نصوص وخواطر يجمعها هاجس الموت لقاصات شابات من الإمارات



نبيلة أحمد علي
2005 / 11 / 20

الموضوعة الأساسية التي تجمع معظم النصوص السردية التي بين أيدينا وسنناقشها في هذا المقال لقاصات من الإمارات ,هي موضوعة الموت.
فالموت إما أن يكون في نهاية الحدث أو بدايته أو يكون الموضوع كله. وللموت عندهن أشكال عديدة فأحياناً يكون صريحاً أو يتحول إلى رمز للعدم واللاجدوى أحياناً أخرى, لذا سوف نقسم العمل إلى محورين :المحور الأول ويتضمن الموت بلغته الصريحة والفيزيولوجية والثاني يتضمن الموت بلغته الرمزية ودلالاته النفسية والفلسفية.
ولأنّ للموت ذاكرة, لغة, بُعداً اجتماعياً, إنساني الدلالة عبرّت عنه القاصات من خلال مكنوناتهن الداخلية ورؤيتهن للحياة.
وبقدر ما لمعنى الموت من حد فاصل بين الحقيقي والمتخيل ,بين الواقعي والمثالي,بين الحياة والآخرة, تكتمل دائرة الوجود المعرفي والفلسفي, ويتحول الموت إلى مفهوم أخر ,مفهوم الغياب على نحو ما نراه رمزياً في غياب الشمس كدلاله زمنية, واذ يليها الليل ومن ثم يعود النهار والضياء من جديد ,فهذا ما يجعل دائرة الحياة تكتمل بنقيضها كما في رأسي الدائرة, دائرة الموت والحب.
فالحب هو المستقبل والاستمرار والموت هو الغياب والتوقف, بين هذين الحدين ينشّد الحبل وتبدأ لعبة الدوران لتحدد جهة الدوران في نهاية القصة المُستقاة من مخيلة الأديبة ومن التأمل والرغبة أو من الخوف والأفكار المتزاحمة في داخل ذاكرة القاصة وخيالها مثال هذا,
ما تقول القاصة سارة الجروان في مجموعتها أيقونة الحلم: "هي أول كلمة صدق تنطق بها في رحلتنا تلك، رحلة الخوف والألم.. وبقايا حلم.. أجل فأنا بطلة بالطبع.. بطلة في معركتك الخاسرة"(1).
فحديث النفس سواء كان يعبر عن حالة واقعية أم هاجس متخيّل,فإنه يمثل معطى قابلاً للارتباط بقضية الموت والحياة,ويغدو جزءاً متمماً لما نمارسه في واقع العلاقات المجتمعية.
و المتخيل يتحول إلى حالة نفسية أو لنقل إلى مأزق من تجربة ما منكسرة في الذاكرة ، ولأن التجربة لم تكن بمستوى المتخيل سوف تواجه القاصة سدوداً كثيرة للخروج من مأزقها المتخيل فتلجأ إلى الموت لقتل الحالة المُعاشة كما فعلت القاصة عائشة عبد الله محمد في قصتها الطوفان.
"الموت بداخلي هو، هي... لا أعرف من أين أبدأ أو ماذا أقول؟ هل الموت نهاية كل شيء؟ الحب.. الكره الضحكة.. البسمة"(2).
ويدور النموذج المطروح من قبل القاصة عائشة في قصتها "ايهاال..من أنا؟" من نقطة البداية الى نقطة النهاية ليصل الى حالة النسيان ويفقد المرء مشاعره بإقتراب الموت.
"الشوق إلى حضن أمي كان يحتضر بداخل جسدي. أنساني الموت من أكون"(3).
لا أحد يجادل في الانفصالين الأساسيين للكائن الحي. فأول انفصال هو عن رحم الأم ودخول الحياة ومعركتها، أما الثاني هو الانفصال عن رحم الحياة ودخول حالة الموت.
وهذه الفترة الزمنية بين الانفصالين تُسجل في ذاكرة الحياة بلغات مختلفة باختلاف رؤية الإنسان لهذه الفترة فاهي القاصة فاطمة المزروعي تسجلها حالة موت في قصتها الطوق. "الموت ما أجملها من كلمة؟ وضعتها في قاموس حياتها، ربما هي أول كلمة حفظتها في مدرسة الحياة التي تعلمت فيها..."(4).
قد يشكل الأدب أداة لمواجهة الموت بمعناه الفلسفي ودلالاته الأخرى وليس بمعناه البيولوجي التشريحي. وفي هذا المحور سوف نناقش الموت بمعناه التشريحي , أي انتهاء الحدث بموت البطل أو أحد شخوصها وذلك بعد وصول القاصة إلى مأزق في أدواتها, فالقاصة عائشة في قصتها زائر الليل كان لابد أن تُنهي حياة البطل هذا الشحاد الذي أحب تلك الفتاة الرقية الجميلة والتي كانت تحنّ عليه وتحبه وهي لاتدري.
"تناثرت قطع الخبز من يدي وأنّت الدراهم بأصواتها وهي ترتطم بالأرض، لقد وجد ميتاً منذ ثلاثة أيام في هذا المكان.."(5).
أما القاصة فاطمة المزروعي فتبدأ مجموعتها بالقصة "زهرة العشق" والثانية" شمس الليل" وكأنهما متكاملتان لحالة العشق والموت، موت حالة الحب والعشق، موت الحبيبة ثم موته هو فداءً لها فللموت دلالات الانتهاء أي موت الجسد، موت فيزيولوجي "سعاد.. سعاد إنها تحتضر.. كلا كلا إنه يعيش كابوساً"(6).
وأخيراً يموت البطل ليقترب أكثر من حبيبته في السماء "جسد.. جسد.. يخبو رويداً، رويداً والأقدام تقترب"(7).
أما ريا مهنا في قصتها تشوه في الروح من مجموعتها القصصية "الرحلة رقم (8)" قتلت بطلتها دون سبب رغم إن هذه البطلة قد رأيناها تبحث عن الحياة والولادة والاخصاب والعطاء حتى صارت غيمة "صار ثوبها وصار غيماً.. أشرقت وهي تجري طارقة الأبواب والنوافذ.. طرقت الدروب بقدمين حافيتين... أظلم العالم ورحمها ...."(9).
لكننا نفاجأ بموتها بحادث عرضي دون مبررات أو مقدمات "أدخلت السيارة السوداء مقدمتها في رحم الجرح.. هز الطبيب رأسه أسفاً: كانت حاملاً في الأسبوع العاشر.. نطق الجرح ونزف"(10).
إن استخدام هذه اللغة والكلمات المعبرة فقط عن الموت واللاجدوى ما هو إلا احتجاج على الحياة نفسها وكأن لامعنى للحياة , فالمعنى الوحيد القائم والممكن هو الموت,وتؤكد القاصة ريا في قصتها "غيوم التراب" أن الموت هو الحق الوحيد والأكيد.
"ماتت وكنت أدري بأننا جميعاً سنموت.. والموت حق قاس.. ولكنه مات.. كنجمة وحيدة هوت من سمات الظلمات, بمفردي دفنته.."(11).
أماعند القاصة عائشة عبد الله محمد في مجموعتها ما بعد الطوفان الموت يصبح الموت طوفاناً على الجميع والمأساة تكفن أكثر النهايات لقصصها.
"نحن بقايا جثث نسي الطوفان أن يحملها معه.. ربما.. نحن حكاية أخرى للموت.. ربما ... ربما..."(12).
ليس للموت إشكالية في الرؤية الدينية التي استطاعت أن تحل جميع أسئلة الطبيعة وما وراءها، وهذا يتطلب التسليم والخضوع للقدر ويصبح الوعي الميتافيزيقي مثالي جداً، والعالم مجرد بوابة لعبور الإنسان فقط إلى الآخرة، ويتحول الهدف من الحياة هو الموت. "ما إن أحسست بحرارة يديّ ودفء أنفاسي حتى بدأت تتلاشى وتتحول إلى أبخرة ضبابية تحمل معها رائحة الخوف، الموت"(13).
القاصة سارة النواف في قصتها النوخذة من مجموعتها القصصية "حوار صامت" أصبح الموت عندها حل من مأزق وُضعت فيه البطلة التي لم تستطع التحدي أو التصدي للظلم الذي وقع عليها، بل خضعت إلى الآخر، فكان الحل موت البطل بطريقة محبوكة جيداً ومتقنة فنياً. "مسكينة.. فُجعت في زوجها" "ضحكت في سرها.. هل فجعت حقاً.. لا .. أنا سعيدة"(14).
ثمة حضور دائم للموت في وعي أو لاوعي القاصة سارة النواف, إنه قلق دائم من التقدم في العمر, من النهايات غير المعلنة، لدرجة إن الموت أصبح مفتوحاً كجرح في خاصرة الكلمات.
"قالت لي إن القبور المفتوحة شؤم، فالقبر الجاهز ينادي صاحبه.. ويناديه ليترك الدنيا.. ويأتي إلى القبر"(15).
وللقاصة سارة النواف بصمتها في طرح مشكلة الإدمان للشباب الذين خارج البلد وحتى للشباب داخل البلد ولكن كان الحل عندها في موت المدّمن وليس في معالجة المشكلة من أساسها أو حتى عرض سبب هذا الإدمان، وكأن القاصة ضاقت ذرعاً بهذه الشخصية ويصبح من الصعب أن تسيطر عليها أو تتركها تستمر على هذا الخط, لعدم معرفتها إيجاد حل أو ما يشبه الحل فتجرها إلى حتفها، لترتاح هي وتريح بطله, كما فعلت شخصية راشد من قصتها صور قديمة.
"توقف عند الأم.. نظر إليها وعيناه تبتعدان عنها "عظّم الله أجرك يا أم راشد"(16).
راشد هذا الشاب الجميل الذي يهتم بنفسه ومظهره كما تتذكره أخته كيف كانت وكيف سيصير "تتحسر حين تذكر كيف كان أخوها شاباً تملؤه الحيوية والقوة.. كانت الأناقة سمته التي ميزته..."(17).
لكنه أصبح مدمناً دون أي مبرر أو تمهيد ليصل إلى هذه النتيجة ومن ثم موته.
"تلك الكلمات التي أسدل بها الستار على موضوع إدمان راشد ومعالجته ...راشد توفي منذ زمن بعيد.."(18).
أما القاصة سارة الجروان تطوف في الحلم وأيقوناته، فهي تصور في مجموعتها القصصية أيقونة الحلم، الحياة رحلة مليئة بالمأساة والدموع حتى نصل في نهاية المطاف إلى الإبحار الأخير.
"إنها تتأهب لخوض آخر معاركها في حرب التحرير من الأسر الدنيوي.."(19).
ثنائية الحياة والموت عند القاصة مستقاة من الخطاب العقائدي الإيماني، الدين/ الآخرة – الأرض/السماء – الجسد/الروح، ضمن هذه الثنائية في نقطة انتقالها أي فترة ما قبل الموت تبدو شخوصها تعاني من الأحلام السرمدية. "ضحكت..ضحكت..وضحكت.. ثم نهضت تأكل الضحكات الهستيرية جسدها الذي يبدو لرائيه كخيال الميتة المسجى على نعش أبيض"
ولا تختلف القاصة سارة الجروان عن زميلاتها في أن يكون الموت حلاً ولكنها ترتقي في إضفاء صفة أعلى, هي صفة الانتقام, فتقوم إحدى شخصياتها بالانتقام من الرجل, الذي كان سبب العسف الذي تعرضت له والموت البطيء, وانتهاء حياته بالمعنى المجازي. فهي امرأة مستكينة راضخة لا تواجه مصيرها بإرادة إنسانية بل تستبدل ذلك بحب الانتقام والرغبة في موت شقيقها الذي كان سبباً في ظلمها,وذلك في قصتها "شظايا مرآة. "جثت بجانبه ومدت يدها إليه بباقة الورود التي تراءت له على أنها كفن أبيض"(21).
للموت شكلٌٌ واضحٌ وصريحٌ في هذه القصة.. إنه القتل والانتقام ثم الجنون.
"كل ذلك بسبب خصام تافه مع حبيبتك "شيخة" ونكالاً بها زوجتني بسواه وما هي سوى أيام، حتى مات حبي ومات زوجي وتأرجحت حياتي بين الموت واللاموت والحياة واللاحياة.. فحدثتني نفسي بأن عليك أن تموت.. تموت مرة واحدة فحسب وأنا التي ماتت آلاف المرات.."(22).
وللأحلام نهاية مأساوية عند القاصة سارة الجروان فهي تمر بمراحل من الألم والبتر والخوف لتنتهي إلى قبر صغير فيجعل من الحياة مجرد ومضة عبور سريعة وتافهة كما حصل لبطلها في قصة مشاهد من قبر. "أفقت من هلع الموت على رائحة دم"(23).
وتبدأ الحكاية برحيل البطل من بلده الى بلد آخر لتحسين وضعه وتبدأ الغربة ثم العجز ويتابع مسيرة الألم مع بقايا حمم دُفنت مع ساقه المبتورة فبقي ميتاً في حيّ "ألا فمبارك جرّك "عزمي" الذي سيواري جثمانك في وضح النهار"(24).
أما الموت عند القاصة فاطمة الكعبي فهو يمر من البوابة الضيقة للحياة ليكون حلاً وليكون السائد والممكن والحاكم على الشخوص، فهي رغم تملكها لغة قوية ورغبة في الرفض والتحدي لخلق أدوات جديدة أكثر وعياً لتطوير معاني الحياة والمستقبل. لكننا نجدها أيضاً تتكئ على الموت لحل أزماتها مع الظلم الجاثم على شخوصها كما فعلت في قصة القتلة ,فقد مات أحد الشخوص التي ظلمت البطلة دون تمهيد أو مبرر. "ما هي أنفاسك.. وبعد سنوات من وفاتك.. لا تزال تخنق المكان"(25).
حتى بعد موته الذي لم يكن لها أي دور في حدوثه، مازالت تعيش حالة الاستكانة والضعف والظلم من قبل أخيها.
"حتى بعد موتك منعني أخي من أن أخرج وأملأ البيت ورداً، منعني أن أطرد رائحة ذكورتك الواهنة من حافة السرير"(26).
تكاتف أخوها مع زوجها لوأدها وهي حية بحيث حرموها من أرقى عطاء من الله والطبيعة وهي حالة الأمومة والإنجاب "فأرد عليه بوجع: ـ أنت قتلت أبنائي قبل أن يولدوا"(27).
إنها تدري وتعلم كل ما يجري حولها لكنها لا تحرك ساكناً ولا تثور على واقع نسجه لها أخوها من أجل المال، "أسرعت إلى بيته الذي يعتلي قمة جبل شاهق، بينما تناثرت بقية البيوت في الوادي"(28).
هل أرادت أن تحاجج الموت وتترك أمرها له وما باليد حيلة.
"إن التحليل النفسي يؤكد ويرى في الأدب أداة لمواجهة الموت وهو الوحيد القادر على أن يخلق شخصيات ويجعلها خالدة في ذاكرة المجتمع وأن يجعل من تجارب شخصياته تحدياً للواقع المعاش والرتيب، لذلك يقول فرويد: "يُمكّننا عالم الأدب من رسم شخصيات لا تخشى الموت وتعرف كيف تختار الميتة التي تناسبها وأخرى لا تخشى الموت بل تختاره لغيرها"(29).
وكما أوضحنا في المحور الأول فإن للموت دلالة فيزيولوجية فقط, وذلك للهروب من مأزق للشخصية أو حل سريع وواضح ينهي كل الاحتمالات دون وقف الشخوص في وجه الخطر أو الظلم أو إزالة العسف الذي وقع عليها فكان الموت في المواجهة لجأت إليه القاصات في بعض قصصهن. لكن هذا لا يعني أن جميع القصص على هذا الشكل, بل هناك قصص أخرى نجد الموت يلفها ويكفنها, لكنه يحمل معاني أخرى ودلالات نفسية ورمزية، حيث يمثل معنى العدم أو اللاجدوى أو الإحساس بالفراغ, وهذا ما سنتاوله في المحور الثاني.
فالموت هنا يحيل الشخوص إلى الغياب، الانفصال أو التشيؤ،فتصبح مجرد جسد يمشي في ثنايا الحياة كما وصفتها القاصة فاطمة الكعبي في قصتها رغبات مؤجلة. "ولكن طفولتي لم تذهب، بل وئدت هنا في داخلي لم يُتح لها أن تتنفس أبداً، وهاهي قررت أن تخرج الآن.. ولكنّ العمر ذهب، أو أنه قد أفل ولن يعود"(30).
كم الحياة جميلة وتسع لكل التفاصيل للتعبير عنها، لكن أن تقتل مرحلة من حياة إنسان، أن يموت في داخله الإحساس بالحياة هو الموت بدلالاته النفسية.
وتعود القاصة تؤكد إن الموت ليس بموت الجسد بل هذه الروح الطائرة المليئة بالأحلام والأمنيات التي تذبل تدريجاً وتشيخ بسبب الظلم الواقع عليها واستسلامها في قصتها من قتل الحلم. "أين كنت وأنت ترى ذاك الكهل ينهش أحلامي أين كنت حينما بدأ يحطمني ليعيد تشكيلي إلى امرأة أخرى تناسب عمره وتتماثل مع شحوبه وتجاعيده"(31).
يتحول الموت بين ثنايا وطيات الكلمات إلى رائحة توخز أنوف الشخوص في مجمل القصص عند القاصة عائشة, ويصبح للموت صوت أيضاً كما تراه القاصة في قصتها الصوت "أين أنت أيها الصوت؟ إن رائحة الموتى تفوح منك تزكم أنفي، تثير جنوني.. ذلك الصوت إنه أشبه بنحيب امرأة ثكلى وئد وليدها أمام عينيها تحت التراب"(32).
إن الكتابة سلاحٌ رمزيٌ لمنازلة الموت وذلك من خلال الكلمات المفعمة بالحياة والأمل والحب وانتصار الحقائق. لكن القاصة عائشة تحارب الحياة بتكسير الحلم والبحث عن مكبوت الأنا وإضفاء الظلام والليالي الباردة على شخوصها كما في قصتها حلم.
"شيء ما يثقل أنفاسي جيش من النسوة يحملنّ بأيديهن سكاكين مبتورة النصل يقتربن مني، أبحث في وجوههن عن امرأة جميلة تحمل بيدها سكيناً يقطر منها دمي"(33).
ويصبح للموت ألوان يضفي صبغته على اللغة والعبارات المتعبة فتارة لون أحمر وتارة أبيض.
كما سمته القاصة في قصتها الموت الأبيض. هذا اللون الجميل الذي يحمل النقاء والصفاء والمستقبل المشرق يتحول إلى لغة الموت الآسنة الجارحة. "عليها أن تنتظر الموت برداً تحت غطاء الجليد الأبيض الذي بدأ يجمد خصلات شعري ويزحف إلى عروقي.. ليتك يا أبي لم تكدس أوراق عمري.."(34).
قد نجد هناك بعض حالات التحدي ورفض الموت الداخلي, لكن المحاولة كانت يائسة عادت من حيث بدأت. "لكنها تموت كل يوم وتلفظ أنفاسها عندما ترحل عنها الأمواج.. ومنذ ذلك اليوم مازلت أراقب رمال الشاطئ وهي تعود إلى الحياة تصارع سكرات الموت"(35).
في هذا المناخ من التشيؤ واللاجدوى تفقد الكلمات معانيها فيحل العبث واللامعقول والجنون عند القاصة سارة الجروان "عندما استفاقت من أيقونة الحلم كان هوس العذوبة يثقل حقيبتها"(36).
وتتحول الحياة إلى حلم سرمدي ينتشر الموت وينشر لونه بين ثنايا الحلم . "هو من يلقف يدي من الدهاليز المظلمة حين يتنازعني جني الخوف، بين الرهبة من صعود في شواهق ضبابية.. وبين وطأة الموت في حضيض القيعان المنتشية"(37).
للموت صور عديدة غير التي تحدثنا عنها سلفاً (صور لأحلام متكسرة والفراغ الداخلي.. إلخ) فهو يتحول أو يتجلى في إحدى صوره بأعلى مراتب الحياة وأرقاها عندما تنتهي علاقة حب بالموت، لأن هذا العالم لا يتسع لذاك الحب العظيم كما صورته القاصة فاطمة المزروعي في قصتها ليلة العيد، هذا الحب الذي امتزج بحب الوطن والدفاع عن كرامة الأرض والشهادة من أجل البلد منعت العاشق من تحقيق أحلامه مع فتاته, لأن الشهادة كانت أقرب عروس وكانت عرساً له في ليلة العيد. "سامحيني يا حبيبتي لن أستطيع أن أحقق حلمك لن نطير معاً"(38).
فهي لن تقف بل ستنتقم لوالدها وحبيبها ولن تسكت عن الظلم فهنا جاء الموت هذه المرة في مواجهة الظلم والارتقاء بالحياة إلى أعلى مستوياتها.
"بعد شهرين أقسم أكثر أهالي القرية بأنهم عند غروب الشمس كانوا يشاهدون ظل جسدين، هناك عند شجرة الزيتون العملاقة، تنطلق ضحكاتهما الموسيقية الناعمة وهما يرسمان معاً عالماً أجواؤه من الرومانسية والحب.."(39).
تسجل القاصة فاطمة المزروعي حالة حرية تنازل بها الظلم وتتحدى القسوة والعسف اللذين يمارسهما المجتمع على المرأة، لكنها تخسر معركتها وتدفع الثمن غالياً أمام حريتها، فتعود رائحة الموت وصوته للظهور مجدداً, وتذهب هذه الحالة دون أن تترك أي أثر حتى لو على المستوى الرمزي للموت. "خرجت من معركتها خاسرة تجر أذيال الهزيمة يومها بكت بكاءً مريراً.."(40).
أن تكون الحياة والمعركة بهذه البساطة يمكن محو آثارها بمجرد موت الشخص "أدركت أنها لن تعود إلى عالم البشر أبداً ولا إلى قسوتهم"(41).
موت الفعل والحركة والحلم عند القاصة ريا مهنا سلطان تؤدي إلى اللاجدوى وطاحونة الهواء تدور وتدور دون جدوى "فهدأ المكان إلا من غناء عصافير حزينة... ونشيج طاحونة بعيدة تطحن الفراغ"(42).
يمتد الموت ليملأ الفراغ والذرات الصغيرة. وكأني بالقاصة أرادت أن تكون صادقة في تقديم الصورة بأمانة وصدق عن هذا الواقع المعاش, والذي تراه بشعاً ومأساوياً على نحو يجعلها تتردد في البحث عن الحل.
و ترى القاصة في أعتى الشخصيات النسوية مصيراً يشبه مصير مثيلاتها المأساوي أو الجنون عندما تتحدى الموت.
"تركت الدكتورة نجاح الناغب وظيفتها، وصارت لا ترى إلا وهي تصطاد عمياء من البحر في الأماكن المحظور الصيد فيها"(43).
هذه الشخصية تحدت وتعلمت، لكن حياتها الخاصة لم تستطع أن تعشها كإنسانة حقيقية نتيجة ظلم أضعف الرجال . وهذا ما حوّل حياتها إلى جنون منتظر. "ألقى أمام قدمي خرقة بالية مثقوبة، وقال: ارقعي هذه.. فنحن لن نستمر"(44).
ولكن هناك محاولة من القاصة لتتحرر من ذرات الموت المتناثرة هنا وهناك وإضفاء بعض ألوان الحياة والمستقبل رغم الواقع الميت وصوره المشوهة.
"حلقت فوق السور العالي.. دقت الدروب بحزنها وجنونها متحدية العيون المعلقة في النوافذ وخلف الجدران والأيادي المزنرة في جزع وفخر وحيد. كانت قد مضت سنون حين وجدت الفرس وغابت في مكان ما فيها الفارسة"(45).
فالتشيؤ يفقد الإنسان حريته ويجعله خاضعاً لقوة خارج إرادته وإنهاء كل الأشياء إلى اللاجدوى أو العدم ومن ثم الموت.
لذا علينا التخلص من الموت من خلال الكتابة ومنازلة الفراغ والعدو بالحياة والمستقبل الأتيين لا محالة




ـ الحواشي..
(1) سارة الجروان، أيقونة الحلم، مجموعة قصصية، الشروق. ص/65/
(2) عائشة عبد الله محمد، بعد الطوفان، مجموعة قصصية، منشورات دائرة الثقافة والإعلام. الشارقة من قصة الطوفان، ص/6/.
(3) نفس المصدر ص /20/.
(4) فاطمة المزروعي مجموعة قصصية بعنوان ليلة العيد، منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2003، الطبعة الأولى ص /45/، من قصة الطوق.
(5) عائشة عبد الله محمد ص /63/ من قصة زائر الليل.
(6) نفس المصدر ص /20/.
(7) فاطمة المزروعي ليلة العيد ص/22/.
(8) ريا منها سلطان، مجموعة قصصية بعنوان الرحلة رقم 8 من قصتها تشوه في الروح ص /10/.
(9) نفس المصدر السابق ص /11/، الشارقة 2003.
(10) نفس المصدر السابق ص /14/.
(11) عائشة عبد الله محمد ما بعد الطوفان، منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2003، ص /7/.كذا وردت في النص,ونظن أن كلمة"سمات" غلط مطبعي صوابه"سماء"
(12) نفس المصدر السابق ص /22/، من قصة حلم.
(13) سارة النواف، جدار صامت، الشارقة 2003، النوخذة ص /83/.
(14) نفس المصدر السابق ص /51/.
(15) نفس المصدر السابق من قصة الصور القديمة ص /27/.
(16) نفس المصدر السابق من قصة الصور القديمة ص /22/.
(17) نفس المصدر السابق من قصة الصور القديمة، ص /24/.
(18) سارة الجروان، مجموعتها القصصية أيقونة الحلم ، الشروق – من قصتها الإبحار الأخير، ص /47/.
(19) سارة الجروان مجموعتها القصصية أيقونة الحلم، الشروق، من قصتها الإبحار الأخير، ص /47.
(20) نفس المصدر السابق من قصتها شظايا مرآة، ص /93/.
(21) نفس المصدر السابق ص/96/.
(22) نفس المصدر السابق،ص /105/. من قصة مشاهد من قبر.
(23) نفس المصدر السابق، ص/112/، من قصة مشاهد من قبر.
(24) فاطمة الكعبي، مجموعة قصصية مواء امرأة، اصدارت دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2004، ص/13/، من قصة القتلة.
(25) نفس المصدر السابق، ص /14/.
(26) نفس المصدر السابق، ص /18/.
(27) نفس المصدر السابق،ص /17/.
(28) سيمفوند فرويد: الحرب والحضارة والحب والموت، ترجمة د. عبد المنعم حنفي، القاهرة، مكتبة مدبولي ص /66/.
(29) .
(30) فاطمة الكعبي، مواء امرأة ، الشارقة 2004، من قصة رغبات مؤجلة، ص /54/.
(31) نفس المصدر السابق، ص/45/ من قصة قتل الحلم.
(32) عائشة محمد، ما بعد الطوفان، الشارقة 2003/ من قصة الوصت، ص /48/.
(33) نفس المصدر السابق، من قصة حلم، ص /22/.
(34) نفس المصدر السابق، ص/63/ من قصة الموت الأبيض.
(35) نفس المصدر السابق، ص/77/، من قصة نداء الحياة.
(36) سارة الجروان، من مجموعتها أيقونة الحلم، ص /42/، من قصة أيقونة الحلم.
(37) نفس المصدر السابق، ص/32/.
(38) فاطمة المزروعي، الشارقة 2003، من قصتها ليلة العيد، ص /86/.
(39) نفس المصدر السابق، ص/87/.
(40) فاطمة المزروي، نفس المصدر السابق، ص/56/، من عصافير المساء.
(41) نفس المصدر السابق، ص /58/، من عصافير المساء.
(42) ريا مهنا سلطان، الرحلة رقم 8، الشارقة 2003، ص /32/، من قصة الطاحونة الهوائية.
(43) نفس المصدر السابق، ص /42/، من قصة وريقات امرأة ماتت في السابع.
(44) نفس المصدر السابق، ص/42/ من قصة وريقات امرأة ماتت في السابع.
(45) نفس المصدر السابق، ص /36/، من قصة منى.