العقيلة زينب الكبرى رمزٌ خالدٌ للإباء الحسيني.



جعفر المهاجر
2016 / 10 / 30

العقيلةُ زينب الكبرى رمزٌ خالدٌ للإباء الحسيني.
جعفر المهاجر.
كثيرات هن النساء اللواتي تركن بصمات خالدة على صفحات التأريخ وحين نتذكر إحداهن بعيدا عن روح المذهبية لابد أن ننحني إجلالا وإكبارا لزينب الكبرى عقيلة بني هاشم. تلك المرأة الجليلة الأبية الشجاعة التي وقفت وقفة الإباء كالجبل الذي لاتزعزعه العواصف الهوجاء أمام أعتى طغاة التأريخ وهي تعيش محنتها الرهيبة مخاطبة الطاغية يزيد بتلك الكلمات التي وضعته في أدنى درجات الصغر والوضاعة بتعديه على حرمة رسول الله وهو في أوج غروره وبطشه.
لاشك إنها وقفة عظيمة خالدة،وصفحة ناصعة في سفر الثورة الحسينية الخالدة على مر العصور.
لقد كانت زينب بمثابة صوت الإعلام النقي المدوي في زمنها للدفاع عن الحق الإلهي الجلي الذي ضحى من أجله الإمام الحسين وحاول الطغاة دفنه وحجبه عن أعين الناس وعقولهم ليغرقوا في فسادهم واستبدادهم دون أية صرخة احتجاج بوجوههم. ولاعجب في ذلك الموقف الزينبي المشرف الذي لابد أن يفتخر به كل حر أبي يسعى لمحاربة المستبدين بالسلاح أو بالكلمة التي لاتقل أهمية عن فعل الرصاصة الموجهة نحو أعداء الإنسانية .
لقد تربت البطلة الهاشمية الجليلة في حجر الطاهرة الراضية المرضية فاطمة الزهراء بضعة رسول الله ص،التي قال عنها: (فاطمة بضعة مني من أرضاها فقد أرضاني، ومن أغضبها فقد أغضبني.)
وهي التي نهلت الشجاعة والفصاحة والعلم من مدرسة بطل الإسلام المغوار علي بن أبي طالب ع أشجع فرسان العرب والمسلمين، وسيد الفصاحة والبلاغة وابن عم الرسول الأكرم محمد ص، وأول من آمن بالإسلام ودافع عنه في جميع معاركه الفاصلة ضد قوى الكفر والطغيان حتى الرمق الأخير والذي قال فيه الرسول الأكرم في واحد من عشرات الأحاديث:
( أنا مدينة العلم وعلي بابها ومن أراد العلم فليأت الباب.)
وهي التي ترعرعت في حجر السيدة الجليلة خديجة بنت خويلد التي قال عنها رسول الله ص:
( والله ماأخلفني الله خيرا منها آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس،وواستني بمالها إذ حرمني الناس. ورزقني الله بأولادها.) وكان الرزق العظيم فاطمة الزهراء البتول.
وبهذا النسب العظيم هي سليلة النبوة ، والغصن الطري الخالد من الدوحة المحمدية الوارفة الظلال التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
ولدت زينب ابنة علي بن أبي طالب ع في السنة الخامسة للهجرة في المدينة المنوره.وزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وأولادها عون ومحمد وعباس وأم كلثوم . ومن ألقابها الصديقة الصغرى وعقيلة بني هاشم والموثقة والعارفة والعالمة والفاضلة وزينب الكبرى وعابدة آل علي.وكان لها مجلس علمي حافل تقصده جماعة من النساء للتفقه في الدين وتفسير القرآن.
وهي التي حملت رسالة شهداء كربلاء في قلبها وروحها وكيانها، وعاشت نهضة الإمام الحسين بكل لحظاتها الدامية. وحين رفض مبايعة يزيد بقوله: (أن مثلي لايبايع مثله ) خرج من المدينة المنورة قاصدا مكة وخرجت معه زينب ع وولداها محمد وعون اللذان استشهدا في معركة الطف الخالدة.
وحين نستعرض حياة بطلة كربلاء نستحضر أمامنا كل قيم البطولة والشهامة والتضحية. ففي ليلة عاشوراء عندما بدأ الإمام الحسين ع يحدثها عن المعركة وعن النتائج الصعبة التي سوف تنتج عنها، وكيف يجب عليها أن توازن بين عقلها وعاطفتها لأن كل الدلائل تشير بأن وقعها رهيب ولكن لايمكن لشخصية كزينب أن تطلق لعاطفتها العنان رغم إن العاطفة لها قداسة إنسانية، لذا فإن زينب ع وازنت بين عقلها وعاطفتها بناء على توجيهات أخيها الحسين. وصار لموقفها أبعاده الإنسانية الكبرى الذي مثلته النهضة الحسينية.
والإنسان الذي تتجلى في روحه إشراقة التضحية والفداء في سبيل نصرة الحق لايخاف من أعتى الظالمين وأشدهم قسوة وإجراما. وهكذا كان موقفها مع الطاغية القاتل عبيد الله بن زياد في الكوفة وهو في أشد حالات طغيانه وغروره حين حاول تشويه نهضة أخيها الحسين ووجه لها تلك الجملة الخبيثة : (كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين ؟)
فأجابت بكل شموخ وإباء وهي في حالة من الحزن الشديد:
(هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فو الله لم تمحو ذكرنا ولم تمت وحينا ثكلتك أمك ياابن مرجانه.!!!)
لقد قدمت تلك البطلة العظيمة تضحيات كبرى لن يتحملها أقوى الرجال بعد أن رأت بأم عينيها استشهاد أخويها الحسين والعباس وأبنيها محمد وعون وابناء أخويها القاسم وعلي الأكبر وأبناء عمومتها من بني هاشم. فهي بنت شهيد وأخت شهداء وأم شهيد وعمة شهداء فكانت إرادتها أقوى من الخطوب التي ألمت بها وظلت تدافع عن الحق والعدل الذي سار عليهما جدها الرسول الأعظم وأبيها علي بن أبي طالب وأخيها الحسين وأهل بيته ع. في الخطابات التي أطلقتها ضد الطغاة وأعوانهم والمخدوعين بدعاياتهم المضللة كما حكام اليوم. لقد خطبت وهي على ظهر الجمل في دمشق خطبا بليغة صارت رمزا لخلود ملحمة كربلاء وتوعية للناس الذين ضللتهم الدعاية الأموية المنحرفة. وخطبتها أمام يزيد التي ذكرتها أمهات المصادر الإسلامية جعلت من ذلك الطاغية المغرور قزما مهزوما أمام كلماتها.
وعندما يستعرض أي باحث إسلامي منصف مواقفها ومضامين خطبها فإنه يجد في شخصها الإيمان وصلابة الموقف ورباطة الجأش وقوة العزيمة تلك الصفات التي دونها التأريخ بحروف من نور.
فهي التي أشرفت على قافلة سبايا أهل البيت ع وتولت العناية بالإمام زين العابدين ع ، وفضحت جور وظلم وطغيان وجبروت طغاة بني أمية. وفي مجلس يزيد لمحت رأس الحسين أمامه وبيده قضيب معدني يضرب ثناياه ويلقي أشعاره المعروفة التي يتشفى بها من رسول الله وأهل بيته ع للتنكيل بها لكنها كانت في قمة شجاعتها فألقت خطبتها التي تجلت فيها أروع قيم الصمود والتحدي الذي أساسه الأيمان بالله وقضائه وقدره ثم بدأت خطبتها قائلة:
( الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه حيث يقول:
( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) الروم-10
أظننت ـ يا يزيد ! ـ حيثُ أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ؟ وأنّ ذلك لَعَظم خطرك عنده ؟
فَشَمَخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوثقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفى لك مُلكنا وسلطاننا ؟ فمهلاً مهلاً ! أنسيت قول الله عزّ وجل ـ :
( ولا يحسبنّ الذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم ، إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً وًلَهُم عًذابٌ مُهين.)
أمِن العدل ياابن الطُلقاء تخديرك إماءك وحرائرك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟
قد هتكتَ ستورهنّ ، وأبديتَ وجوههنّ ، تحدوا بهنّ الاعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا مِن حماتهنّ حميّ.
وكيف تُرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء ؟ ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟
وكيف يستبطأ في بُغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشَنَف والشَنآن ، والإحَن والأضغان.
ثمّ تقول ـ غير مُتأثّم ولا مستعظِم ـ :
( لأهَلّـوا واستهلّوا فرحـاً ثم قالوا : يا يزيد لا تُشَل ) مُنحنياً على ثنايا أبي عبد الله ، سيد شباب أهل الجنة ، تنكُتُها بمخصَرتِك.
وكيف لا تقول ذلك ؟ وقد نكأتَ القرحة ، واستأصلتَ الشأفة ، بإراقتك دماء ذريّة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب.
وتَهتف بأشياخك ، زعمت أنّك تناديهم ، فلتردَنّ ـ وشيكاً ـ موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُلِلتَ وبَكِمتَ ، ولم تكن قلتَ ما قلتَ وفعلتَ ما فعلت.
اللهم خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حُماتنا.)
إلى آخر الخطبة العصماء وهي طويلة وتحتاج إلى شرح واسع ونقلها العديد من المؤرخين ومنهم أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر الملقب بإبن طيفور في(بلاغات النساء) والخوارزمي في (مقتل الحسين) ويقال أن الهرج والمرج سادا في ذلك المجلس الذي ضمه وضم أعوانه وقد حاول الطاغية إسكاتها وضربها لكنه عدل عن ذلك لنصائح تلقاها من بعض أصحابه.
فأية كلمات عظيمة وأية رباطة جأش اتصفت بها زينب ع في تلك اللحظات الرهيبة التي لايتحملها شجعان ألرجال. وأي موقف أعظم وأجل وأسمى من ذلك الموقف البطولي الخالد الذي مثلته تلك العقيلة الطاهرة المطهرة في تلك اللحظات العصيبة لانظير لها في التأريخ لكي يبقى شعلة خالدة تنير طريق الثوار والأحرار المؤمنين بقضيتهم العادلة رغم كل قوى القهر والجريمة والعدوان.
وقد عبر أحد الشعراء عن مصائبها قائلا:
صُبت عليك مصائب لو أنها
صبت على الأيام صرن لياليا
أما الصورة التي يعبر بها البعض عنها بأنها كانت منهارة أمام الشهداء وهي تسقط وتدعو بالويل والثبور فهي صورة مجافية للحقيقة ولكن حاجة الناس إلى مايجعل الدموع تنساب من المقل تجعل من البكائيات الممزوجة بالخيال تصوير ذلك.
لقد عاشت زينب ع صلابة الموقف وقوة الشكيمة وجذوة الإرادة المبنية على ثقة الإنسان بالقضية العادلة التي وهب نفسه من أجلها. وحين كانت تتدخل بأسلوب عاطفي لكي تحتضن موقف الحسين ع وتدخل إلى وجدانه فمثل الإثنان كبرياء الموقف بوجوه القتلة والطغاة الذين تجردوا من كل قيم الرجولة والشهامة.
لقد واجه آل البيت الأطهار أعتى الطغاة على مر التاريخ وفضحوا ممارساتهم وظلمهم وطغيانهم وقدموا أرواحهم قرابين على مذبح الحرية والفداء في سبيل نصرة الإسلام المحمدي الأصيل.
أليس من واجب المؤرخين تناول هذه الشخصية الإسلامية وتسليط الضوء على مواقفها وصمودها الأسطوري بوجوه الطغاة والمفسدين في ألأرض.
لقد قرأت قبل سنوات كتابا صغيرا للراحلة عائشة عبد الرحمن عنوانه ( بطلة كربلاء ) سلطت بعض الضوء على شخصية السيدة زينب التي تستحق أن يكتب عنها الكثير لتكون قدوة للمرأة المسلمة وخاصة في هذا الزمن الذي تتعرض فيه المرأة في الكثير من البلدان الإسلامية لشتى أنواع الإنتهاكات.
ولا يسعني إلا أن أستذكر موقف تلك العلوية الطاهرة ( بنت الهدى ) أخت شهيد الإسلام المفكر والفيلسوف محمد باقر الصدر قدس الله ثراه حين وقفت أمام طاغية العراق صدام مساندة أخيها في موقفه ضد ذلك الطاغية وهو في أوج ظلمه وجبروته وكانت وقفتها فيها الكثير من أوجه الشبه بوقفة العقيلة زينب ع ضد الطاغية يزيد.
لقد أختلف المؤرخون في تأريخ وفاتها، وذكر أغلبهم إنها إنتقلت إلى جوار ربها في الخامس عشر من رجب سنة خمس وستين للهجرة وقبرها في ضواحي دمشق يتوافد عليه المسلمون من مختلف أنحاء الأرض . وهناك قبر لزينب في القاهرة يعتقد إنه قبر السيدة زينب بنت على بنت يحيى المتوج بن الحسن الأنور بن زيد بن الحسن بن أبي طالب ع. وبلدة السيدة زينب في دمشق لاتنام ، ويقصدها مئات الآلاف من الزائرين في كل عام. وقد كانت وصية شاعر العرب الأكبر المرحوم محمد مهدي الجواهري أن يدفن بجوارها وقد شهدت ذلك بنفسي حيث اختلطت الدموع بالأحزان في ذلك اليوم وشارك فيه الكثير من الشخصيات العراقية التي كانت في المنفى نتيجة الظلم الصدامي البغيض وتصدرت موكب التشييع الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية آنذاك .وقد حاول الإرهابيون الوصول إلى مرقدها لهدمه لإشعال فتنة طائفية. لكنهم ردوا على أعقابهم ولم يبلغوا مرادهم بعد أن لاقوا مقاومة بطولية من الجيش السوري وحلفائه.
فسلام على زينب الكبرى في يوم مولدها وفي يوم انتقالها إلى جوار ربها ويوم تبعث حية مع جدها وابيها وأخوتها عليهم السلام جميعا.
جعفر المهاجر.
30/10/2016