رسالة كردستانية الى السيدة القريشية هند المحترمة - الجزء الثالث



وداد عقراوي
2005 / 12 / 12

كنت واقفة امس عند ساحل البحر فارغة البال من شواغل المختبر... انتظرتك سيدتي هناك ـ امام مطْلع هلال القمر في لحظة سمر. ترأى لي لوهلة طيف كاهن الهنود الحمر... سمعت عزائمه وصلواته الخاصة باستسقاء المطر... مددت على البحر البصر... الدقائق القليلة بدت كأنها لطولها دهر... ثم دوت صيحة طائر كنَقَّار الخشب الاخضر... وقلت علها تاتي مع النداء الاحمر، مع نزول اولى زخات المطر، محلقة على بساطها المبعثر بعد سماعها الخبر المنتظر. حين تحضر بصحبة السيدات الاخر سننبهر بجمالها وجمال النساء الحسان اللاتي سيحطن بها كالهالة حول البدر المنور... سنتقاسم الحزن ونعيد التوازن... سنتبادل الهمسات والايحاءات... لنصد القهر والهجر... وننعم بسمو المشاعر والخواطر... برؤيتها ستَكُفّ السماء عن البكاء وتمضى النجوم حولها بالسهر، ويتضوع الهواء طيبا كالمسك والعنبر، وتبوح الافواه بسر طاف وعبر.

كان البرد المنثور حولي قارصاً ولكني لم اشعر الا بشئ شبيه بالغثيان... يداي ترتجفان... عيناي تدمعان... شفتاي تتحركان وتهمسان بكلام غامض محيّر... لوني كشَرَقُ الارض شاحب ينعكس من الارض على وجه القمر، كالهلال بالرغم من انه لم يتلق ضوءاً من الشمس مُسَيَّر. معطفي يتمايل واترنح على رمال ارض غريبة مع وصول كل موجة ريح تُصَوب سهامها نحو الوتر: وتر عضلة ساقي: وتر أخيل، نقطة ضعفي، وكأن والدتي ـ كوالدة الشخصية الاسطورية أخيل ـ كانت قد غمرتني في طفولتي في نهر سيتكس لاكتسب القوة والحماية من الأذى ويتقوى جهاز المناعة لدي، ولكنها حين سنحت لي فرصة تقبيل كل جزيئة من جزيئات الماء باوكسجيناتها وهيدروجيناتها والكتروناتها الحرة كانت ممسكة بعقبي من الوتر ـ الشبر الوحيد في جسدي الذي لم يلمسه الماء وتُرِكَ للقدر.

ثانية تمنيت وقلت لنفسي: ربما تصدف الصدفة والقاها لنتحاور ونتسامر. ثم استدعيت اجوبة لجملة اسئلة: أهي حقاً لحظة حوار وسمر ام آيات سحر وآهات ضجر؟ ما الدنيا بدون منبر حر؟ أيمكن ان تترك الشيخوخة آثارها بدون مرور سنين عمر؟ أمن الانصاف ان تنقضي الاعمار في فِناء قبر؟ أيمكن لاجراس العنف ان تغتال احشاء الصبر بخنجر؟ ونحن، اين نحن من كل هذا وماذا نكون؟ وانا؟ أمومياء انا بتصرفات بشر؟ مومياء ملقاة على ركام منزل مدمر! أين جثتي الحقيقية؟ لا ازال ابحث عنها منذ سنين؟ احتفظ بباقة ورد قرمزية ذابلة تحمل عبق الياسمين، اريد ان اضعها فوق جسدي المتروك في ارض الخالدين؟ اشتريت قبراً لادفن جرحي وقلبي المنسي فيه... ولكن أين قلبي؟ من اقتلعه ورماه في اعماق هذا البحر؟ من تكون وداد بدون فؤاد او بلُبٍّ مُنْسَحق؟ اذريون حدائق بلا رحيق! سماء قطب بلا شفق! عاصفة فارقها البرق!رواية مرموقة تفتقر للسرد المشوق! اسطورة حب بدون أبجدية عشق! عالم هاجره الصدق! عيون سكنها الظلام وفقدت لذة التمتع بالحياة بمعالمه وألوانه بعد أصابتها بالأرق! احباب الهبتهم سياط شوق ونار ومرارة فراق بدون وفاق وليالي تلاق؟ اطفال محرومون من المأوى الملائم وحق المطالبة بالحقوق! سجناء ممنوعون من ضوء نور الخالق! مدينة اخناتون بدون اله قرص الشمس ـ اتون!

بعدها بدقائق نشقت رائحة اريج جذاب مثير ـ لم يكن عبيراً بل ذكرى شذى يمم في مخيلتي وذكرني بان لا عبير لورود تنمو وتبرعم في المهجر.
أين انت الان سيدتي؟ اكبر ظني انك تجوبين الموانئ هنا وهناك، اوقد تكونين التقيت باحبابك وقرت عيناهم بلقاءك... اقتربي مني كفراشة تحوم نحو نبع النور! سيدتي ادري ان بيني وبينك الف سور... مبنية فوق اضرحة دور... في عالمٍ تَعَششَ الشرُ خلسةً وخفية في الصدور... الغيظ فيه مطمور ومسطور في الوعي المأسور.

لم تخطئ الطريق وحلقت فوقي كملكة نحل في مراسيم زفاف ملكية. عانقتني عيناها، ثم ارسلت أنغامها بصوت فيه نبرة رنانة مغرية:
أأنتِ على سفر؟
اجل سيدتي ووددت ان اصحبك معي في هذا النوع من السفر، لنفكر ونزهر معا حينما نخاطب الحجر... ونقنع المقاتل المتنكر، لنعيد النظر، كي نستوعب العِبََّر وراء الخبر... لتصبح رفقة عمر... وتنوري الدنيا باسره ساعة احتضار القمر.

ثم... توسل الكاهن الضرير وهطل رذاذ المطر. استغربت، بحثت باهتمام كبير وبعثرت الذكريات الخرساء الحزينة واللحظات اللامعة من الزمن: أتُنزِّل السماء مطراً ام ان عيون الكون الحالم تسكب دموعها لان الفلك في مأتم؟ أهي دموع تماسيح او ندابات جنائز باكيات بدون معيار ومبرر؟ ام انها قطرات خوف وفشل اوشواهد مكر معتبر؟

عندئذ علت في البحر ضجة الناعين منبئة بقدوم الشياطين، وبقتل الحب والحنين بيد الحقد الدنين، واغتيال الامان والدفئ الهادئ وقصص المحبين التي كانت تواسينا... انتهى وقت رحابة الصدر والتسامح بكفن ودفن السلام والوئام... اضطربت حتى الغليان وسمعت قبقبة، لا اعلم ان كانت قبقبة موت ام كلام.
حيوانات البحر كلها صرخت صرخة ارتجت لها الالهة، حالها في ذلك حال الانس والجن ومحيطات وبحار الارض والسماوات... امواجها هاجت، الامطار الغزيرة هلت، الطوفان بدأ والانهار والبحيرات فاضت ـ حتى الجمودية والوهدية منها... السفن غرقت والافواه بالماء امتلئت والموت انتقل في كل مكان، يزرع ويحصد دونما شفقة او رحمة او نأمةِ غفران. المراكب تمايلت على دروب الرب، حبال الغّبن انقطعت والكندولات انقلبت رأسا على عقب. استغاثَ واستعانَ الناس بعضهم ببعض... مراسي السفن ذوي الخمس شُعب مزقت احشاء البعض... استمسك غريق بغريق، من هب لانقاذ من؟
انهار دموع الغارقين والخائفين جرت وزادت تركيز الملح في الماء المالح. زبد البحر افرز سائلا كالحبر عند سماع الخبر.. بحلول الخطر وانتشار الغدر. زمارات البحر الكبرى بكت، شقائق النعمان نطقت، انكمشت وتقلصت، سرطان البحر سلخ جلد الاسماك التي هالت على جسمها رمال قاع البحر وتناهت الخبر الى الدلافين وكشفت لحمها وعضامها الفقارية الممزقة. الدلافين صرخت مولولة ومدهوشة ذاهلة، لوت تارة زعانفها ونزعتها تارة من جذورها... خربشت افواهها الوردية النضرة واذا بالدم يتدفق كالنهر ويلون ماء البحر بلونه القاني الغزير... وقالت: يالهول الزمن كيف استقبلت الارض دماء الحب الزكية؟ كيف؟ الحياة في الدنيا بغير حب ليست حياة! شعلة الاحساس يجب ان لا تنطفئ!

تسألت: أهذه مسرحية او نوع من السخرية الراقية؟
ثم أجفلت كالطيور المرتعشة بنظراتها الخائفة... وأسلمت لهاثي ـ عبر متاهات مظلمة وبين أفكارغريبة هائمة وقامات اشجار منحنية واغصان ملتوية ـ لركض قادني إلى غابة ضبابية، جداولها العارية تجري بسرعة خيالية، كادت تجرفني معها بامالي الفانية.
فجأة خاطبْتني سيدتي بصوت فيه دفئك المعهود: ما هو حصادك؟

اجبتك: لا يوجد سيدتي حصاد مباشر... فان حسن النية اثراء واغناء للفكر... الكل يخرج بقيمة زائدة بعد استدراكها.

قلتِ بتنهد ياهند: مانفع الحسرة والتشكي والدموع والانين والحب الدفين تحت حطام بيوت وانقاض عمران خربها المستعمرين، في عصر مضطرب زاخر بالقسوة والوعود الكاذبة والمنهزمة والهابطة والعهود المبتذلة والمبذولة والمشخصنة... في عصر السرعة والتخصص... في عصر العولمة بتجلياتها السياسية لا تزال السيادة بيد قانون العصا لمن عصى والاستسلام للقسمة والنصيب.

مانراه اليوم سيدتي هو النتيجة الحتمية لاهتمام وتركيز الانسان على المصالح الشخصية والامور المادِّية. الانسان يتعاطى مع اخيه الانسان كغنيمة حرب، امور لعظم خطرها تهتز لها السماء والارض... وتعجز الحروف عن وصفها بفيض.

ضياع الامل وتلاشي محاولات الحث على مقاومة الظلم والاحتلال والرثاء والفخر بالاوطان جمدها صدى الكتمان! من المحزن ان يُبنى البنيان بلا اركان... ان تُقرأ الاسطورة بلا عنوان... ان تُجرف واحات الامن والامان بحجة القضاء على العصيان والحفاظ على الايمان...

نتوق لتوقف كائن عابر ـ نجا من الطوفان ليطلق سراح الكلام الحاضن لدلالات الوجود الجوهرية ولينفض ركام الوهن والعجز عن العين وكواهلنا... ليناقش الجنون والشجن المزمن... ويمسح الحزن على جبين الزمن... ويتعاون لارجعاع الانسان الى مكانه المتين... ويعيده الى بطن امه جنين ...

كانت هذه رسالة مطولة الى سيدة مبجلة بعثتها

وداد عقراوي

سيدة من كردستان تمد يدها بحذر وحنان لتُخْرجَكم من طي الكتمان والنسيان