الست فضة والست ماري



فاطمة ناعوت
2016 / 4 / 2

ما طعمُ ثوب التخرج الأسود وقبّعة الخريجين السوداء حين يرتديهما المرء وهو في العام الثالث بعد المائة من عمره؟ ما حجمُ الفرحة بشهادة التخرج من المدرسة التي يتسلمها الخريج على نغم الموسيقى وقد تجاوز عمره المائة عام، وما شكلُ الأمل بغد آخر وقد أتم المرء تعليمه في تلك السن؟ ما مذاقُ أن يقرأ الإنسانُ لأول مرة في حياته أولى كلماته وهو في التسعين من عمره بعد عقود طوال ظل ينظر فيها للحروف والكلمات في الكتب وعلى لافتات الإعلانات كأنها ألغاز ورسومات غامضة؟
يقول المثل الإنجليزيّ: Never too late to learn، أي: لم يَفُتِ الوقتُ أبدًا للتعلُّم. ذاك أن لا وقتَ محددًا أو عُمرًا بعينه مخصصٌ ليتعلّم الإنسانُ معارفَ جديدةً أو خبراتٍ لم يخبرها. الوقت المناسب للتعلّم هو كاملُ المدة التي يقضيها الإنسان فوق الأرض، يعني كامل عمره. دائمًا ما كنتُ أتعامل مع تلك الحكمة باعتبارها قاعدةً أجنبية تخصُّ العالم الغربي فقط، لكنني لم أعتمدها عربيًّا، لأن لدينا، نحن العرب، ميراثًا ضخمًا مضادًّا، يقصر التعلّمَ على المراحل العمرية الأولى للإنسان، في بدايات تكوينه، ويُثني عن طلب العلم في الكِبَر! كأنما المعرفةُ كمٌّ محدود من المعلومات موضوعٌ في حقيبة يفتحها الصغيرُ في سنواته الأولى ليرى ما بها، ثم يغلقها ويرمي بها في النهر! نقول مثلا: "التعلُّم في الصِغَر كالنقش على الحجر، والتعلُّم في الكِبَر كالحرث في الماء!" يعني الأول حفرٌ عميق باقٍ، والثاني زائل يُنسى لا يستقر، مثلما نكتب على سطح الماء بعصا فيزيل توترُ الماء السطحيُّ ما تركناه من علامات على صفحته! ومثل ذلك المَثَل المصري (المحبط) الذي يقول: بعد ما شاب، وَدّوه الكُتّاب!"يعني: أبعدما وَخَطَ الشَّيبُ رأسَه، يودُّ الناسُ أن يذهبوا به إلى الكُتّاب؟! وكلّ يوم نطالعُ في صحف الغرب أخبارًا وطرائفَ عن عجائزَ غربيين ذهبوا ليتعلَّموا فنونًا ومعارف جديدة. مثل هذه التي جلست على مقاعد الدرس لتتعلم التطريز أو فنَّ تنسيق الزهور وهي في الثمانين، أو ذلك الذي راح، في السبعين، يتدرَّب على رياضة تسلّق الجبال، أو تلك التي ذهبت إلى معهد الموسيقى لتتعلّم العزْفَ على البيانو وعمرها تجاوز التسعين، أو ذلكما الزوجين المُسنّين اللذين قررا أن يجوبا العالم على دراجتيهما، وسواهم الكثير! تلك أخبارٌ نقرؤها وما من دهشة تتملكنا من تكرارها.
طالعتُ بالأمس أخبارًا عن العجوز الأمريكية "ماري هنت" التي أكلمت دراستها الثانوية وقد بلغت من العمر 103 عامًا، بعد سبع وثمانين عامًا من تخرّج زملائها في الصفّ، فتذكّرتُ الأردنية الفلسطينية "فضّة البشتاوي"، التي كتبتُ عنها مقالا قبل عامين لأقدم لها التحية، بعدما قرّرت أن تمحو أميّتَها في التسعين من عمرها، لتغدو أكبرَ طالبة على مقاعد الدرس في الأردن، وفي العالم العربي، وكذلك في العالم بأسره، حتى شهور قليلة قبل أن تخطف منها الأمريكية ماري اللقب النادر. تقول الجدّة فضة إن حُلمَ القراءة والكتابة لم يبرحها مدى عمرها الطويل، إلا أن ظروفها المعيشية العسرة حالت دون حلمها. ثم صحتْ ذات نهار وقد قررت أن تتعلّم، بعدما زارها حُلم ليل رأت نفسها خلاله تقرأ القرآن. ومع شعاع الشمس التالي ذهبت إلى مركز محو الأمية في البلدة وسجّلت اسمها. في الصباح، تذهب للدرس، ثم تعود البيت عصرًا، فتراجع دروسها مع أحفادها الصغار، وتحضّر في المساء دروس الغد. والآن، وقد أتقنت القراءةَ والكتابة بشكل سليم، تنوي الاستمرار في التعلّم مادام في العمر بقية، ومادامت قادرة على ذلك، ذاك إن نور العلم قد دخلها وتذوقت بهاءه، ولم يعد ممكنًا أن يحجبه عنها شيء. ثم إنها تقوم بدور تنويريّ في مجتمعها الصغير؛ عن طريق تشجيع جاراتها المسنّات على التعلم.
تحية احترام لكل من يخطو بحذائه فوق بعض الأمثال العربية الداحضة للعزم، الراكنة إلى التكاسل مادام العمرُ يركض نحو محطّته الأخيرة، وتحية احترام للمثلَ الغربيَّ الذي يحضُّ على العمل والنشاط والمثابرة وطلب المعرفة، مادام في العمر لحظة. Never too old to learn