هيلاري، الحرب والأنوثة



عبد الغني سلامه
2016 / 8 / 1

أخيرا، حزم الحزب الديمقراطي أمره، ورشح بشكل رسمي "هيلاري كلينتون" لتمثيله في سباق الرئاسة الأمريكية.. ومع انسحاب المرشحين الآخرين، واقتصار المنافسة بينها وبين الملياردير "ترامب"؛ من المرجح أن فرص النجاح ستكون من حظ "كلينتون"، لتغدو أول سيدة في التاريخ تتولى رئاسة البيت الأبيض.. الأمر الذي سيُفرح الكثير من النساء الأمريكيات، وحول العالم أيضاً.. ظنّاً منهن أنها ستكون ممثلة للصوت الأنثوي، وأن فوزرها دلالة على انتصار الفكر النسوي..
حتى لو كانت "كلينتون" أنثى بالمعنى البيولوجي؛ إلا أنها لا تمثل المرأة..

ستخيِّب "كلينتون" آمال النسويات، كما خيّب "أوباما" آمال السود والفقراء والشعوب المضطهدة.. فكلنا يذكر خطابه في القاهرة (2009)، والوعود التي أطلقها، بانتهاج سياسة أمريكية جديدة أكثر إنسانية.. لكنه تراجع، ونكص على عقبيه، بعد أن اصطدم بالمؤسسة الأمريكية ومراكز القوى والدولة العميقة.. "كلينتون"، حتى لو أرادت التغيير، ستصطدم هي الأخرى بالجيش، والمخابرات، ومصانع الأسلحة، وأصحاب الشركات العملاقة، ورؤوس الأموال، واللوبيات... وستخضع لهم، لأنهم هم الذين أوصلوها للبيت الأبيض..

"كلينتون"، لا تمثل الأنوثة، حتى لو كانت امرأة جميلة.. مثلها مثل رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا ماي"، التي قالت إنها مستعدة لتوجيه ضربة نووية إذا تطلب الأمر. ومثل "تاتشر" التي شنت العديد من الحروب.. ومثل "جولدمائير"، و"كونداليزارايس".. هؤلاء أتين للسلطة بعقلية ذكورية، وكنتاج للمجتمعات الذكورية..

الأنثى الحقيقية لا يمكن لها أن تشن حربا.. لا يمكن أن تقتل، أو تقمع، أو تَسقط في إغواء الملكية ومتطلباتها الوحشية.. لأنها ببساطة لا تحتاج كل ذلك.. الأنثى هي التعبير الأول والأنقى عن إنسانيتنا، هي صنو الحياة والعطاء والنماء، هي رمز الخصوبة والحنان والأمومة؛ فمن جسدها تُولد الحياة، ومن صدرها تطعم أطفالها، وخصبها وما تفيض به على العائلة هو خصب الطبيعة.. هي الشكل الأجمل للوجود، والنصف الأحلى لأي مجتمع.. هي الرقة والنعومة والصبر على الشدائد، هي الاحتفال بالحياة وتحمّل ويلاتها دون عنف ودون دماء ودون قهر.. وهذا ليس وصفا شاعريا للأنوثة.. تلك حقائق موضوعية دقيقة يؤكدها التاريخ والعلم.. المرأة أكثر تطورا من الرجل من الناحية الإنسانية.. وأقرب للكمال منه؛ لأنها تميل دوما للسلام وتنحاز للحياة والفرح.. المرأة هي العاشقة للحياة، ورغم ذلك تظل وفية لذكرى زوجها إذا رحل، خلافا للرجل الذي يتزوج عليها وهي على فراش المرض.. وهذا أيضا ليس تملقا للمرأة.. بل هي الحقيقة.. الرجل هو الذي اخترع الحروب والأسلحة والتدمير.. أغلب الجرائم تعود للرجال.. القادة العسكريون، وجنرالات الحرب دوما رجال.. وحتى رجال الدين وزعماء القبائل دوما رجال، وهؤلاء عادة هم أول من يشعل نيران الحروب..

في المراحل المبكرة من تاريخ البشرية عاشت المرأة عصراً ذهبيا سمي عصر الأمومة، وكانت حينها موضع حـبٍ ورغبة وموضع خوف ورهبة في آن معا؛ فهي تحبل بالبذور وتطلق من رحمها الزرع الجديد، وهي منشـأ الأشـياء ومردها، ولذلك حظيت بمكانة مرموقة، وصلت بها مرحلة التقديس إلى مستوى التأليه (الآلهة المؤنثة) وقد كانت "عشتار" تجسيداً لتلك الثقافة..

كان الرجل يذهب للصيد، أما المرأة فتظل في البيت لتعتني بالصغار، وفي الحقل للزراعة.. وهكذا، أخذا مسارين مختلفين.. الأول اقترن بالعنف والقوة والقسوة، فيما الثاني اقترن بالفن والجمال والرقة.. وكانت هذه بداية الانقلاب الذكوري على مجتمعات الأمومة؛ فمع توصل الإنسان البدائي إلى المعرفة الجنسية واكتشاف الصلة بين الجماع والإنجاب، صار يمارس الجماع ليس فقط للمتعة، بل من أجل الإنجاب أيضا، فنـزلت المرأة من منـزلة القدسـية باعتبارها "أم" تملك القدرة الإلهية على الإنجاب والإرضاع ووهْب اللذة، إلى مرتبة حاضنة للبذور التي يلقيها الرجل فيها، و"بقرة إرضاع"، وأصبح الرجل هو المخصب الإلهي، والمرأة هي الأداة، والرجل هو الذي يتمتع والمرأة إناءً لمتعته، وانتقلت العبادة من الآلهة الأم إلى الإله السـيد، حدث هذا مع سيطرة الرجل اقتصاديا ونشوء النظام البطريركي.

ومع استنفاذ قوة المرأة بيولوجيا بسبب الحمل والولادة والرضاعة والتفرغ لتربية الأولاد، ومع تتابع هذه العملية والانشغال بشؤون الأسرة، وبسبب عجزها الذي يعاودها مع الحيض، وعدم تدريبها على السلاح (الذي بقي حكرا على الرجل)، أدى ذلك إلى أعاقتها في حربها مع الرجال ومن ثم إلى هزيمتها، وبالتالي نزولها إلى مرتبة دنيا.

وهكذا تطور العقل العنيف لدى الرجل، وصار ديدنه البحث عن التميز، والتفوق، والحيازة، والمُلكية، بأدوات القهر والإخضاع، مدفوعا بهرمونات الذكورة المحفزة للحركة والعدوان، فاخترع الحرب وتفنن في تطوير أساليبها.. أما المرأة، فلم تكن بحاجة للحرب والقوة، فاحتفظت بالجانب الإنساني الجميل في داخلها.. رغم كل التحولات اللاحقة التي أخضعتها للرجل وعالمه، وقولبت مفاهيمها وفقا للعقلية الذكورية المهيمنة.

المرأة الحقيقية هي مريم العذراء التي ربت ابنها على التسامح، وخديجة بنت خويلد التي آوت الرسول واحتضنته.. المرأة الحقيقية هي الفيلسوفة "هيباتايا"، والعالمة "ماري كوري"، والأديبة المعجزة "هيلين كيلر".. المرأة الحقيقية هي الأم "تيريزا"، والمربية "سميحة خليل"، والمعلمة "حنان الحروب"، والرئيسة المحبوبة "إيفا بيرون"، وسيدة المصباح "فلورنس نايتينجل".. والشجاعة "مالالا يوسف"، التي تصدت للطالبان وناضلت من أجل حق البنات في التعليم.. هؤلاء النسوة وملايين غيرهن في ربوع الأرض ممن بقين يحملن عناصر الجمال والسلام في دواخلهن، ولم يخضعن للمفاهيم الذكورية، وانتصرن لإنسانيتهن.. هنّ من يمثلن نساء العالم، ورجاله.. وأطفاله، وأشجاره وأنهاره وسهوله..

"هيلاري كلينتون".. مبروك عليكِ رئاسة أمريكا.. ولكنك لا تمثلين نساء العالم.. بل تمثلين الرأسمالية بكل ما تتطلبه من عدوان وقهر وحروب..