ما هي نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي؟



تثي باتاكاريا
2022 / 8 / 16

أحد أكثر الاتهامات شيوعًا ضدّ الماركسية هو أنّها منشغلة من ناحية نظرية بـ«الطبقة» على حساب الجندر.

من المهم الذكر بدايةً أنّ تاريخ المنظمات الزاعمة كونها «ماركسية» لم يكن دائمًا مشرّفًا فيما يتعلق بأنواع الاضطهاد مثل الجندر والعرق. كلّنا نعرف شخصًا أخبره رجلٌ «ماركسيّ» أنّ المضايقات «الثانوية» مثل العنصرية ضدّ النساء والعنصرية العرقية سيتم حلّها «بعد إحلال النظام الاشتراكيّ»، ولذلك، في الوقت الحالي، علينا أن نشمّر عن سواعدنا ونعمل في نضالنا الطبقي. ويا للأسف، ليست حوادث التحرّش الجنسيّ مِن الرجال الماركسيين بأمرٍ غير شائع في منظمات اليسار سواءً في الماضي أو في الحاضر.

وفي حالاتٍ مختلفة، ذكرت العديد من النساء شعورهن بالتجاهل أو التقويض أو التهميش المؤسسي داخل منظمات اليسار. تذكر لنا أصوات الناشطات التاريخية سواءً لدى النساء الهنديات الشيوعيات المنخرطات في النضال التيلانغاني لعام 1947، أو الشيوعيات البريطانيات مثل دوريس ليسنغ، أو العضوة الرائدة في الحزب الشيوعي الأمريكي بيغي دينيس، حكاية خذلانٍ عن عنصرية ضدّ النساء وخيبة أمل في منظمات رأت فيها هؤلاء النساء مصدر أملهن وموقع نشاط حياتهن.

وهذه الروايات مروّعة بالخصوص كونَ العديد منّا أصبحنا ماركسيّاتٍ لافتراضنا أنّ الماركسيين والماركسيّات سيكونون أقلّ الناس تسامحًا مع الاضطهاد الجندريّ. انضممنا للمنظمات اليساريّة لنظرنا إلى الماركسية كنظريّة متمرّدة تقاتل من أجل أيّ إصلاحٍ تدريجيّ يقدمه النظام الرأسمالي ولا تكتفي به، بل تدعو إلى الهدم التام للرأسمالية، وبالتالي تكون أحد أفضل الأسلحة في النضال من أجل تحرّر النساء والعدالة الجندرية.

ولهذا السبب، إن كنّا ماركسيّين جادّين ولم نكن واعظين غير مفّكرين لعقيدة (دوغما)، فهنالك جانبان متناقضان على نحوٍ متبادل في تاريخ الماركسية يجب أن ندركهما: الأول هو الضرر الذي أُلحِق بقضية العدالة الجندرية باسم الماركسية، والثاني هو كيف أنّ الإطار الماركسي هو، على الرغم من الأخطاء التاريخية العديدة التي ارتُكِبت باسمه، لا يزال أفضل طريقة لفهم الاضطهاد في ظل الرأسمالية وبالتالي يوفّر لنا لمحاتٍ في كيفيّة إنهائه.

النظرية الماركسية

هنالك فكرة حذقة وهائلة، وناقصة أيضًا، في لبّ تحليل ماركس للرأسمالية. في المجلد الأول من «رأس المال»، يميّز ماركس «قوّة العمل» أو قدرتنا على العمل كـ«السلعة الخاصة» التي يحتاجها الرأسماليّون من أجل تحريك النظام وإبقائه نشطًا. يخبرنا ماركس أنّ قوة عملنا لديها «خاصيّة متميّزة كونها مصدر القيمة» لأنّه باستخدام قوّة العمل هذه نخلق سلعًا وقيمة من أجل الرأسمالية. واستحواذ الرأسماليين على فائض عملنا هو مصدر هيمنتهم. فبدون قوّة عملنا هذه إذًا، سينهار النظام.

ولكنّ ماركس ظلّ صامتٍ بشكلٍ محبط فيما يتعلق ببقية القصة. إن كانت قوّة العمل تُنتج القيمة، فكيف يتم إنتاج قوة العمل ذاتها؟ لا ينبع العمّال من الأرض كي يصلوا للسوق مستعدّين ومتأهبين لبيع قوّة عملهم للرأسماليين. يأتي هنا دور عالماتٍ ماركسيات وماركسيين مثل لِيز فوغل ومارثا غيمينيز وجوهانا برينر، ومؤخرًا سوزان فيرغسون وديفيد مكنالي حيث أمسكوا فكرة ماركس الثوريّة وغير المكتملة وطوّرنها أكثر. لربما يجدر بنا أن نتذكر في هذا السياق أنّ الإمكانيات والإبداع المتأصّل في التراث الماركسيّ، الموصوف بحقّ بالتراث الحيّ، سمح لأجيالٍ جديدة من الماركسيّات والماركسيين أن يتفحّصوه نقديًا ويوسّعوه أكثر.

بتمحيصهم في «رأس المال»، جادلت العالمات بأنّ مفتاح النظام، ألا وهو قوّة العمل، يتمّ إنتاجه وإعادة إنتاجه خارج عملية الإنتاج الرأسمالية، في موقعٍ «مبنيّ على القرابة» يُسمّى الأسرة. في فقرة بديعة، تصف ليز فوغل بشكلٍ واضح الرابط ما بين النضال الطبقي واضطهاد النساء:


النضال الطبقي حول أوضاع الإنتاج يمثّل الدينامية المركزية للنمو الاجتماعي في المجتمعات المتّصفة بالاستغلال. في هذه المجتمعات، تستحوذ الطبقة المهيمنة على فائض العمل، وظرفٌ ضروريّ لسيرورة الإنتاج هو…تجديدُ طبقةٍ مُخضعة من المنتجين والمنتِجات المُباشرين الملتزمين بسيرورة العمل. اعتياديًا، يوفّر التبديل الجيليّ أغلب العمّال الجدد اللازمين لسدّ النقص في هذه الطبقة، وإمكانية النساء على حمل وولادة الأطفال يلعب بالتالي دورًا حيويًا في المجتمع الطبقي…في الطبقات المالِكة، ينبع اضطهاد النساء من دورهنّ في صيانة الأملاك وتوريثها…وفي الطبقات المُخضعة، يُشتقّ اضطهاد الإناث من انخراط النساء في عمليّاتٍ تجدّد المنتجين المباشرين، وتجدّد معهم انخراطهم في عمليّة الإنتاج. (الأسود العريض مُضاف)

هذا هو المزعم الرئيسيّ فيما تسمّيه فوغل وغيرها من الماركسيين بنظرية «إعادة الإنتاج الاجتماعي». تبيّن نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي كيفيّة «تموضع إنتاج البضائع والخدمات وإنتاج الحياة كجزءٍ من عمليّة موحّدة» على حدّ وصف ميغ لوكستن. إن كان الاقتصاد الرسمي هو موقع إنتاج البضائع والخدمات، فالأناس المنتجون لهذه البضائع والسلع يتمّ إنتاجهم خارج نطاق الاقتصاد الرسميّ بتكلفةٍ قليلة جدًا للطبقة الرأسمالية.

تقوم ثلاثُ عمليّاتٍ رئيسية متأصلة بإعادة إنتاج قوّة العمل: أولًا: عن طريق الأنشطة التي تنعش أو تجدّد العاملة أو العامل خارج عملية الإنتاج وتسمح لهما بالعودة لعملية الإنتاج، تتضمّن هذه الأنشطة على سبيل المثال لا الحصر المأكل والمأوى وتتضمن أيضًا العناية العاطفية التي تبقي الإنسان متماسكًا. ثانيًا: عن طريق الأنشطة التي تحافظ وتجدّد من هم ليسوا بعمّال خارج عملية الإنتاج، ألا وهم العمّال المستقبليون أو العمّال سابقون، كالأطفال أو البالغين غير المنخرطين في اليد العاملة لأي سببٍ كان، سواءً أكان العمر أو الإعاقة أو العطالة. وثالثًا: عن طريق توليد أو إنتاج عمّالٍ جُدد، أي عن طريق الولادة.

هذه الأنشطة المُكوِّنة قاعدة الرأسمالية الأساسيّة – كونها تولّد أو تعيد إنتاج العمّال – تتمّ بشكلٍ تمامًا بدون أي تكلفة للنظام الرأسمالي ويقوم بها نساءٌ ورجالٌ داخل المنزل أو المجتمع. في الولايات المتّحدة وخارجها، لا زالت النساء تقمن بالحصة الأكبر من هذه الأعمال المنزلية.

وِفق إحصائية أجريت عام 2012، قامت النساء الأمريكيّات بما مقداره 25،9 ساعة أسبوعيًا من الأعمال المنزلية غير المدفوعة في عام 2010، بينما قام الرجال بما مقداره 16،9 ساعة، فارقٌ يتجاوز التسع ساعات. تتضمّن الإحصائية الوظائف القابلة للتوثيق، مثل العناية بالأطفال والطبخ والشراء الحاجيات والأعمال المنزلية والبستنة وغيرها.

وِوفق مجلة «فوربس»، لو تمّ حساب الأعمال المنزلية ضمن حساب الناتج المحلّي الإجمالي «ارتفع بنسبة 26 بالمئة عام 2010». ولكن بالطبع، يجب أن نضيف لهذه القائمة الهائلة الوظائف الإضافية التي لا يمكن حسابها، مثل توفير العناية العاطفية والدعم لكلٍّ من الموظّفين وغير الموظّفين داخل المنزل. وأيّ عاملةٍ اضطّرت لأن تعتني بطفلٍ وملاطفته بعد يومٍ شاقٍّ من العمل، أو اعتزمت العناء بوالدها أو والدتها المسنّة بعد ورديّة مُنهِكة تعرف أهميّة مثل هذه المهام غير الماديّة ظاهرًا.

إنّ أهم فكرة تقدّمها نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي هو أنّ الرأسمالية نظامٌ وحدويّ بإمكانه أن يدمج بشكلٍ ناجح وغير متكافئ مجال إعادة الإنتاج ومجال الإنتاج. والتغيّرات في أحد هذين المجالين سيخلق إذًا موجاتٍ في المجال الآخر. الأجور المنخفضة وتخفيض التكاليف في العمل في هذا العصر النيوليبراليّ قد تؤدي مثلًا لحبس الرهن العقاري والعنف المنزلي.

لِم هذه الفكرة هي الأهم؟ لأنها توفّر مادةً تاريخية فعليّة لفهم (أ) من هو أو هي «العاملة» و(ب) بأيّ سُبل يمكن للعمّال أن يناضلوا ضدّ النظام الرأسمالي. والأهم هو أنّ هذه النظرية تساعدنا على فهم كون أيّ مكاسب نحققها للحقوق الجندريّة سواءً داخل الاقتصاد الرسمي أو خارجه ما هي إلا مكاسب مؤقتة لأنّ الأساس المادّي لاضطهاد النساء مرتبط بالنظام بأكمله. أيّ حديثٍ إذًا عن إنهاء الاضطهاد أو التحرّر يجب أن يُبنى عن حديثٍ متزامن حول إنهاء النظام الرأسماليّ بأكمله.

أهميّة مجال الإنتاج

لو كانت النساء توفّرن الدعامة الرئيسية للنظام الرأسماليّ خارج مكان العمل من خلال عملهن غير المأجور، فهل معنى ذلك أنّ مسائل العمل الإنتاجيّ متعلقة بالرجال حصرًا؟ أيُّ شخصٍ يعتقد أن تشكيلة الطبقة العاملة اليوم تماثل الصورة النمطية للقرن التاسع عشر لعاملٍ ذكر أبيض يرتدي رداء العمل الأزرق حاملًا مِلواه يجب عليه أن يأخذ نظرة أقرب للصورة الحقيقية لسوق العمل الأمريكيّ.

الغالبية العظمى من النساء في الولايات المتحدة تعملن من أجل لقمة العيش، مما يعني أنّهن يبعن قوّة عملهن في السوق، ويعني أنّهن عاملات. تشكّل النساء حوالي نصف – أو 46 بالمئة – من اليد العاملة الأمريكية، ونسبة الأمهات المتزوجات العاملات ازدادت من 37 بالمئة في عام 1968 حتى 65 بالمئة في عام 2011. ووِفق دراسة أجراها مركز «أبحاث بيو» وأصدرها عام 2012، وصلت نسبة الأمهات الأمريكيات القائمات بدور المعيلِ الرئيسي للعائلة لرقمٍ قياسيّ قدره 40 بالمئة من الأمهات، مقارنة بمجرّد 11 بالمئة من الأمهات عام 1960.

وبينما عضوية النقابات منخفضة الآن بالنسبة لمجمل العمّال في الولايات المتحدة، فعدد النساء النقابيّات ليس متأخرًا جدًا عن عدد الرجال النقابيين. ووِفق مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، حتى بعد الانخفاض الحاد في عضويّة النقابات منذ نكسة 2008، فإحصاءات 2012 تبيّن أنّ نسبة عضوية النقابات لدى الرجال كانت اثنا عشر بالمئة مقارنة بعشرة بالمئة للنساء. وهذه الاستنتاجات تبيّن أيضًا أنّ احتمالية انتماء العامل الأسود لنقابة أعلى من أقرانه البِيض والآسيويين واللاتينيين.

يترتّب على ذلك أنّ أيّ شخصٍ يزعم أنّ مسائل النساء تتعلق حصرًا بما نمرّ به أو نعرّض له في المنزل (العنف الجنسي، الصحة الإنجابية، والعناية بالأطفال وما إلى ذلك) أو ما يجري خارج مجال الإنتاج هو مخطئ بكلّ بساطة. أيُّ نقاشٍ حول الأجور أو أماكن العمل أو التنظيم العمّالي أو النضال من أجل الفوائد يجب أن يضع بعين الاعتبار كونها مسائل مجندرة إلى حدٍّ كبير.

ولكن هنالك مجريين متناقضين جذريًا يُعلّمان التغيّرات الأخيرة لوضع النساء. الأول هو الإفقار البشع للغالبية العظمى من النساء والآخر هو بروز مجموعة ثريّة جدًا ومتعدّدة الإثنيات من نساءٍ ينتمين للطبقة الحاكمة. تشكّل النساء أكثر من ثلاثة أرباع العمّال في أكبر عشر قطاعات وظيفية منخفضة الأجر. كتبت سابقًا كيف أنّ الولايات المتحدة هي إحدى أربع بلدان فقط في العالم تفتقر لإجازة أمومة مدفوعة الأجر، جاعلة كون النساء أمّهاتٍ عامِلات أمرًا عسيرًا للغاية. علاوةً على ذلك، لا يملك ثلث العمّال الأمريكيين حقّ الحصول على إجازةٍ مرضيّة مدفوعة الأجر، ولا يملك إلا 42 من العمّال حقّ الحصول على إجازة شخصية مدفوعة الأجر، إذ يُشير ناشطون نقابيّون متحدّثين عن هذه الأوضاع:


ما هي الآثار على الصحة العامة حين لا يكون العمّال قادرين على أخذ إجازة مرضية أثناء انتشار وباء إنفلونزا؟ من سيعتني بالأطفال المرضى؟ من سيكون في المنزل ليعدّ الطعام ويساعد في أعمال المنزل؟ من سيخصّص وقتًا للاعتناء بالمرضى المسنّين؟

كيف للنساء أن يوازنَّ ما بين عبئ العمل غير المدفوع في المنزل والعمل مدفوع الأجر ذو الدوام الكامل في مركز العمل؟ الجواب الحقيقيّ هو أنّ ذلك غير ممكن.

في عام 1990، كانت نسبة مشاركة النساء في اليد العاملة 74 بالمئة، مما يجعل الولايات المتحدة تحتلّ المركز السادس ضمن 22 دولة نامية في هذا المقياس. وبفضل السياسات النيوليبرالية للعقدين التاليين، لم تزدد مشاركة النساء إلّا كسرًا واصلةً 75،2 بالمئة، بينما في الدول الصناعية الأخرى قفزت النسبة من حواليّ 67 بالمئة حتى قرابة الثمانين بالمئة.

والمسألة لا تتعلق فقط بكون النساء مجبراتٍ على أخذ وظائف ذات دوامٍ جزئيّ، بل هي تشمل عِداء مراكز العمل للطبيعة المُجندرة للعمل المنزليّ وذلك هو السبب وراء كون 9 بالمئة فقط من الأمهات العاملات يعملن أكثر من 50 ساعة أسبوعيًا.

دعنا نفكّر بذلك الأمر للحظة. لو عمِلت الأمهات حواليّ 55 ساعة أسبوعيًا، ولو وضعنا بعين الاعتبار وقت التنقّل المعتاد، بيّنَت عالمات الاجتماع أنّه سيكون عليهن مغادرة المنزل الساعة 8:30 صباحًا والعودة 8:30 مساءً في كلِّ يومٍ من أيام أسبوع العمل! على الرغم من القوى الخارقة لتقنيّاتٍ مثل الإنترنت، فلا زال الأطفال يحتاجون من يأخذهم من المدرسة، ويحتاجون إنسانًا يطعمهم، والآباء المسنّون يحتاجون لإنسانٍ يعتني بهم. وفي أغلب الحالات في الولايات المتحدة، يكون هذا الإنسان امرأة.

يبدو هنا من الدراسة الاستقصائية المذكورة أعلاه أنّ أيّ مسألة متعلقة بمراكز العمل هي في الواقع مسألة متعلّقة بالنساء والجندر أيضًا، والسياسات التي تحكم أماكن العمل لديها القدرة على التأثير بحياة النساء في عملهنّ ومنزلهن. ولكن، ما الذي يجب أن نناضل من أجله؟ هل يجب أن نناضل من أجورٍ متساوية مع الرجال في اقتصادٍ أجورُه منخفضة؟ هل يجب أن نناضل من أجل رعاية صحيّة مجانيّة للجميع تسهّل علينا أعباء العناية بالعائلة؟ هل يجب علينا أن نناضل كـ«نساء» أو كـ«عامِلات»؟

برزت في الآونة الأخيرة أصواتٌ لمجموعةٍ معيّنة من النساء في الإعلام دفاعًا عن حقوق النساء. جوان ويليامز، وهي عالمةُ اجتماع متبصّرة يتوجّب قراءة كتاباتها حول مسائل الطبقية والجندرية، هي إحداهن. ولكنّها أصدرت مؤخرًا ملاحظةً مخيّبة للأمل، قائلةً أنّ «النسوية الإداريّة هي بالذات ما نحتاج له اليوم لنحقّق انطلاقةً للثورة الجندريّة المتعثرة». وما تعنيه بـ«النسوية الإداريّة» هو حرفيًا «نسوية» كبار المدراء التنفيذيين للشركات متعددة الجنسيات، وتشير لشيرل ساندبيرغ [*]وبروفيسورة جامعة برينستون آن ماري سلوتر كقائداتٍ في «الجبهة النسوية الجديدة» هذه.

قد يُسعد الكثيرين دخول حفنة من النساء مجالس إدارة الشركات، فالمجالس هذه وملاعب الغولف المجاورة لها كانت لقرونٍ طويلة معقل امتيازات ذكورِ الطبقات العليا. ولكن هذا الأمر يبعث بسؤال مركزيّ: كيف تبدو الحقوق الجندرية حين نفصلها عن المسألة الطبقية؟ هل ستعملُ الرئيساتُ التنفيذيات بما يصبّ في مصلحة كلّ النساء؟

واقعًا، أكثرُ السياساتِ تعزيزًا لمصالح غالبية النساء هي بذاتها أيضًا السياسات التي تنقص من أرباح الرأسمالية كنظام إنتاج. على سبيل المثال، توفير رعايةٍ صحيّة مجانية للجميع سيضمن أن كلّ رجلٍ وامرأةٍ وطفل، سواءً أكانوا موظّفين مأجورين أم لا، سيكون لديهم رعاية صحية مجانية متى ما احتاجوها. وذلك سينقص أيضًا من اتكّال الامرأة العاطلة عن العمل على شريكها الموظف وبالتالي قد يسمح لها بأن تتحكم بصحتها وخياراتها الإنجابية، ناهيك عن دعم صحة عائلتها والعناية بها. بإمكانها أن تختار ما إذا كانت تريد أو لا تريد أن تنجب أطفالًا، ومتى يكون ذلك إن أرادت. وبإمكانها أن تحصل على مساعدةٍ منزلية – بدون تكلفة – للعناية بأفراد العائلة المسنين، وبالتالي مخفّضةً بشكلٍ كبير مقدار عملها في المنزل.

ولكن التجارة الطبية تجارةٌ تقدّر قيمتها بمليارات الدولارات، وستحارب هذا الأمر بأقصى ما لديها. ومن مصلحة النساء أيضًا أن يحصل جميع العمّال على أجورٍ لائقة، ذلك كونهنّ يشكلّن حصّة كبيرة ضمن أقلّ العمّال أجورًا في الاقتصاد الأمريكي. وهنا أيضًا نصطدم أرباح الرأسمالية، وهذه معركةٌ يصعب فوزها.

وشيريل ساندبيرغ وأمثالها في هذا العالم فارساتُ طبقتهنّ الرأسمالية، وسيستخدمن لغة حقوق النساء من أجل تقوية نظامٍ لا يفيد إلا طبقتهنّ، فساندبيرغ هذه مثلًا رفضت دفع أجورٍ للمتدرّبين والمتدرّبات تحت إدارتها حتّى أجبرها احتجاجٌ شعبيّ على تغيير رأيها. يحاول هذا الجيل الجديد المديرات التنفيذيات أن يوصل رسالة رئيسية، وهي أنّ العمل، والمزيد من العمل والكدح سيحرّر النساء.

لا شكّ أنّ استقلال النساء الاقتصاديّ هو حقٌ أُخِذَ بشقّ الأنفس ويجب أن يُعزّزَ دائمًا عن طريق النضال، ولهذا نجد في كتابات الماركسيّات الأوائل مثل ناديجدا كروبسكايا توكيدًا على عمل النساء في مجال الإنتاج وإمكانيّاته التحرّرية. ولكنّ «الاستقلال» الاقتصاديّ يبدو على شيريل ساندبيرغ بحلّة أفضل مما يبدوا عليه لدى أمٍّ تحصل على الحدّ الأدنى للأجور، وذلك لأنّ علاقة ساندبيرغ، كرئيسة، بالرأسمالية، هي علاقة تحكّم، بينما علاقة الأمّ العاملة هي علاقة فقدان السيطرة. ففي حالة الأم، لا تُكسِبها وظيفتها إلّا استقلالًا اقتصاديًا محدودًا عن شريكها أو شريكتها، بينما تجلب لها اتكّالًا تامًا على تقلبات السوق.

حين تقول ساندبيرغ أنّه على النساء أن تكدحن أكثر لتحقيق المنافع، فهي تطالب من طبقةٍ معيّنة من النساء – وهي طبقتها الرأسمالية – أن تنتزعن جزءً أكبر من السيطرة على النظام مِن رجال طبقتها، بينما تبقين النظام على ما هو عليه سائرًا عن طريق عمل غالبية النساء المأجور وغير المأجور.

حقًا، تقول باحثاتٌ مثل كارين نوسباوم أنّ النظام خلق مساحاتٍ قليلة لنساء الطبقة الحاكمة في الأعلى بغرض تجنّب خطر تغيّراتٍ مؤسساتية أعمق تُحوّل إن حصلت علاقة أغلبية النساء تجاه العمل:


من أجل احتواء مطالب النساء العاملات، خلق الرؤساء فرصًا لبعض النساء، متيحين وظائفًا احترافية وإدارية لخرّيجات الجامعات مع رفضهم لمطالب التغيير المؤسساتي المُحسِّن لوظائف كلّ النساء. استمرّت النساء، في طرفي اليد العاملة، بمشاركة اهتمامٍ بشأن مساواة الأجور وسياسات العمل وارتباطه بالعائلة، ولكنّ حساسية هذه المسائل وشدّتها اختلفت مع تغيّر أوضاع الفئتين. خلق الرؤساء صمّام أمان، فخرِّيجات الجامعات اللاتي عمِلن كمصرفيّات بنوك أصبحن رئيساتٍ للفروع، والكَتبة في دور النشر أصبحن محرّرات، فنسبة النساء العاملات كمدراءٍ أو في الوظائف الاحترافية تضاعف ما بين 1970 و2004، من 19 حتى وصل 38 بالمئة.

من التسطيح القول بأنّ المعارك حول مسائل الجندر في مجتمعاتنا هي ذاتها المعارك حول مسائل الطبقيّة، ولكن يصحّ القول أنّه (أولًا) واتباعًا لخطى ليز فوغيل، أنّ النضال الطبقيّ يمثل «الديناميّة المركزيّة» للتغيّر الاجتماعي، وأنّه (ثانيًا) من مصالح الرأسمالية كنظام منعُ أيّ تغيّراتٍ واسعة في العلاقات الجندرية، لأنّ أيّة تغيرات حقيقية في العلاقات الجندرية ستؤثر في آخر المطاف على الأرباح.

أهميّة مجال إعادة الإنتاج

من المنطقيّ إذًا القول أنّ أفضل طريقةٍ للنضال من أجل حقوق النساء في مجال الإنتاج هو من خلال تنظيماتنا العمّالية، فهنالك لحظاتٌ ملهمة حقًا في التاريخ العمّالي حيث ناضلت النقابات الحِرفية من أجل حقوق الإجهاض ومساواة الأجور وضدّ الهوموفوبيا.

ولكنّ الطبقة العاملة لا تعمل فقط في مقرّات العمل الإنتاجية. فالمرأة العاملة تنام أيضًا في منزلها وأطفالها يلعبون في الحدائق العامة ويذهبون للمدارس المحليّة، وتطلب هي أحيانًا من أمّها المتقاعدة مساعدتها في الطبخ. بعبارةٍ أخرى، تُمارَس الوظائف الرئيسية لإعادة إنتاج الطبقة العاملة خارج مقرّات العمل.

من يفهم هذه العمليّة أفضل من أيِّ جهة أخرى؟ الرأسمالية. ولهذه السبب تشنّ الرأسمالية هجماتٍ على عمليّات إعادة الإنتاج الاجتماعيّ بشراسة كي تنتصر في معارك مجال الإنتاج. ولهذا السبب تهاجم الخدمات العامة وترمي ثقل العناية على العائلات النووية وتخفّض من الرعاية الاجتماعية، وذلك من أجل أن تجعل الطبقة العاملة بأكملها عُرضة للهجمات في مراكز العمل وغير قادرة على التصدي لها.

ومن غير الرأسمالية يفهم هذه العملية بنفس المقدار؟ الماركسيّات والماركسيّون. ولهذا السبب بإمكان الماركسيّة أن تشكّل الرابط ما بين مجال إعادة الإنتاج (الحيّ الذي ستُغلق فيه مدرسةٌ عامة أو المنزل الذي تتعرض فيه المرأة للتعنيف)، ومجال الإنتاج، حيث يناضل العمّال أجل فوائد وأجورٍ أعلى.

تقوم الماركسية بذلك بطريقتين. أولًا: توفّر رابطًا تحليليًا لـ«مجاليّ» النظام الواحد، وثانيًا، من خلال النظرية الماركسية، تعمل الماركسيّات والماركسيون كمنبرٍ للمضطهدين والمضطهدات، بالخصوص في حال لم يتّسع القتال ليشمل مقرّات العمل. بالفعل، ليس من الصحيح أنّ الطبقة العاملة ليس بإمكانها النضال في مجال إعادة الإنتاج. ولكن من الصحيح أنّه ليس بإمكانها الفوز على النظام الرأسماليّ إلا في مجال الإنتاج.

بعض أكبر النضالات في تاريخ الطبقة العاملة بدأت خارج مجال الإنتاج. وواقعًا، أكبر وأهمّ ثورتين في العالم الحديث، الثورة الفرنسية والثورة الروسية، بدأن كعصيانٍ وشغبٍ من أجل الرغيف قادته النساء.

إنّ فهم الرأسمالية كنظامٍ مُدمج، يكون فيه مجال إعادة الإنتاج سَقالة لمجال الإنتاج، قد يساعدنا على فهم أهميّة النضالات السياسية في كلا المجالين وضرورة توحيدهما.

دعنا نأخذ قضيّة الحقوق الإنجابية، وهي أحد أهمّ نضالات عصرنا وليست بنضالٍ متعلّقٍ مباشرة بمراكز العمل. هل تتعلق الحقوق الإنجابية فقط بقدرة النساء على الحصول على إجهاضٍ أو موانع حمل؟ في الواقع، يجب تسمية «الحقوق الإنجابية» بالعدالة الإنجابية، وهي لا تتعلّق فقط بحق النساء في اختيار عدم إنجاب الأطفال، بل حقّهن في إنجاب الأطفال أيضًا.

إن تاريخ النساء الأمريكيات الأفريقيات وغيرهنّ من الأقليات في أمريكا تشوبه حالات تعقيمٍ قسريّ قامت بها الدولة. طوال الستينات، درست ولايات إيلينوي وآيوا وأوهايو وفيرجينيا وتنيسي فرض قوانين تعقيمٍ إجباريّ للأمهات السّود المعتمدات على الرعاية الاجتماعية. وحين صدر عقار منع الحمل «نوربلات» في السوق، أشارت افتتاحية جريدة «فيلاديلفيا إنكوايرير» لكونه حلًّا للفقر في مجتمعات السّود. وكان ذلك ذاته هو مصير النساء في بورتو ريكو. حين ذهبت الشركات الأمريكية في ظلّ برنامج «عمليّة بوتستراب» الاقتصادية لجزيرة بورتو ريكو بحثًا عن عمالة رخيصة في الثلاثينات والأربعينات، أدارت العديد من المصانع عيادات تنظيم نسلٍ داخِل المصانع للنساء العاملات، وبعض المصانع رفضت توظيف النساء إلّا في حال تمّ تعقيمهنّ.

ومسألة الخيارات الإنجابيّة يجب ألّا تنحصر بقدرتنا على التحكم بمبايضنا، بل أن تتّسع لتشمل التحكم بحيواتنا: حول ما إذا كنّا نريد أن ننجب أطفالًا ومتى، وعدد هؤلاء الأطفال، وأن يكون لدينا وقتٌ للعناية بهم، وأن يكون لهم مدارسٌ عامة يذهبون لها، وألّا يكونوا هم وآباؤهم خلف قبضان السجن، والأهم من ذلك هو أن نحصل على أجرٍ لائق كي نتمكن من اتخاذ قراراتٍ بكلّ هذه الشؤون.

تشير مقالة في جريدة «نيويورك تايمز» أنّ معدل الخصوبة انخفض بنسبة 9 بالمئة ما بين 2007 و2011، وهو انخفاضٌ يعتقد خبراء السّكان أنّه «بدأ بعد أن ترسّخت الأزمة الاقتصاديّة ولم يعد الأمريكيون يحسّون بالأمان تجاه أوضاعهم الاقتصادية». بعبارة أخرى، يبدو أنّ الجريدة اكتشفت للتو(!) أنّ أغلب النساء العاديات يفضّلن إنجاب الأطفال حين يشعرن بأنهن سيتمكنّ اقتصاديًا من إطعامهم والعناية بهم.

إذًا، فمسألة إعادة الإنتاج ومسائل الإنجاب مرتبطة بأكثر الأسئلة جوهريّةً لمجتمعاتنا: من تـ/يعمل؟ وتحت إمرة من؟ ولأيّ مدة؟

من أجل نضالٍ مدمج ضدّ الرأسمالية

في ذات هذه اللحظة من الأزمة النيوليبرالية، تستخدمُ الطبقة الرأسمالية الجندر كسلاحٍ في الصراع الطبقي في الولايات المتحدة. نشهد اليوم دفاعًا متكرّر عن الاغتصاب تقوم به شخصياتٌ من المؤسسة الحاكمة، ومعه هجماتٌ قاسية ضدّ الحقوق الإنجابية وترانزفوبيا متنامية؛ كُلّ هذه الأمور نتيجة محاولة الرأسمالية بسُبُلٍ عدة حلّ الأزمة الاقتصادية عن طريق هجماتٍ على حيوات الطبقة العاملة في منازلهنّ ومقرّات عملهنّ.

والحلُّ الذي تقدّمه الماركسيّة ليس مجرّد الحديث عن أهميّة النضال الطبقي، بل ربط النضالات داخل الاقتصاد الرسمي بالنضالات الواقعة خارجه. ولكي يحصل ذلك، ليس أكثر الأمور أهميّة هو «إقناع» أصحاب الهويات المضطهدة، المهم هو أن نكسب ثقتهم بأن نُصبح أكثر المقاتلين جلادةً في المنزل وفي مراكز العمل.

ولهذا يجب علينا في المنظمات التي نطالب من خلالها برفع الأجور (مثل النقابات العمالية) أن طرح مسألة العدالة الإنجابية، وفي المنظمات التي نحارب من خلالها العنصرية الجنسية والعنصرية العرقية يجب أن نطرح مسألة الأجور.

نحتاجُ لجيلٍ من النساء والرجال الصامدين من أجل خلق ذلك الرابط في مراكز عملنا وجامعاتنا وشوارعنا. هذا هو التراث الماركسيّ الحقيقيّ.

المصدر: سوشالست ووركر