاب الذي أضحى ميزة تفضيلية (وأحيانا شرطا) عند اختيار الشبّان لشريكات حياتهم المستقبليات، لكن مفهوم الحجاب وطبيعته تغيرا فلم يعد غطاءا بسيطا مسطحا للرأس، صارت له ألوان وأحجام واكسسوارات مختلفة ... أذكر أني وخلال توقفي في مطار خليجي قبل سنوات، أستوقفني مظهر أحدى السيدات المحجبات التي تعاطفت معها في البدء ظنا مني بأنها تعاني من ورم في الدماغ قبل أن أدرك أن الحجم الهائل لقمة ومؤخرة رأسها سببه تقليعة جديدة في طريقة تغطية الفتيات الخليجيات لشعورهن!
لا يخفى على مراقب أن النقاب والحجاب مع مفردات الزي "الاسلامي" الأخرى تشكّل اليوم صناعة وتجارة رائجة واستثمارات هائلة تمتد على قارات عدة، وكما هو شأن المال دائما في استتباعه للنفوذ والسلطة والتأثير على الرأي العام صارت للحجاب منظومة دعائية تروّج له بل وتدافع عنه بشراسة، جسّد ذلك رد فعل وسائل الاعلام الهستيري الأخير لدعوة رجل مستنير هو شريف الشوباشي للنساء بخلع الحجاب والتحرر من القمع الذكوري والمجتمعي لهن باسم الدين ... كالوحوش المفترسة انقض المذيعون المصريون والعرب على الشوباشي وأشبعوه سبا واهانة في برامجهم الحوارية رغم حقيقة أن المؤسسات التي يعملون فيها لا تزال تتغنّى وتفخر برائدات النهضة النسوية كهدى الشعراوي وسواها من دعاة الاصلاح الاجتماعي في مطلع ومنتصف القرن العشرين في مصر كقاسم أمين
على صعيد آخر، أثارت صور قديمة بالأبيض والأسود تم تداولها مؤخرا على مواقع التواصل الاجتماعي لاعلام من رجال الدين وقارئي القرآن مع أسرهم تُظهِر زوجاتهم وبناتهم سافرات بلا غطاء رأس أو وجه موجة من التساؤلات عن الحجاب والنقاب وهل هما فريضة دينية أم مظهرا وافرازا لتسييس الدين خلال العقود الأخيرة، مثل تلك الأسئلة كانت تعد الى زمن قريب هرطقة تجلب لمن يتفوه بها اللعنات وأحكام التكفير لكن العالم قد تغير كثيرا بفعل ثورة الاتصالات ولم يعد منطقيا أو ممكنا حتى الحجر التام على الأفواه وتداول الأفكار كما كان الأمر من قبل ... ذات السؤال عن جذور الظاهرة كنت قد حاولت الاجابة عليه خلال تناولي لانتشار الحجاب في كتابي A Muslim on the Bridge الذي ضمّنته شهادتي عن مشهد مجتمعي تحوّل من العلمانية (النسبية) الى التعصّب الطائفي والقبلي وعن التحديات الكثيرة التي يواجهها المسلم المعاصر في داخل العالم العربي وخارجه
البحث الذي أجريته قادني الى استنتاج لا يخفى على كثيرين اليوم، مفاده أن غطاء الرأس للنساء كان شائعا بين حضارات بلاد الرافدين الوثنية القديمة كمظهر ذي دلالة دينية أولا (ذكرت بعض الأساطير أن عشتار كانت تتلفّع بسبع طبقات من الحجب قامت بالتجرّد منها تباعا خلال نزولها الى العالم السفلي بحثا عن تموز وأوحت رحلتها تلك برقصة مغوية كانت تؤديها الكاهنات في المعابد البابلية كطقس مقدّس) وللتمييز بين النساء الأحرار وسواهن من البغايا والجواري ثانيا ... انتقل الحجاب بعدها عن طريق السبي لليهودية التي جعلته مظهرا مُلزِما للنساء ومنها الى المسيحية التي لا تزال تفرضه على بعض الراهبات (خصوصا من أتباع الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية) قبل أن ينتهي المطاف به رمزا للفتيات والسيدات المسلمات بل واختصر به بعض الغربيين العقيدة الاسلامية وهي بلا شك رؤية ساذجة تفتقر للعمق والموضوعية معا
كما ذكرت في البداية، من الضروري في هذه المرحلة أن تتم دراسة لدوافع اقدام المرأة المسلمة على ارتداء الحجاب، هل هو خضوع للسائد المألوف أم استجابة لضغط أسري أم وسيلة تعبير شخصية عن هوية وفكر وانتماء؟ أو لعله مزايدة على معايير مجتمعية مُجحِفة بحق المرأة لتحقيق رفعة لها في ظل ندرة (أو انعدام) فرص التميز للنساء ... لست مختصا في علم النفس أو الاجتماع كي أصدر أحكاما قاطعة حول الموضوع لكنني (شأني شأن الكثيرين من أبناء جيلي) أراقب المشهد وأتساءل عن أخلاقية تصرفات بعض المحجبات من رفضهن مصافحة الرجال أو الحديث معهم وملامح الازدراء التي تعلو وجوه بعضهن لمشهد النساء السافرات وتعديهن عليهن باللفظ أحيانا أو ممارسة الضغوط عليهن كي "يحتشمن" عن طريق ترهيبهن بعذاب القبر والحريق المحتوم في جهنم، ألاحظ أيضا ميل بعض المحجبات للركون الى نظرية المؤامرة ولعب دور الضحية التي تعاني الظلم والاضطهاد بسبب مظهرها المحافظ وكأن المفروض أن تتم مكافئتها عليه، بينما تتحوّل فئة أخرى وبمجرد ارتدائها للحجاب الى مرجع وسلطة تعظ وتفتي في شؤون الدين والدنيا، تحلل هذا وتحرّم ذاك وتوزع اللعنات أو صكوك الغفران حسب مشيئتها ومزاجها
أخشى كذلك أن ترديد كثرة من المسلمات اليوم لشعارات وعبارات مثل "حجابي حياتي" (جنتي، عفتي، نقائي، كرامتي، كبريائي، سر جمالي ... الخ) هو في جوهره عودة بغطاء الشعر الى رمزيته وممارسته الوثنية والطبقية الأولى عن طريق الترويج (المباشر وغير المباشر) لمفهوم أن النساء الأخريات بلا دين أو عفة أو أخلاق أو ضمير أو كرامة، بعبارة أخرى هن كالجواري والاماء في بلاد بابل وآشور القديمة ... في الوقت الذي يعد فيه مثل ذلك التوجه مقبولا في كثرة من المجتمعات العربية، أفرزت أعاصير ما سُمي في بدايته ب "الربيع العربي" وما نتج عنها من نزوح هائل للمهاجرين واللاجئين المسلمين نحو الغرب تحديات كثيرة منها أن المحيط الجديد ربما يتقبّل (على مضض) حجاب المرأة المسلمة ولا يمارس الاضطهاد ضدها بسببه، لكنه غير مستعد على الاطلاق لمنحها أية امتيازات على أساس معتقدها الديني وطقوسه ومظهره، بل انه يعتبر امتناعها عن مصافحة يد ممدودة نحوها للتحية بحجة تعارض ذلك مع ارتدائها لغطاء الرأس أمرا مُستنكرا ومفتقدا للذوق واللياقة
كثيرا ما تتداول وسائل الاعلام الغربية أخبار تعرض فتيات وسيدات مسلمات لمضايقات وأحيانا اعتداءات صريحة (لفظية أو جسدية) متعلقة بارتدائهن الحجاب أو النقاب كرد فعل غاضب على جرائم ارهابية لم يرتكبنها أو يكن طرفا فيها أو يؤيدنها حتى، وهو بلا شك أمر مُجحِف وغير مقبول وان لم يكن فريدا فقليلة هي الأمثلة في تأريخ البشرية التي استطاعت الشعوب فيها أن تقابل العنف الموجّه ضدها بحكمة وتعقّل ... نتيجة لتلك الاعتداءات اضطرت بعض المسلمات المهاجرات للاستغناء تماما (أو مؤقتا) عن غطاء الرأس طلبا للسلامة فيما قامت فئة أخرى بالتحايل على الأمر بارتداء قبعات ذات أشكال وأحجام مختلفة درءا للشبهة، الأمر الذي طرح المزيد من التساؤلات عن الحجاب ودلالته ومدى مواءمته مع العصر
لا أعتقد أن رجال الدين المسلمين يمتلكون الشجاعة (أو النية) لمراجعة أحكام فرض غطاء الرأس على النساء ولا سواه من الأمور الفقهية المثيرة للجدل، لن يبادروا بالاصلاح فذلك سيتسبّب بتجريدهم من سلطانهم على جمهور المؤمنين وتهميشهم ... الكرة الآن في ملعب كل فرد مسلم معاصر كي يفكّر مليا في شؤونه ويتدبّر ويختار بين الخضوع للعرف السائد (وان تعارض مع حكم العقل والمنطق) ومواجهته والثورة عليه وهي بالتأكيد مهمة دقيقة حرجة تتطلّب الكثير من الوعي والجرأة