الثقافة والجسد



صاحب الربيعي
2005 / 12 / 14

التنافس الاجتماعي الحر له شروطه ومتطلباته ويقتصر على نخب المجتمع خاصة في المجال الثقافي، فالكفاءة والقدرة والموهبة الأدبية هي المعيار الأساس لخوض التنافس واحتلال مراكز متقدمة فيه، لكنه في المجتمعات المتخلفة يخضع لمعايير أخرى لا علاقة لها بالكفاءة والموهبة والقدرة الأدبية فقد يخوض التنافس عينات لاتمتلك الحد الأدنى من الموهبة وتفوز بمراكز متقدمة وتنهال عليها الأوسمة والجوائز من كل حد وصوب!.
فقد يكون وراء الأديب الفاشل، كيان حزبي يروج له إعلامياً أو سلطة قمعية توصله إلى القمة وبغض النظر عن أهليته ونتاجه الأدبي الذي يعاني من تصحر الموهبة والشروط الفنية...والواقع الثقافي العربي يفرز بوضوح هذا الانحدار بمستوى الثقافة العربية.
وقد يفهم المرء الدوافع الشخصية والحزبية والنفعية لهذا الترويج لعينات (ثقافية) مبتذلة في الوسط الثقافي واحتلالها مراكز متقدمة فيه، لكن ما يصعب على المرء إدراكه وفهمه أن تستخدم المرأة غير الموهوبة ومتدنية الثقافة جسدها جسراً للوصول إلى قمة الهرم الثقافي!.
هذا المعيار (جسد المرأة) يفعل فعله في المجتمع الذي يعاني من الكبت الجنسي وينال مناصريه من الحظوة والمكانة الثقافية بسرعة قياسية تحت شعار (الجسد مقابل الشهرة) وقد (تضطر!) إحدى المثقفات الموهوبات فعلاً لسلوكه للفوز بالفسحة اللازمة للكشف عن مواهبها الثقافية في مجتمع التنافس فيه ليس حراً وأنما يخضع لمعايير متعددة ليس لها علاقة بالثقافة وتوجهاتها الإنسانية.
وقد تلجأ إحدى المثقفات (بعد أن يحاصرها اليأس والفشل لإظهار مواهبها الثقافية) لمغازلة كاتب كبير له حضوره الثقافي، لتقاضيه بجسدها مقابل أن يأخذ بيدها إلى عالم الشهرة أو عالم تسليط الأضواء على مواهبها المغمورة!.
تعبر ((هيفاء بيطار)) عن تلك الحالة قائلةً:"أنا أهدي شبابي وحضوري الذي يدخل السرور إلى قلبه، وهو عليه أن يقدم لي خدمات يقدر عليها. ببساطة أنا لا أريد دلاله، ولا غزله، ولا اعترافه بموهبتي وثقافتي أمام أصدقائه، أريد خدمات ملموسة أن يلفت نظر ناشره إليًّ وأن يطلب إليه أن يُطلقني، أن يكتب مقالة أو أكثر عن أدبي".
ويستغل الكاتب أو منتج الثقافة المشهور هذا العرض النسوي لتعويض خسارته العاطفية أو بعث الروح في محطة عمره التي تقترب من نهايتها. وهو يدرك بوعي المغزى الباطني لهذا العرض السخي لشابة مثقفة ومغمورة تبحث عن دور لها في مجتمع أقفل أبوابه بوجهها مقابل فتح باب المقايضة لجسدها على مصراعيه!.
وبالرغم من أن المعادلة (الجسد مقابل الشهرة) تحط من كيانها الإنساني عند مواجهة الذات، لكنها بذات الوقت لابد من إيجاد المبررات للذات لإنقاذها من براثن اليأس والقنوط طالما فسحة الشهرة لاتأتي إلا من خلال الجسد. وليذهب المجتمع بقيمه وأعرافه الظاهرية إلى الجحيم، فما قيمة الموهبة والإبداع الذي يأسره الظلام مقابل الثقافة الرخيصة تحت الضوء.
إن المجتمع الذي يوصد أبوابه أمام لمواهب الشابة ويقر سراً بمعيار دعارة الجسد مقابل الضوء، لايجوز له أن يشهر سلاحه (القيم والأخلاق!) في وجه امرأة موهوبة تسعى لفسحة حقيقية لإعلان موهبتها الثقافية دون أن تدفع ثمناً لقاء ذلك!. وطالما نخبة المجتمع من بعض الكتب والمثقفين هي التي شرعت معيار الشهرة مقابل الجسد في السر، وبذات الوقت تشهر سلاح الأخلاق والقيم في العلن، فلا ريب من إتباع معاييره المزدوجة للفوز بالفسحة اللازمة لإعلان الموهبة والشهرة معا!.
تسلط ((هيفاء بيطار)) الضوء على الصراع النفسي الذي يشرخ ذات كاتبة موهبة قائلةً:"سأثبت موهبتي الأصلية لكاتب الكبير، سأحاصره عندها سيضطر لمساعدتي، سيتعهدني ويُعرفني بناشره الأكثر شهرة وثراء بين الناشرين. عندها ستفتح في وجهي أبواب الصحف والمجلات، وقتها سأحس بالرضى وبأن الزمن أنصفني".
هل حقاً تستحق الشهرة إذلال النفس؟.وهل المبررات قادرة على إنقاذ النفس من براثن مقايضة الشهرة بالجسد؟ وماذا لو تحول جسد المرأة المثقفة الباحثة عن الفسحة إلى سلعة منتهية الصلاحية دون أن تحقق الربح المنشود؟. أسئلة عديدة تتقافز إلى الذاكرة ومبررات لاحصر لها تحاصر الموهبة في المجتمعات المتخلفة التي لاتقر بالتنافس الحر وتعمل كآلة الإطفاء، لإطفاء المواهب الشابة.
إن تفريغ الأحاسيس والمشاعر من قدسيتها كرابط إنساني واستخدامها كوسيلة لتحقيق المصالح هي محاولة واعية لتسديد ضربة قاضية لأخر أصرة إنسانية في عالم تحركه المصالح أكثر من الروابط الإنسانية!.
تصور ((هيفاء بيطار)) تلك الحالة قائلةً:"اعتقد أنني في غزلِ الكاذب له، وادعائي أنني أفكر به ورش قبلاتي الحارة في رسائلي إليه، كنت اعترف بهزيمتي تجاه زمني الذي كان يجسده، هو. كنت أتصرف لمُنتهكة، كنت أحس أن الزمن الذي يضطهدني هو الزمن الذي يمجده وبالتالي كانت شهرته تذلني بطريقة ما، كنت أحياناً أجبر نفسي على مراقبة تصرفاتي وإخضاعها لفحص دقيق، أدهشني عمق الذعر والإحساس بالذل المعشعشان في أعماقي".
لقد أصبحت قيم وأعراف المجتمع المتخلف (الظاهرية والباطنية) تثقل الكيانات الإنسانية، وأصبح الشرخ الذي يفطر الذات يؤسس لحالة الانفصام بالشخصية ويخلق كيانات إنسانية انتهازية تعتمد وسائل غير مشروعة لتحقيق الذات لتنعكس في المحصلة على النتاج الثقافي الرافد للحضارة الإنسانية، وحين يكون هذا النتاج يحمل بذرة غير إنسانية ويتبع أساليب غير مشروعة في العرف الإنساني لتسليط الضوء عليه مُسقطاً قيمته الأدبية والفنية فإنه يثير العديد من الأسئلة عن جدواه وصلاحيته في خدمة الإنسانية.