لا علمانية ولا مدنية بعيداً عن تمكين المرأة قانونياً



إيمان أحمد ونوس
2016 / 2 / 15



في مقاله لجريدة النور العدد/707/ حملت عنوان(في العام السبعين للاستقلال مازالت الأولوية للمسألة الوطنية) ذكر الأستاذ صريح البني في فقرة مدنية وعلمانية غير مكتملتين ما يلي:
((نشأت سورية دولةً نصف مدنيةً علمانيةً، ضمن ما سمحت به ظروف الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، أي دون القدرة على تطبيق مبدأ المساواة الشاملة بين المواطنين، كركيزة للدولة المدنية. يظهر الظلم الاجتماعي، بأبرز صوره، في التمييز المستمر بين المرأة والرجل، في مسائل الإرث والزواج وغيرهِما. إن إحدى أكبر عيوب تطورنا، منذ الاستقلال، هو ضعف اهتمام القوى السياسية بهذه المسألة المركزية. وحتى الآن ليس هناك حركةٌ مجتمعية سياسية واحدة تعدُّ هذه المسألة هدفاً برنامجياً أساسياً لها، مما يجعل الحالة المجتمعية السورية رجعيةً، في أحد مفاصلها.
ربما لو انتبهنا، باكراً، إلى أن أهم ما يُسهم في تقدم مجتمعنا هو تحرر المرأة، لانجذبت قوى أكبر إلى عملية المقاومة المطلوبة لظاهرة داعش الإرهابية الكارثية.
بيد أن الخروج عن مفاهيم مثل:(الحاكمية لله) و(الإسلام دين ودولة) و(الدستور هو القرآن)، وكذلك (طاعة أولي الأمر).. الخ، كان إيذاناً بأن جزءاً طليعياً من المنطقة العربية وجوارها يمكن أن يذهبَ إلى الفصل بين الدين والدولة والسياسة.))
آثرت أن تكون الفقرة كاملة باعتبارها تسلّط الضوء على سر ما ابتلي به المجتمع عامة، والمرأة خاصة.
بالتأكيد، لا يمكن لأيٍّ من المجتمعات البشرية المقيّدة إلى تشريعات سُنّت في زمن غابر، والمتشبثة بتلك التشريعات دستوراً ينظم حياة أفرادها أن ترتقي بالإنسان مهما امتلكت من أدوات ووسائل التطور.
فالتشريعات المختلفة ابتداءً بالدستور الذي يُعد الأب لمختلف التشريعات اللاحقة، وانتهاءً بأصغرها، هي من تحدد ماهية المجتمع ومستوى تطوره الحضاري، لاسيما تلك التي تمنح الأفراد حقوقاً وواجبات متساوية، وكذلك التي تعتمد العقل والعلم أساساً في تعاملها وتعاطيها مع المجتمع، أي التشريعات المدنية المستنبطة من تطور الحياة والإنسان.
ومن المؤكّد أن الأحزاب والتنظيمات لاسيما اليسارية منها قد حملت لواء قضية المرأة وتحررها منذ النصف الأول من القرن العشرين، فأدرجت تلك القضية في برامجها بوصفها أولوية يجب العمل عليها.
كما كانت من أهم القضايا التي نالت اهتمام الحكومات العربية الوطنية بعد إنجاز الاستقلال، فأفردت لها مكانة خاصة في سياساتها من الناحية النظرية.
فقد جاء في برنامج الحزب الشيوعي السوري عام 1931(وهو من أقدم الأحزاب السورية) ما يلي:
1ـ تحرير المرأة السورية تحريراً تاماً.
2ـ المساواة بين الرجل والمرأة في التشريع الاجتماعي والسياسي.
كما جاء في دستور حزب البعث عام 1947:
المادة 12 ـ تتمتع المرأة العربية بحقوق المواطن كلها. والحزب يناضل في سبيل رفع مستوى المرأة حتى تصبح جديرة بتمتعها بهذه الحقوق.
نتلمس مما ورد في الوثيقتين أعلاه مدى اهتمام هذه الأحزاب بداية نشوئها بقضايا المرأة وضرورة مساواتها بالرجل، لكن علينا الانتباه أن هذه البرامج جاءت عامة وشعاراتية أكثر منها عملية تتصدى للواقع سواء حينها أم فيما بعد، ولننتبه أيضاً لما ورد في الفقرة/2/ من برنامج الحزب الشيوعي الذي نصّ على المساواة في التشريع الاجتماعي والسياسي دون تحديد وتوضيح ماهية هذه التشريعات، مبتعداً بقصد أو بدون قصد عن التشريعات القانونية المستند بعضها إلى التشريع الاسلامي(قانون الأحوال الشخصية)، وإلى التشريع الفرنسي في باقي القوانين الأخرى التي تخلت عنها فرنسا ذاتها لاحقاً في مجتمعها، بمعنى ابتعاده عمّا له صلة بالدين رغم أنه حزب يساري- علماني، وكذلك البعث.
وكان، وما يزال واضحاً أن الذهنية الذكورية- الأبوية هي الحاضرة أبداً في التعامل مع المرأة وقضاياها في كافة الأحزاب السياسية، وإن كانت بنسب ورؤية مختلفة ما بين هذا الحزب أو ذاك. فالحزب الشيوعي السوري كان على مدار تاريخه داعماً ومؤيداً للمرأة، وداعياً باستمرار لرفع الظلم والتمييز عنها، لكن لم تكن هناك جدية حقيقية وراسخة تعتبر قضية المرأة أولوية في مسيرة النضال، بسبب وجود أولويات وقضايا تتعلق إما بالدفاع عن استقلال الوطن، أو قضايا الاقتصاد والخصخصة أو أي أمر آخر، وهذا برأيي نابع أولاً وأخيراً من موروث قيمي متشبث بتلابيب التفكير والتعامل تجاه المرأة بلا مبالاة دون قصد الإساءة لها، رغم أنه لا يمكننا التنكّر للجهود العظيمة التي قامت بها رابطة النساء السوريات، والتي كانت تتلقى الدعم والتأييد من قيادة الحزب في مختلف نشاطاتها وعملها، سواء في التصدي للعديد من التشريعات التمييزية ضدّ المرأة كمسألة الحضانة وقانون الجنسية وجرائم الشرف وسواها من قضايا نجحت الرابطة في الوصول إلى بغيتها ولو كانت ضئيلة. لكن هذا الوضع ما كان ليتم لولا تبني النساء أنفسهن تلك المسائل، وهنا المسألة الجوهرية التي نقف عندها، بمعنى ضرورة تبني قيادة الحزب لتلك القضايا بجعلها أولوية وضرورة في برامجه وأنشطته سواء مع الحكومة أم في المجتمع مثلها مثل باقي القضايا الحسّاسة التي تصدى لها في المواقع المذكورة وكان له حضوراً مؤثراً وضاغطاً.
أما موقف حزب البعث، فكان شبيهاً إلى حدٍّ ما بموقف الحزب الشيوعي، لاسيما في مراحل عمره الأولى. لكن ما إن تسلّم مقاليد الحكم، حتى باتت قضية المرأة مجرد شعارات رنّانة تعطيه بعض الألق كحزب يعتبر نفسه علمانياً حتى اليوم..!!!، فمن جهة اعتمد على الكم مقابل النوع في اختيار أعضائه والمنتسبين إليه، حيث تدفقت حشود كبيرة للانضمام لصفوفه ومن ضمنها النساء بغية الحصول على عمل أو دراسة.
ومن جهة أخرى اتخذ من مبدأ الكوتا(المحاصصة) سياسة وواجهة لوجود المرأة سواء في قيادته أو في مفاصل الإدارات والمؤسسات الرسمية، حيث وصلت نساء إلى مواقع إدارية وقيادية غالبيتهن غير مؤهلات لا علمياً ولا فكرياً لتبني قضايا المرأة، حتى بعض من تسلمن قيادة الاتحاد النسائي.
ولا يفوتنا أن إصرار البعث الحاكم على المحافظة الرصينة على علاقة وطيدة مع رجال الدين جعلت من قضايا المرأة تحديداً تلك الجزرة التي تتمايل تارة باتجاه الدين وتارة باتجاه القوى العلمانية واليسارية، في محاولة سافرة لكسب المواقف والتأييد التي جعلت الاعلام الرسمي يُفرد مساحة ليست قليلة للبرامج الدينية، ونقل صلاة وخطبة يوم الجمعة، وتكثيف هذا الاهتمام الاعلامي في المناسبات الدينية الأخرى على مدار السنة، إضافة للسماح للناس بالتجمهر والاحتشاد في الجوامع وخارجها لتأدية الصلاة يوم الجمعة بشكل لافت، في الوقت لا يُسمح فيه بالتجمهر وفق قانون الطوارئ، وفي الوقت الذي كان وما يزال يتمُّ تهميش عمل وأنشطة الأحزاب السياسية بما فيها أحزاب الجبهة ويمنعها من الاحتشاد بلا ترخيص، وكذلك التعتيم على أنشطتها أو منعها وتجميدها في أفضل الأحوال كما جرى مع رابطة النساء السوريات والمبادرة الاجتماعية خلال تبنيهما لمسألة رفع سن الحضانة وتعديل قانوني الأحوال الشخصية والجنسية. وإذا ما بقينا في رحاب حزب البعث الذي يهيمن على الحياة السياسية في البلاد، لا يمكننا إغفال تحفظ حكومته على أهم بنود اتفاقية السيداو التي تجعل المرأة مساوية للرجل في الحقوق والواجبات كما نص الدستور تماماً في المادة/45/:
((تكفل الدولة للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وتعمل على إزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع العربي الاشتراكي.))
وفي هذا تناقض خطير، ومحاباة علنية لرجال الدين والأصولية الدينية، أشدّ ما ظهر جلياً وفاضحاً أثناء إصدار مسودتي مشروع لقانون الأحوال الشخصية في العام/2009/ بصيغة أعادت النساء إلى حظائر التخلف والعبودية أكثر مما هو واقع حالياً، وكذلك الرفض المستمر لمجلس الشعب لمناقشة تعديل قانوني الجنسية والأحوال الشخصية، إضافة إلى تعتيم الحكومة وطيّها ملف ما أسفرت عنه أعمال اللجنة التي كُلفت بدراسة القوانين التمييزية ضدّ المرأة بغية تعديلها. وأيضاً الأمر الأكثر خطورة اليوم هو تصريح محمود المعراوي القاضي الشرعي الأول في دمشق أن الزواج المدني هو زواج باطل حكمه حكم الزنى، وذلك خلال لقائه مع صحيفة الوطن السورية بتاريخ 27/1/2016، وبالتأكيد في هذا رسالة واضحة وخطيرة للعلمانية والمدنية المرتقبة والمنشودة في سوريا.
وإذا ما أردنا الاسترسال في هذه المواضيع والعوائق والعراقيل التي وُضِعت في طريق نهوض وتحرر المرأة من قبل الأحزاب التي لم تعطها حقها، ومن قبل الحزب الحاكم الذي ادعى العلمانية وما يزال، فإننا سنحتاج إلى العديد من المقالات والبحوث، رغم أننا تناولناها جميعها فيما مضى. لكننا سنكتفي بما طرحنا فقط كي نؤكّد صوابية ما طرحه الأستاذ صريح البني في مقاله المذكور، ومن أن هذه الأحزاب قد تراخت وابتعدت عن تلبية طموحات المرأة باعتبارها مواطناً كامل الحقوق والواجبات، مع التأكيد على أنه ما لم يتمّ تمكين المرأة قانونياً من خلال تعديل أو إلغاء القوانين التمييزية ضدّ المرأة، وما لم يتم رفع التحفظات التي اغتالت اتفاقية السيداو في سوريا، لا يمكن للمرأة مهما تمّ تمكينها اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً ان تنهض من تحت ركام القهر والتمييز والعنف ضدها، وبالتالي لا يمكن للمجتمع برمته النهوض من تحت سنابك وأنقاض التخلف والتقهقر على مختلف المستويات، لاسيما في هذه المرحلة الخطيرة والكارثية من عمر سوريا والسوريين عموماً والمرأة خصوصاً، وهم في خضمّ حرب شرسة ومجنونة بكل المقاييس أول ما ألقت بأعبائها ومآسيها وتبعاتها الفظيعة على النساء اللواتي تصدين وما زلن بكل صبر وشموخ لها رغم الجراح والحزن والأسى الذي استوطن ارواحهن.