المرأة حارسة الحياة



حمدى عبد العزيز
2016 / 3 / 12

أول مخلوق عرفته هو أمي
المرأة الريفية (نسيمة أحمد قطب دويدار)
وهي عرفتني كأول مولود انجبته

كان فارق السن بيننا لم يكن كبيراً لدرجة أنها عندما كانت تأتي إلى مدرسة الميثاق الوطني الإبتدائية الكائنة بمنطقة إمبابة لعمل إجراءات الإحالة للوحدة الصحية التي كنت دائم التردد عليها لإصابتي بمرض ظل معي طوال سنوات طفولتي أسمه ( السعال الديكي) كان الجميع يسألونها
- اخوكي ؟
ويسألونني
- أختك؟

أمي تزوجت كريفية بنظام ( التسنين) أي أن طبيب الوحدة الصحية في القرية يحدد سنها ويعطيها شهادة (تسنين) تعني أنها ناضجة للزواج يعتمدها المأزون عند عقد القران وكان هذا النظام هو السائد في الريف المصري حتى ستينيات القرن الماضي بالنسبة لزواج من لم تبلغن سن الرشد من البنات وكانت أمي تحكي لي عن بنات اعمامها اللائي تم حشو صدورهن بالقطن كي يكتب لهن طبيب الصحة تصريحاً بالزواج

هكذا حكت لي وهكذا تزوجت في سن الثالثة. أو الرابعة عشر وانجبتني في سن الخامسة عشر فكان الفارق بيني وبينها خمسة عشرة عاماً تقريباً

لو ظلت على قيد الحياة إلى اليوم لكان عمرها ثلاثة وسبعين عاماً ولظلت هي أروع صديق عرفته ولكنها ماتت في سن الثانية والخمسين عندما كنت أنا في سن الثامنة والثلاثين بعد حياة حافلة بالشقاء والتعب والترمل المبكر

أتذكر صراخها المكتوم المتواصل لحظات ولادة كل اشقائي الثلاثة الذين تلوا شقيقتي الأولى التي لا أتذكر لحظة ولادتها فقد أتت بعد ولادتي بسنة واحدة وكذلك شقيقة أسمها سمية وشقيق اسمه محيي الدين ماتا ولا أتذكر شيئاً عنهما
ولكن اعتباراً من شقيقتي هدى ومن بعدها ناديه فعصام كنت أنا الطفل الذي يرى أم مصطفى ( الداية الشعبية) التي كان يحضرها أبي وهي تطلب الماء الساخن من جارتنا أم حياة وتخرجنا جميعاً من الغرفة حيث أظل في الصالة أنا وأولاد أم حياة استمع الى صراخ أمي فصراخ المولود في لحظات صعبة تكررت في حياة أمي سبع مرات ونتج عنها سبع أولاد مات منهم طفلين بعد الولادة مباشرة في حين عشت أنا وأربعة أشقاء

ولذلك لم أترك زوجتي أثناء ولادة هاله ثم محمد علي التوالي

كل مرة كنت أدخل معها حجرة الولادة أنا والطبيب لأظل ممسكاً بيدها القابضة على يدي كيد قدر لها أن تعبر من نفق المحنة والاختبار الإلهي العاصر

كنت اظل طوال زمن الولادة في المرتين أفكر في ذلك الألم الذي يتحمله هذا الكائن والذي أراهن على أنني لاأنا ولا عشرة رجال من أمثالي

كيف يتحمل هذا الكائن كل هذا العذاب وكل هذا الألم وكل هذا الإنحشار لساعات بين قمم من الألم والانضغاط والتنفس بالكاد في ظل إنقطاع الهواء وقسوة العرق المتفصد من كافة أنحاء الجسد المتقلص والغارق في مياه عرقه المتفصد من جراء الحذق والصراخ
كنت أردد كلمات جوفاء عن أهمية أن تتجلد وتتحمل
كلمات مثل ( معلش) ، ( استحملى) ، ( هانت) ، ( ألف سلامه عليكي) ، ( هانت) ، ( ماتخفيش)
كلها كلمات أرددها وأنا أحس أنني لا أرتقى لمستوى ذلك الألم
وأن هذه الكلمات ماقيمتها إزاء ذلك الوجع الإنساني الضاغط بقسوة على كائن قد ألقت السماء عليه بهذا العبء المميت كواجب كان يجب إذاء البشرية كان يجب أن نتحمل نحن الرجال مايخفف وطأة ذلك العبء

ما أن يهمد هذا الجسد من الوهن حتى ينتفض بالصراخ مع كل نفس هواء يدخله،
لتظل تلك الروح المعذبة - كمسيح يصعد الجلجثة حافياً على الاشواك. - على حالها إلى أن تتمكن عبر نفق من الهزال والوهن والرجاء من أن تصرخ هي والجسد صرخة واحدة ممتدة قوية هي كل ماتبقى من مظاهر الاستطاعة في هذا الكيان المحتمل لما لايحتمل
تندفع صرخة الخلاص والنجاة بالحياة وولادة حياة جديدة لمخلوق جديد في آن واحد
ماكل هذا التعب؟
وماقدر هذا التحمل ؟

كل التعب البشري يتضائل أمام ذلك التعب وكل الآلام تتضائل أمام تلك الآلام وكل البطولات تتضائل أمام تلك البطولة
إنها البطولة التي لم يتجاسر عليها رجل ما عبر تاريخ البشرية مهما كانت قدراته ومهما كان مجهوده الفذ وأياً كان بأسه وقوته أو مقدار تحمله

هذا سبب وحيد يكفي لكي نحفل بأجمل وأرقى وأحن مخلوق على الأرض هو المرأة على كل تنوعاتها ومختلف أطوارها ومواقعها من العلاقة الإنسانية
الأم
الزوجة
الشقيقة
الزميلة في العمل
والجارة في المسكن
الأستاذة في المدرسة
والدكتورة في الجامعة
والعاملة
وربة المنزل
والصديقة
والحبيبة
والرفيقة على طريق النضال
والرفيقة على طريق الفكر
والأبنة الحنونة

سبب يكفي لكي نقدرها ونمتن لوجودها في حيواتنا ليس في هذا اليوم فقط ولكن في كل يوم

كل عام وأنت بخير أيتها المخلوقة المعطاء الرقيقة القوية حارسة الحياة وباعثة الحب التي تجسد الجمال على الأرض

حمدي عبد العزيز
8 مارس 2016