امرأة من سالم



خالد منصور
2005 / 12 / 5

كانت مثل لبؤة جريحة.. يتطاير الشرر من عينيها غضبا.. أنفاسها تتسارع وشفتاها ترتجفان.. الهيجان وصل عندها حدا أنساها أنها تواجه بصدرها العاري جيشا بأكمله جاء ليحاصرها – وليس غريبا أن يقتلها – حملت جذع شجرة زيتون وانهالت به على رؤوس أولئك الجنود، الذين تعودوا القتل واستمرؤوه.. لتنتقم ممن ذبحوها من الوريد إلى الوريد بقطعهم أشجار زيتونها.
صوتها كان مزمجرا قويّا مثلما الرعد.. صرخت فرددت الجبال من حولها ( ويلكم أيها المجرمون.. ما ذنب الشجر لتقطعوه.. ماذا تريدون منا..؟؟ أن نرحل..!!؟؟ أن نترك الأرض لكم..!!؟؟ لا والله لن نرحل .. ووالله سنبقى هنا كالشوكة في حلوقكم.. سنقاومكم حتى آخر قطرة دم في عروقنا.. سندافع عن أرضنا.. عن عرضنا.. عن وجودنا على ارض آبائنا.. وسننتصر عليكم مهما طال الزمن أو قصر.. وسترحلون إلى مزابل التاريخ وستهزمون شر هزيمة ).
كانت تقاتل بشراسة منقطعة النظير.. وكأنها نمرة تدافع عن صغارها.. تصرخ أحيانا.. تسب وتلعن.. وتبكي وتنوح أحيانا أخرى.. تتنقل بين الأشجار الذبيحة وتتفحص آثار الجريمة.. فيزيدها ذلك غضبا وهياجا.. أحيانا تجمع الأغصان المقطوعة لتضمها إلى صدرها، وكأنها أم تحتضن رضيعها وتتشمم رائحته.. وأحيانا تتحسس جراح الأشجار، وكأنها تمسح دموع أطفالها.. فيرتفع صوتها ممزوجا بالبكاء ( أيها الملاعين أبناء الملاعين ووالله لن تفلتوا بفعلتكم ).. كل ذلك كان يحدث وكتيبة من الجيش مدججة بكل أسلحتها كانت تراقب المشهد، وسرعان ما أصدر قائدها أوامره ليتقدم الجند نحو السيدة وحصارها، تمهيدا لإلقاء القبض عليها وإخراجها بعيدا عن أرضها.. عندها امتشقت الفلاحة الأصيلة سلاحها، الذي لم يكن سوى جذع شجرة قطّعته الأيدي الهمجية.. ولم تنتظر أم غانم إطباق الجنود عليها.. بل هاجمتهم هي، وهوت بالجذع على رؤوسهم.. فتراجعوا للحظة ثم عاودوا التقدم نحوها، مصوّبين أسلحتهم النارية نحو رأسها وصدرها، مهددين متوعدين متلفظين باحقر العبارات.. ولما أيقنت سيدتنا أنهم سيلقون القبض عليها، وأنهم سيجرّونها خارج كرمها الذبيح.. سارعت لاحتضان جذع شجرة زيتون كبيرة وطوقته بذراعيها.. أرادت التوحد معه وفضلت الموت معه على تركه لأعداء الحياة.. وصرخت بأولئك الجنود قساة القلوب ( أيها الجبناء اقتلوني في كرمي.. اشنقوني في ارضي.. لكن لا تبعدوني من هنا.. هنا أفنيت سنين عمري.. هنا زرعت بيدي وسقيت زرعي من دمعي.. هنا عرق أبنائي وآبائي وأجدادي.. ومهما فعلتم بي سأعود حتما إلى هنا لأزرع من جديد مكان كل شجرة تقطعوها شجرة، وسأحوّل الجبل كله إلى كرم زيتون اخضر.
كانت الصورة صارخة معبرة-- فلاحة متقدمة في السن ترتدي ملابسها التقليدية، تلتصق بجذع شجرة مارس عليها الغزاة الصهاينة ساديتهم وهمجيتهم، وافرغوا بها كل أحقادهم الدفينة، بتقطيعها وتحويلها إلى أشلاء متناثرة، بظن منهم أن فعلتهم الخسيسة هذه، ستدخل اليأس والخوف إلى قلوب الفلاحين أصحاب الأرض الحقيقيين.. متوهّمين بان الفلاحين سيصابون بالهلع والإحباط، وسيهجروا أرضهم ويوقفوا نضالهم وصمودهم.
لكن المرأة السالمية ومثل كل النساء الفلسطينيات-- أظهرت لهم أن جبروتهم لن يحقق لهم ما يبغون.. وأثبتت لهم أن شعبنا مثل زيتون بلادنا، جذوره ضاربة في أعماق أرضه، يمتلك عزيمة من حديد، ومستعد لتقديم اعز ما يملك فداء لأرضه، ودفاعا عن وجوده.
كانت بطلتنا ( أم غانم ) تحتضن الشجرة وكأنها أم شهيد حقيقية.. قاومت إبعادها عن شجرتها الشهيدة.. وفعلت ما تفعله كل أمهات وزوجات وبنات شهداءنا، عندما يتشبثن برفات أبنائهن ويرفضن بإصرار تركها، حتى لرفاقهم الذين يأتون كالعادة لزفهم إلى مثواهم الأخير.
ما أروعها.. ما أعظمها تلك الفلاحة ( أم غانم ) التي حتما تستحق منا أن نروي قصتها لكل أبناء شعبنا.. إنها النموذج الذي يستحق أن نبني مثله آلاف وعشرات آلاف النماذج- نساء ورجالا- كي تنبض عروقهم بمثل حبها للأرض وبمثل انتمائها لها، واستعدادها للتضحية من اجلها والدفاع عنها.
فكل التحية والإجلال والإكبار لهذه المرأة الريفية العظيمة، التي أسهمت دون أن تدري برفع مكانة المرأة الفلسطينية.. أكثر بعشرات المرّات مما تفعله آلاف البيانات، الصادرة عن كثير من الأطر التي لا تمثل سوى سيدات المجتمع الراقي.. وحريّ بكل الناشطات النسويّات أن يذهبن لزيارة هذه المرأة المناضلة، ليكتسبن شيئا جديدا يضفنه إلى ثقافتهن ووعيهن.

**** ملاحظة: سالم قرية فلسطينية عدد سكانها 5000 نسمة، تقع شرقي مدينة نابلس، على بعد 6 كم منها، صودر ربع أراضيها لخدمة أغراض مستوطنة ألون موريه، وقد بنى المستوطنون بؤرة استيطانية جديدة على أراضيها في منطقة اللحف، الأمر الذي جعلها تظل عرضة لاعتداءات المستوطنين، فقبل أسابيع حرق المستوطنون أكثر من 350 شجرة زيتون، وفي يوم 27/11/2005 قطعوا ودمروا أكثر من 300 شجرة زيتون أخرى.