المرأة الإنسانة وبدويّة الدّولة



حنان بن عريبية
2016 / 11 / 6

رصيد المجتمع العربي زاخر بجميع أنواع الفشل في عدم التّحرر من الكبت الّذي يطغى على جميع تصرّفاته والهوس بجسد المرأة وملاحقتها لأحقاب والإصرار الشّديد على محاصرتها والتّربّص بأدّق تفاصيل حياتها أصبح نوعا من الاضطهاد الواجب المتوارث الّذي يثري الشّرف ويجعل الفحولة تنتشي ممّا خلق انعكاسات سلبيّة جعلت العالم العربي لا يعي حجم التّخلف الّذي يتخبّط فيه ولا إبصار المساوئ التّي تتوّغل ضاربة في أعماقه ولا حتّى الوعي بمقدار الكارثة الحقيقية أمام ركب الحداثة والتّمدن المستمر والحثيث في رحاب العالم المتقدم.

في الحقيقة إن ما يعاب على الفكر التّحرري الموّجه كما يروّج لمناصرة المرأة هو مواصلة نفس الآليات السلفية التّي تجعل المرأة تفقد كيانها كإنسانة حرّة كاملة وفاعلة لتعود مرّة أخرى إلى بوتقة الجسد الذي من خلاله يقع التقييم الذي يرومه العقل المتشدد ويتجسّد هذا خاصّة عند وضعها في قالب البضاعة لتباع وتشترى... لينتج عن ذلك شقيّن الأوّل يتخبّط في سفورها والآخر يتخبّط في حجابها. أمّا الاعتراف بالإنسانة فيقع تهميشه أو نفيه.

إضافة إلى دمغجة المرأة بدفعها إلى اللّجوء إلى أساليب المسكنة والتّذلل عند الدّفاع عن حقوقها وذلك بإخضاعها النّفسي للتّقيّد بمقاييس وبنود مفروضة قسرا محظور تجاوزها وعدم التّحرر من التبعيّة الذّكوريّة ويبرز ذلك عند قول"اعتبرها أختك أو أمّك أو قريبتك... " وبالتّالي يكون الذّكر هو المحور والمرجع والأصل دائما. كذلك دفعها للاعتراف والرضا بسلطة مضطهديها وجبروتهم وعدم الخروج عن طاعتهم مهما بدا منهم من انتهاكات وقبول إدانة جميع تصرّفاتها حتّى لو كانت ضحيّة...

على ذلك نجد اليوم هرسلة المرأة علنا بإرغامها على الشعور الدائم بالذّنب والعيش سجينة سطوته المعنويّة وقبولها لوضعها كمنبوذة من قبل المجتمع والاستكانة لوصمة العار والخضوع لسلطان مجتمع تعاقب فيه الضّحيّة... مجتمع تعوّد أن يحمّل جنس الأنثى جميع مصائبه. وضعية تقيم الدليل على أنّه لم يتخلص من موروث البداوة التّي تسكن وعيه وتتملكه وتتحكم في كل جزئيات حياته وان بدا مجتمعا متمدّنا في ظاهره.

يخفى على العديد أن سطوة عقليّة البداوة تتملك كل مفاصل مجتمعاتنا وتحارب أي مسعى حمائي لمكتسبات المرأة وتتربّص بها في كل جزئية لتخمد أي صوت يجهر بالمظالم والانتهاكات وتسعى جاهدة لتمييع هذه المسائل الإنسانية الجادّة والانحراف بها وإشهار التشويه كسلاح فتّاك يخلق لدى المرأة الخوف والخنوع والخضوع بل والرّضا بحرمانها من حقوقها المشروعة...

من الدّجل الحديث عن إنسان متزّن أخلاقيّا وفكريّا وإنسانيا يبرر الاعتداءات على المرأة مهما كانت الأسباب ومن البشاعة أيضا تبرير الاغتصاب ومشاهدة مساندين لِلْمُغتَصِبِ دون الوعي بأنّ الاغتصاب جريمة بشعة تخص المجتمع وتزعزع أركانه وتعري حقيقته ناهيك عن عدم الوعي بمخلّفات ذلك الاستهتار على الضّحيّة. وهذا نتاج قصور كلّي بثقافة الإنسان ككل وعدم اعتبار جنس الأنثى إنسانا بقدر ماهي مادّة استهلاكيّة ومتاع يحق أن يفعل بها أي شيء...
لا فرق بين من يستخلص الفجور والعهر من صورة أو خبر أو لباس أو رأي لم يستحسنه وبين من يقوم باستغلال جنس الأنثى والتركيز على جسدها باسم حريّة المرأة وما يؤصل لعقليّة البداوة والعشيرة والقبيلة بمظهريها السّابق ذكرهما عدم ردع هذه الممارسات في حق المرأة وعدم فرض الاعتراف بأنّها إنسانة حرّة وأنّها لا تطلب تأشيرة من أحد لا على جسدها ولا على أفكارها ولا على طريقة العيش الذي ترومه لنفسها بدل أن تبقى قضيّة المرأة رهينة كورقة هشّة تتلاعب بها عقلية ذكوريّة تارة باسم الدّين وتارة باسم التحرر ولا يخرجان من بوتقة الجسد ولا يعتنيان بالإنسانة ككيان حر.

لا حديث عن مكتسبات طالما لا تجد المرأة مكانتها كإنسانة على أرض الواقع ولا تمارس حريّتها الشخصيّة فعليّا مهما كانت وضعيّتها الاجتماعية... لا حديث عن مكتسبات عندما لا تستطيع المرأة الإفصاح عن معاناتها بدون خوف ولا حسابات مسبقة.. ولا حديث عن بناء أسس لدولة ديمقراطيّة وخراطيش الكبت تطلق علنا في كل أجزاء المجتمع. فالدّولة المدنيّة الحديثة هي التّي تنشر لثقافة أن المرأة منارة مشعّة بانطفائها تتيه أجيال...
أعتقد أن بذل الجهد من أجل الاعتراف بحريّة المرأة الإنسانة والتّكاتف من أجل إعلاء مكانتها الحقيقيّة هو اعتراف أيضا بمفهوم الدّولة المدنيّة الحديثة ... اعتراف بأنّ دولة القانون وحدها تحتكر وسائل الزّجر والعقاب والرّدع. ولا غرابة أن نربط هذه المسائل ببعضها طالما نجد مجتمعا يبشر بقانون الغاب جهرا عندما يتعلق الأمر بالمرأة...طالما تُجرَّمُ هذه الأخيرة من قبل مجتمع هو بدوره خاضع لدولة يفترض أنها دولة القانون...طالما نجد إزعاجا وحصارا وضغطا معنويا على المرأة وبصورة دائمة وهي تعيش في ما يفترض أنها دولة يحمي دستورها الحريّات...

من الخطر تهميش المرأة في دولة حديثة تسمح بتوغل عقليّة البداوة التّي تنخر أسسها وكيانها ولا تسعى للنهوض بمجتمعها نحو الحداثة والتمدن.. تنخر الوعي بمعنى الدولة قبل الوصول للاعتراف بالمرأة كإنسانة. إن التردي والتخلف والجهل والرّداءة والفوضى وثقافة التناحر والتكالب نجدها دائما في ظل رقعة جغرافيّة لا تعترف بشيء اسمه إنسان.. أين تقع ممارسة قانون الغاب والتناسل من أجل عدم الاعتراف بالكيان الإنساني ككل.. ويقع التعامي عن جوهر المشاكل الاجتماعية التي تنهك أسس الدولة والاهتمام بركبة عارية أو شعيرات رأس بارزة من تحت قطعة قماش...

عقلية البداوة لا تحترم العقد الاجتماعي ولا تحترم ثقافة الاختلاف ولا شيئا اسمه الآخر.. هي عقلية يسمح الواحد لنفسه فيها بفرض ما نشأ وتعود عليه وأينما حل حلت عقلية البداوة التي لا تعترف بحقوق المرأة او حتى حقها في الوجود.
لو عاشت عقلية البداوة بحريّة وبدون رقيب ولا حسيب بأرقى الدول المتقدمة فأوّل خراب تنتجه هو محاصرة شذى الورود بدعوى الفتنة والابتهاج بانتشار أكداس الزّبالة ....
عقليّة البداوة هي من تتربص بحياة الأفراد وتحاول إخضاعهم لثقافة قوالب قبلية عفنة ورثوها من عهود غابرة كالحة وهي من تمارس الإرهاب النفسي وتبارك تخريب كيان المرأة الإنسانة.. عقليّة البداوة تفسد جميع مكوّنات الدولة لتستبدلها بالعشيرة وهي من تشد الخناق على أي بوادر تحررية وهي من تشوش المفاهيم وتفرض محاصرة المرأة والحرية التي ترى فيها بكل مضامينها انفساخا وانحلالا وتمارس شتى أنواع التنكيل بالغير و يطلق عنان الكبت ليختصر كل هذا في فخذ امرأة...