الحجاب والخداع الفقهي باستغلال النص. ح2



عباس علي العلي
2016 / 6 / 19

إذن لا عجب أن نرى كيف تعامل الفقيه والمجتهد مع مشهد النصوص التي ورد فيها الحجاب وتعميم النتيجة الأعتباطية على موضوع لا يرتبط أصلا بالحكم لا من بعيد ولا من قريب، نأخذ مثلا مجموعة النصوص التي ورد فيها لفظ حجاب وهي:
• {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} الأحزاب 53.
• {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}٤٥ الإسراء.
• {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا }١٧ مريم.
• {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ }٤٦ الأعراف.
• {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ }٣٢ ص.
• {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ }٥ فصلت.
• {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ }٥١ الشورى.
• {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}15 المطففين.
من مجمل هذه الآيات هناك صورة مشتركة تتلخص في النقاط التالية:
1. الخطاب في الحجاب ليس موجها للمرأة مطلقا بل هو خطاب للإنسان وحتى يصل موضوعه إلى ما هو أدنى منه كما في قضية حب الخير.
2. الحجاب هنا لها معنى واحد مشترك وهو قطع الرؤية بين طرفين دون أن يكون ذلك من طرف واحد وهو قطعا بواسطة مانع أما مادي كالستارة أو طبيعي كعدم القدرة على الرؤية.
3. الحجاب هنا وصف حال مشهدي لا يتعلق ببناء حكم تكليفي ولا يؤسس لها، بل هي بالعموم إخباريات عن قصص تفيد العبرة عدا النص الأول وهو نص أخلاقي مرتبط بطريقة التعامل بين الناس مؤمنهم وكافرهم مع نساء النبي، والمخصص بالعين لا يجوز تعميمه إلا على سبيل النصح والإرشاد وهو حكم إلزامي فقط مع نساء النبي وأنتهي بأنتهاء وجودهن.
4. الحجاب المذكور في النص الأول والنص الخاص بمريم لا يتعلق باللباس الشخصي مطلقا ولا علاقة له بما يعرف اليوم بالحجاب الشرعي، كلا النصين مخصصين بالعين كألة أو وسيلة لحمايتهن داخل البيئة المفترضة لهن وليس خارجها مطلقا.
5. الحجاب الموسوم في الآيات خال من دلالة الإلزام العمومية وحتى في النص الخاص بزوجات النبي جاء بطريقة أخلافية وليس طرح من باب قوننة الوضع، والفرق كبير بين الحكم الملزم وبين الإرشاد النصحي في ترتيب الجزاء أولا وفي تحصيل الطاعة ثانيا.
نعود للخدعة الفقهية عندما ربط العقل الديني بين فكرة لم تكن موجودة أصلا في زمن النص ولا قريبا منه، وبين قراءة متأخرة له مربوطة بواقع حال تطور زمنيا واجتماعيا وعرفيا وثقافيا عن زمن النص، ليقول أنه أي النص الديني أراد هذا المعنى من خلال ربط منظومة نصية أخرى تتبع فكرة أخرى على أنها هي المعني بها في مفهوم الحجاب، النص المعني هو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}٥٩ الأحزاب، هذا النص ليس له علاقة في الحجاب التي وردت في النصوص السابقة أولا لا من حيث الماهية ولا من حيث الموضوع، إضافة إلى أنه يتعلق بالجلباب وهو ثوب المرأة الطويل والذي عادة ما يلبس للهيبة والإحتشام دون أن يعني حجاب الرأس المعروف حاليا ولا حتى ما يسمى بالحجاب الشرعي.
إذاً هذه الآية ليست أمراً لجميع النساء في جميع العصور بأن يلبسن الجلابيب كأمر حتمي حتى مع أعتبار التأسي بنساء النبي، لذلك فإن الآية تتوجه بوضوح لنهي المرأة عن تسخير ثيابها في أغراض التبرّج والإثارة التي تتنافى مع أحترام المرأة لنفسها أولا، وهي فكرة لا علاقة لها بالحجاب والتحجب المزعوم اليوم شكلا وروحا على أنها من شروط العفاف ومستلزمات الإيمان، ولا تلزم المرأة بزيٍّ معيّن بقدر ما تلزمها بأن تتحرّر من عقدة (الجارية) التي تعتبر بالعقل الديني مجرد بضاعة لا تنتمي للإنسان والإنسانية، ولهذا السبب جاء في تكملة النص {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ}؛ لأن تسخير الثياب لخدمة العريّ والتبرّج علامة واضحة وصريحة على تعمّد الإثارة ولفت النظر الذي يؤدي لاستصغار شأن المرأة وتضيع حقوقها الوجودية.
النص الأخر الذي وقع فيه الخرق والخداع وإن كان يبدو للقارئ العام تطبيقا لما يفهم اليوم بالحجاب النسوي، لكن النظر النقدي في دلالات وقصديات النص تعري هذا الفهم من مثاليته المغال فيها وتعيد النص إلى المراد الحقيقي له، وهي المعروفة بآية الخمار{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ…} النور31، الخداع هنا هو تعميم الأستثناء وتقصير العموم العام، العام عدم إظهار الزينة عند المرأة وهي مفردات تأخذ هويتها من تقاليد وأعراف المجتمع لأن الموضوع فيها نسبي، هذا النسبي مستثنى منه أصلا ما ظهر منها وهي الكفين والقدمين والوجه وما يتناسب مع مستلزمات الحياة اليومية للمرأة.
حتى صيغة النص لا تحتم معنى الأمر والإلزام بقدر ما تشير إلى الحالة التربوية حين يبدأ النص (وقل) الواو للإضافة، بمعنى متابعة لقول أو لنصح سابق أو لوضع متقدم جرى فيه الحديث، وهو هنا نص الآية السابقة لها {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ..... ذلك أزكى لهم} النور30، وما جرى التأكيد عليه في النصين المتعاقبين ودلالة حرف الإضافة والعطف الواو في النص الثاني جزما تؤكد حقيقة غيبها العقل الديني لأهداف تشددية لا أكثر من ذلك، والحقيقة أن البناء اللفظي والمنطق اللغوي العقلي يفيد النصيحة والإرشاد دون الأمر المولوي الخاص كحكم بدليل أختيار كلمة أزكى وهي من باب الحث لا من باب اللزوم.
من كل ذلك يتضح لنا وبشكل قاطع وجازم أن العبث بالمعاني من خلال ربط الكلمات والمصطلحات المستخدمة في النصوص برابط وهمي وجعلها كتلة ذات فهم واحد وصرفها بأتجاه هدف محدد، هي عملية خداع للناس وتضليل وتحريف للمعاني وهذا النهج ليس محصورا في قضية الحجاب لوحدها، بل من الممكن القول أن الأختلاف والتعاط العام مع الكثير من القضايا الحكمية والأحكام العملية التي شهدت بسببها العقلية الدينية المزيد من التناقض والتشظي يعود لهذه المنهجية الأعتباطية، قد يكون للبعض براءة من سوء القصد وأحتمال تبني مثل هذه المواقف هوة لقلة الإدراك العميق بقصديات النصوص، أو لضعف المقدمات التقويمية التي تمنطق الفهم العقلي للنصوص، لكن من المؤكد الغالب أن الإصرار والتمادي فيه على هذا النهج يمثل عدوانا على الدين وعلى من يؤمن به ويتقلده.