نحو فهم جديد لوضع المرأة



قاسم علي فنجان
2016 / 2 / 29

تساهم النشاطات التربوية التي يتلقاها الفرد عادة من مختلف المؤسسات (عائلة, مدرسة, دور عبادة, جامعة, سجن, وسائل أعلام...الخ)، في تبني وجهة نظر أو رؤية أو فكر أو ممارسة معينة, هذه النشاطات التربوية التثقيفية الموجهة -وهي دائما موجهة- تعمل على أعادة أنتاج علاقات محددة تفيد أو تأبد سيطرة مفهوم معين على آخر, أو ترسخ دلالات معينة لتشكل صورة ثابتة عن المجتمع أو عن جزء منه. والنشاطات التربوية هذه أذا لم تستطع أن تفرضها القوى المسيطرة والمهيمنة على المجتمع بشكل قناعات فأنها تلجأ إلى وسائل الإكراه والقوة والعنف, لأن النشاط التربوي (كل نشاط) يقع على عاتقه تأمين انتقال ألإرث الثقافي من جيل إلى آخر.
وسنأتي بأمثلة لتأكيد هذه الموضوعة, فلو نظرنا إلى قضية حجاب المرأة فأن كل النظام التربوي وبجميع مؤسساته مستنفر دائما لهذه القضية, وهذا النظام يقبل مثلا أن تلبس المرأة البنطلون أو التنورة القصيرة أو القميص الخفيف, لكنه يقف بالضد من فكرة نزع الحجاب, ولا يمكن أن يتهاون معها بأي شكل من الأشكال, لأن الحجاب يشكل قيمة رمزية للسيطرة على المرأة ويؤكد خضوعها وهيمنة الرجل الذكورية عليها.
المثال الثاني ما نشاهده من إعلانات تلفزيونية تروج للمنظفات فأنك دائما ترى من يقوم بالإعلان امرأة تقف بجوار الغسالة وهي تحمل ملابس الرجل, وهذه رؤية مباشرة عن ما يجب على المرأة أن تعمله.
المثال الثالث مشاهدة أفلام كارتون -أي كارتون- (كتوم وجيري مثلا) فالطفل يشاهد المرأة الخادمة ومن الأصول الأفريقية وهي تحارب لطرد الفأر من البيت بأسلوب شيق ومضحك للأطفال, هذا المشهد الكارتوني يرسخ لدى الطفل ثلاثة إشكاليات يريد تأبيدها الأول جلوس المرأة في البيت, والثاني وضع المرأة كخادمة, والثالث الخادمة يجب أن تكون من اصول افريقية, طبعا نستطيع أن نمضي بتعداد الأمثلة التي تؤكد على عمليات الفرض للرؤى والممارسات التي تفعلها القوى المسيطرة على المجتمع، من خلال توجيه النشاطات التربوية والتثقيفية الداعمة لهذه السيطرة، وبهذا فقط تستطيع هذه القوى أيضا أن تؤمن انتقال كل الإرث الثقافي من جيل إلى آخر, هذا الترسيخ لهكذا مفاهيم ينغرس فيما يسميه الانثربولوجيين بمفهوم "اللاوعي الثقافي" الذي يقود بديهيا إلى تأبيدها, فالإيمان الديني لدى البشر مثلا والذي هو واحد من اعتى مؤسسات التوجيه أن لم يكن أقواها، يعد خضوع المرأة موهوبا من الله أو بأحسن الأحوال طبيعيا ولا حاجة للتشكيك بهذه الهبة, والقائمين على التاريخ الديني يدونون في أساطيرهم وكتبهم "المقدسة" ما يريدون تأبيده من سيطرة الرجل وتفوقه، وهم في هذا يخدمون غايات وأهداف سياسية واجتماعية واقتصادية.
أن التفكير الديني يروي عبر الأساطير التي نسجها قصة الخلق وكيف أن المرأة خلقت من أحد أجزاء الرجل وبالتالي هي لاحق "موضوع", وفي هذه الموضوعة بالذات يقف جوهر هذا الفكر, فالله لم يتحدث مع النساء على مر التاريخ الديني, لأنه في لاوعي المتدين هو "ذكر", ويتفق مع نسق الأفكار هذه كل الأنظمة الإيديولوجية الخاضعة لأنماط معينة من الإنتاج, هذه المرجعيات الفكرية هي في عمل دائم ومتواصل، لإعادة أنتاج العلاقة بين المرأة والرجل على أساس تفوق أحدهم واحتكار هيمنته على أنتاج الثقافة والنشاط التربوي, أذن هناك استعدادات مسبقة ينشأ عليها الفرد وهي التي تولد ممارسات تؤكد وترسخ فكرة دونية المرأة.
لكن هل نستطيع أن نغير من رؤى المجتمع أو نجعله يعيد التفكير في هذه الأوهام, ونقول له أنها نتاج عمل تاريخي طويل وليست محمولة على الجينات كما كان يظن بعض فلاسفة اليونان وأطبائهم، (أبقراط كان يعتقد أن بذورا قوية من الرجل وبذورا قوية من المرأة تنتج مولودا "صبيا", أما ولادة البنت فمن تلاقي بذور ضعيفة من الرجل مع بذور ضعيفة من المرأة).
أن الثقافة وفي أشهر تعريف لها والذي قال به إدوارد تايلور هي "ذلك الكم المعقد من القيم والمعتقدات والفنون والقوانين والعادات, مضيفا أليها اللغة طبعا", ولو نظرنا إلى ما ترسخه أي زاوية من هذا المجموع المعقد على قضية المرأة لوجدنا أنها -الثقافة ككل-، تعمل باستمرار لفرض الرؤى والأفكار عن دونية المرأة, فمنذ اللحظة التي تسيد فيها الرجل وبدأ بإنتاج معاييره ورمزياته التي كفلت, شكلت, أسست له السلطة, هذه الثقافة صارت أو تحولت إلى طبع عبر سلوكيات ورؤية المرأة لذاتها على أنها كائن "ناقص" غير قادر على أدارة شؤون حياته, كائن محتاج إلى الأخر, وأن ترسيخ هذا الطبع يجري عبر آليات مجمل النشاط التربوي منذ الولادة -تربية الولد تختلف عن البنت- إلى كافة مراحل الدراسة ثم إلى العمل وتقسيماته, حتى مراسم الدفن وطقوسه -في مجتمعنا- المرأة لا يبكي عليها الرجال, ولا يمشون في جنازتها, ولا يرفع علم العشيرة عند موتها. هذه الآليات في اشتغال دائم في كل المؤسسات التي تبث التربية ويقف على رأس مؤسسات التوجيه هذه (العائلة)، التي تبقى هي الحارس الرئيس لهذه الأفكار والقيم "الرأسمال الرمزي"، ويبقى لها الدور الأساسي في أعادة أنتاج هذه القيم وبالتالي سيطرة ذكوريه مطلقه.
لكننا نستطيع أن نرسم صورة جديد ونؤكد على بطلان هذه الأفكار وبأنها أوهام خلقتها وساهمت في صنعها القوى المسيطرة على مر التاريخ البشري, هذه الصورة أو الفهم الجديد برزت خطوطه من خلال الدراسات والمكتشفات الأثرية والأنثربولوجية الجديدة, وسنتلمس خطواتها بشكل جدا مقتضب, ونعرف -قدر المستطاع- من خلال هذه الصورة كيف بدأ الخضوع النسوي للرجل.
قبل أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون سنه أنفصل كائن عن قطيعه مطورا جهازه العصبي المركزي بقامة منتصبة وإبهام يد متطور لمسك الأشياء, كانت هذه الفترة من حياته تعتبر مرحلة انتقالية, عرًف عن نفسه هذا الكائن عندما شرع بإنتاج أدوات لحمايته وبقاءه, بدأ يبحث عن أشباهه لأنه لا يستطيع أن يعيش منفردا, تجمعوا في كهوف لتحميهم من المفترسات, جمعوا الغذاء -لم يكن هناك بعد تقسيم عمل- تجانسوا- لم يكن هناك فهم للهيمنة كما اليوم "فوق - تحت", الأدوات التي استعملها لم تشر إلى من صنعها "ذكر - أنثى" ورسوم الجدران الغامضة التي تركها هي أيضا لا نستطيع تحديد هوية مبدعها, لم تكن الفروق الجنسية تشكل عائق أمامهم, لم يكن الحمل والطمث وشكل الجسم كحالات ضعف, وفي مرحلة ما من هذا التاريخ الطويل للجنس البشري, وعندما كانت الأنثى تضع مولودها الذي يختلف عن بقية الرئيسيات بأنه يولد "عاري", فكان بحاجة إلى الدفء, ولأن طفولة الجنس البشري طويلة في بيئة لا يمكن لها إلا أن تكون قاسية, فقد اضطرت الأمهات إلى ضم الوليد لأجسامهن لتدفئته وتغذيته, لأنه متكل عليهن بالكامل, ولأن التطور هو سمة البشرية فقد انتقلت هذه المجموعة من البحث عن الطعام وجمعه إلى جنيه, ومن هنا يبدأ الانفصال التاريخي, فالرجال واصلوا البحث عن الطعام, بينما النساء واصلن حماية وتغذية الأطفال, ويبدأ الشكل الجنيني الأولي لتقسيم العمل, من هنا تدخل الثقافة على الطبيعة, والذي سيأخذها الرجل كميزة يعمل على تأبيدها, كعبد وخادم وعامل مجاني, هناك قصيدة صينية تقول:
(ما أحزن أن يكون الإنسان امرأة, فليس في الدنيا ما يحتقر مثلها, يقف الصبيان عند الباب كآلهة نزلوا من السماء, قلوبهم تعانق المحيطات الأربعة.. والريح والأرض على بعد ألاف الأميال, لكن ولادة البنت لا تسعد أحدا, والأسرة تعاملها معاملة الكمية المهملة).